أصل الشايقية من منظور اللغة المروية

 


 

 

 

الشايقية

(من كتابي: مملكة مروي سياحة تاريخية ولغوية بين حلقات الذكر والإنداية)
د. مبارك مجذوب الشريف

تضاربت الآراء حول أصل الشايقية، ويرى أبو سبيب أن (آراء بعض المؤرخين حول أصل الشايقية أقرب للأساطير منها إلى فرضيات تاريخية مدعومة بأسانيد يمكن البرهنة عليها). واستعرض أبو سبيب ما قدمه عبد المجيد عابدين في مقدمة ترجمته لكتيب نكولز ( الشايقية) من فرضيات عن الموضوع، فمن تلك الفرضيات ما يراه ترمنغهام مثلاً أن الشايقية ربما كانوا في الأصل من البجا، أما ماكمايكل فيقول أن من المحتمل أن فريقاً من هذه القبيلة كان في الأصل من بقايا الجنود المرتزقة من الترك والألبان والبشناق الذين كانوا يؤلفون الحاميات والحرس في بلاد النوبة منذ غزو السلطان سليم العثماني عام 1517، أما الرحالة فرن الذي زار السودان في العام 1840-1841 فيرى أن الشايقية كانوا في الأصل طبقة من المحاربين المصريين القدماء. ويستطرد أبو سبيب بالقول إن عبد المجيد عابدين في ختام تعليقه على هذه الآراء يرجح – ربما متأثراً بميوله العروبية – أن هذه الطبقة المحاربة ربما كان أصلها من الآراميين الذين كانوا يعملون في مصر جنوداً مرتزقة في عهد بسماتيك الثاني وكانوا قد أوكلت أليهم مهمات عسكرية في المنطقة الجنوبية).
ويسخر أبو سبيب من مجمل هذه الآراء ويرى (أنه في غياب الدراسات المتخصصة يمكن تجميع أكبر قدر من الافتراضات وبناؤها على ما ينتقيه الباحث من شواهد يرى فيها دعماً لرأيه، إذ يمكن مثلاً الافتراض بأن الشايقية لا بد وأن لهم أصول (أو بعضها) في قبائل غرب افريقيا، ذلك أن قبائل أويو وايدان وقبائل أوو، وابيوكوتا من نيجيريا لهم نفس شلوخ الشايقية، عددها ووضعها الأفقي ومظهرها. ويمكن الاستدلال أيضاً بأن أفراد هذه القبائل يأتون ضمن قوافل غرب افريقيا في طريقها إلى الحج عبر السودان ومنهم الكثيرون الذين استقروا في القطر) ( ).
هذه بعض الآراء التي ناقشت أصل الشايقية، ومن اللافت للانتباه أن أكثرية المؤرخين على تباين اصولهم وخلفياتهم الثقافية كانوا يشيرون بطريقة أو بأخرى للطبيعة العسكرية للشايقية وهي سمة لا زالت تحتفظ بها هذه القبيلة.
تبنى النسابون نسباً يربط قبيلة الشايقية بالمجموعة الجعلية والتي يُفترض أنها تنحدر من العباس عم الرسول (ص)، لكن نقش كلابشة يشير لوجود قديم لهذه القبيلة، وتاريخ النقش يعود للقرن السادس الميلادي أي قبل ظهور الإسلام بقليل. ومن الملفت أن النقش يُشير أيضاً للطبيعة العسكرية للقبيلة وأنهم محاربين دخلوا في صراع مع ملك البليميين وقد خسروا المعركة. وترد كلمة (شاقا) في السطر الثاني عشر من النقش كالتالي:
12-اللاك تم هزيمتهم، والشاقا تم دحرهم وهزيمتهم، والناشدوك تم هزيمتهم، والتاميا (جماعة ليبية) تم دحرهم وهزيمتهم والنخابر تم هزيمتهم ودحرهم بالكامل.
وفي السطر الخامس عشر من النقش ورد:
15-ونساء الشاقا الطيبات شكرن والتمسن رفع مقامهن.
هذا النص يشير بوضوح إلى الاسم القديم والأصلي للشايقية وهو (شاقا) Shq: وتنطق shaqa، وذلك قبل اكتسابه الصيغة العربية، ولحسن حظ هذا الاسم فقد وجد ما يقاربه في اللغة العربية مما سهّل مهمة تعربيه ودمجه بمساندة قواعد النحو والصرف العربية، فالشائق في معاجم اللغة العربية هو المشتاق، والشائق هو الممتع الجذاب ما يشوق الناس بجماله وحسنه. وجاء في لسان العرب: شاقني الشيء يشوقني، فهو شائق وأنا مشوق.
مشكلتان لغويتان واجهتا الاسم، الأولى: أن شايق تكتب وتنطق دون همز وشائق المعجمية مهموزة، لكن المخرج اللغوي موجود، فالهمز -ويسمى أحيانا النبر -لغة تميم في منطقة نجد والتسهيل لغة قريش والحجاز عامة، وهي السمة الغالبة لهم، ومن أمثلة ذلك أن كلمة (بئر) تنطقها تميم مهموزة، بينما تنطقها قريش مسهلة (بير). فليكن شايق إذن مسهلاً كما في لسان قريش. اما المشكلة الأخرى التي لم تتمكن قواعد النحو العربية من حلها فقد تٌركت دون حل. وهي أن الجمع (شايقية) لا يجد الاعتراف به من قبل جمع المذكر السالم وفيه (شايقيون) صيغة صحيحة للجمع، ولا جمع التكسير والذي تقاعس عن تقديم المخرج المناسب، فلا مفر إذن من القبول بكلمة (شايقية) كما هي جمعاً لشايقي، مثلما جرى من قبل قبول اتراك جمعاً للمفرد تركي عوضا عن تركيين، وهنود في محل هنديين. علماً بأن صيغ الجمع الحديثة لبعض العاميات العربيات تُجيز ذلك، فهناك على سبيل المثال فلسطينية جمعاً لفلسطينيين ويمانية جمعاً ليمنيين واسكندرانية جمعاً لأسكندريين.
ما هو موقع اسم شاقا نفسه في اللغة المروية؟
الاسم مكون من مقطعين: شا – قا sh(a)-qa
Sh(a): الحامي، المساند، يقدم الحماية، يقدم المساندة patron: to protect, to support
q(a): يصنع، يشكل، يفعل، يبدي رغبةmake, form, act, to desire.
وبالنظر لكلمة الحامي (patron)في قاموس ماريام ويبستر ( ) نجد معناها:
A person chosen, named, or honored as a special guardian, protector or supporter.
شخص جري اختياره، أو تسميته، او تشريفه ليكون حارساً أو حامياً أو مسانداً خاصاً.
وبالتالي يصبح مجمل معنى كلمة (شاقا) اعتمادا علىact هو من (يفعل/ يعمل/ يقوم) بأعمال الحراسة الخاصة أو الحماية الخاصة أو المساندة الخاصة.
على ضوء هذا يمكن أن نستنتج أن هؤلاء الشاقا المختارون ربما كانوا مكلفين بتقديم حراسة أو حماية أو مساندة ما ذات صفة خاصة في الدولة المروية نجهل طبيعتها، فربما كانوا يشكلون قوات الحرس الشخصي للملك، أو شرطة خاصة، أو جهاز استخبارات، وهذه الأدوار تتماشى مع الطبع العسكري المعروف للقبيلة وأن هذا التراث لديها قديم للغاية.
والسؤال هو: ما المنعطف الذي تحول فيه اسم شاقا من وظيفة عسكرية الطابع ليصبح جداً عربياً للقبيلة تحت مسمى شايق؟
نقطة الانطلاق هي معرفة متى عاش شايق. وبالرجوع لنسب أحد ملكوك الشايقية وهو الملك جاويش الكبير والذي ولد في حوالي عام 1738م، يمكن التوصل بصورة تقريبية للعهد الذي عاش فيه شايق، فالملك جاويش الكبير هو ابن الملك محمد سميح بن الملك علي بن الملك محمد العادل بن الملك صالح بن محمد كدنقا بن شايق بن حميدان بن صبح أبي مرخة. الخ. أي يفصل بينه وبين شايق خمسة أجداد وشايق هو السادس. القرن من الزمن يمكن أن يضم في المتوسط ثلاثة أو أربعة اشخاص من نفس العائلة، فاذا أخذنا العدد ثلاثة كمعيار سيكون لدينا 198 سنة، أي ثلاثون وثلاثون عاما لكل شخص مضروباً في عدد ستة اشخاص، وإذا أخذنا الأربعة كمعيار ثانٍ سيكون لدينا حوالي 150 سنة، ومتوسط المعيارين 174 عاماً.
وإذا طرحنا هذا المتوسط من ميلاد جاويش سيكون لدينا العام 1564م باعتباره تاريخاً لميلاد شايق، وهناك روايات غير موثقة تشير إلى أن ابنه كدنقا كان معاصراً لعمارة دنقس وعبد الله جماع، فاذا اعتمدنا هذا الطرح فمن الجائز أن يكون ميلاد شايق في منتصف القرن الخامس عشر حوالي عام 1450م.
وفي رواية الفحل ( ) يُشير إلى أن حميدان والد شايق وأخيه غانم (أحد اجداد الجعليين) توفى عام 935ه الموافق 1528م، وعلى هذا فلو افترضنا أن شايق عند وفاة ابيه كان عمره عشرين عاماً فسيصبح تاريخ ميلاده هو عام 915ه الموافق 1508م، ولو كان عمره أربعين سنة عند وفاة والده سنجد ان ميلاده سيكون عام 1488م ولو كان عمره سنة واحدة سنجد أن ميلاده سيكون عام 1528م، وفي كل هذه الافتراضات سنجد ان اقل تاريخ ممكن لميلاد شايق هو عام 1450م واقصى تاريخ هو عام 1564م. هذه الصورة التقريبية تعطينا ملخصاً عن فترة حياة شايق والتي تنحصر بين منتصفي القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر.
يورد ود ضيف الله في كتاب الطبقات: (وفي اول النصف الثاني من القرن العاشر ولى السلطان عمارة أبو سكيكين الشيخ عجيب المانجلك، ففي اول ملكه قدم الشيخ إبراهيم البولاد من مصر إلى ديار الشايقية ودرس فيها العلم، وخليل والرسالة) ( )، والنصف الثاني من القرن العاشر الهجري توافق بدايته عام 1543م، والسؤال هو: هل قام شايق بتأسيس كل هذه القبيلة كبيرة العدد في بحر خمسين او ستين سنة، وهي مجمل المدة التقريبية التي يتمكن فيها الرجل من الإنجاب؟
فلو افترضنا أن ميلاده في العام 1450م وانه تزوج في عام 1470م وظل ينجب لمدة خمسين عاماً والروايات المتواترة تقول أن عدد ابنائه اثني عشر ابناً، وأن كل واحد من هؤلاء انجب خمسة عشر ابنا؛ فسيكون لدينا في عام 1520م حوالي مائتي شخص؛ وإذا حسبنا بعض الأحفاد من الجيل الرابع والزوجات فسيكون لدينا عدد افتراضي هو ثلاثمائة شخص، ولو ضاعفنا العدد وقت وصول الشيخ إبراهيم البولاد عام 1543م فسنحصل على ستمائة شايقي، وهو عدد يشكل في أفضل الأحوال سكان قرية صغيرة، هذا بينما نجد أن ود ضيف الله يتحدث عن (ديار الشايقية)، فهو لا يتحدث عن دار واحدة بل ديار، أي منطقة جغرافية بمساحات واسعة وبها عدد معتبر من التجمعات السكانية في شكل قرى صغيرة وقرى كبيرة وشبه مدن، مما يعنى أن هذه التجمعات لا يمكن ان تكون نتاج رجل واحد. وهذا مما يُعزز الافتراض أن اسم (شايقية) كان موجوداً أساساً قبل شايق وليس العكس.
الشاهد المذكور في نقش كلابشة يشير إلى أن جماعة الشاقا (أو قبيلة الشايقية بالمصطلح الأبوي) قديمة جداً، فلو اعتبرنا تاريخ النقش والذي يعود تاريخه للعام 580م، أو ما قبله بقليل؛ تاريخاً لظهور هذه الجماعة سيكون لدينا حوالي ألف وخمسمائة عام، ولا شك انهم كانوا موجودين قبل تاريخ النقش بفترة طويلة، لذا يمكن القول بصورة تقريبية وفي أسوأ الفروض ان هذه الجماعة لها وجود تاريخي لا يقل عن الفي سنة تقريباً من وقتنا الحالي. وبالتالي فان الزعم بأن شايق الذي عاش ما بين منتصفي القرن الخامس عشر والسادس عشر؛ هو نقطة الانطلاق؛ سيجعل عمر القبيلة حوالي خمسمائة عام، وسيُسقط من تاريخ جماعة (الشاقا) أو قبيلة الشايقية فترة زمنية طويلة جداً هي العمود الفقري في عراقتها وأصالتها.
هناك ملاحظة أخرى هي ان أسم شايق ليس حياً في العقل الجمعي للقبيلة باعتباره الأب المؤسس، إذ يندر وجود اسم شايق ضمن الأسماء ذات الصفة التكرارية في القبيلة، قد تظهر أحيانا أبيات شعرية تمجد فرسان القبيلة وتصفهم بأنهم (عيال شايق) لكن هذا لا يعدو أكثر من كونه مجاراة لأشعار القبائل الأخرى التي تنحو نفس النحو، كما أنها تجيء بعد رسوخ نظام التسلسل الأبوي.
يمكن تلخيص الموضوع في أن (الشاقا) مجموعة من الناس جاء اسمها من طبيعة مهام كُلفت بالقيام بها بصفة خاصة واكتسبت منها لقباً شرفياَ، ثم جاء زمن لم تعد فيه الوظيفة الأصلية قائمة؛ ولكن اللقب المرتبط بها ظل حياً، وكل واحد من أفراد هذه الجماعة يحمل أسم أو لقب (شاقا)، وحين أخذت مسيرة التعريب مجراها أصبح لدينا شاقي لوصف أحد أفراد هذه الجماعة، ومنه جاءت شايقي. ومالت الجماعة وهي في طريقها للانتقال للنظام الأبوي إلى استخدام لقبها الشرفي والذي كانت تمتاز به زمناً طويلاً (شاقا) فقامت بخلعه على الحاكم محمد بن حميدان بن صبح أبي مرخة، من العباسيين، واعتبرته الجد المؤسس المُفترض، حسب مقتضيات النظام الأبوي الجديد، وقدمته كحل لمشكلة البحث عن انتماء. وسنبين ذلك في فصل آخر.
وخلافاً للشاقا فهناك جماعات ليس لها سمة مميزة أو لقب أو وظيفة متوارثة من العهود المروية القديمة، لذا جرى حل المشكلة بتقديم أسم مكان الإقامة أو القرية باعتباره الجد المؤسس المفترض للجماعة، ويحدث هذا بإضافة المقطع آب لأسم المكان، وهذا ينطبق على التجمعات السكانية القديمة، فاذا كان اسم القرية أساساً هو (ص)؛ فسيكون سكانها (الصاداب)، وبما أنهم صاداب فلا شك أن جدهم المؤسس هو صادي، والقرية إنما نشأت على يد هذا الجد المفترض، وستظهر اسطورة تبرر اسمه؛ وتفيد أن الصادي هذا ليس أسمه الحقيقي؛ وإنما هو لقبه والذي جاء بعد (صده) منفرداً لهجوم قام به الأعداء حيث ولوا مدبرين. ولن نعدم من يقول إن (صادي) خطأ وأن صحة الاسم هي (ساطي) نسبة لسطوته وشدة بأسه، وإن الاسم الأصلي للقرية هو (الساطاب) وحُرَّف الاسم بعد ذلك.
هذا التصور لا ينطبق بالطبع على القرى والتجمعات السكانية والمجموعات القبلية التي جاءت في فترات متأخرة بعد استقرار الأمر للنظام الابوي، فهي بلا شك تحمل أسماء مؤسسيها الحقيقيين، لأن الأسلاف هنا كانوا موجودين فعلاً على ارض الواقع؛ ولا حاجة لافتراضهم أو استعارتهم من صفة أو وظيفة أو محل إقامة.
ثم تأتي خطوة ثانية وهي تجميع الأجداد المفترضين في شجرة نسب ومن مجموع شجرات النسب المتعددة يصبح لدينا قبيلة ينتهي نسبها في العادة عند أحد الصحابة. وقد تكون هناك خطوة إضافية في بعض الحالات هي تجميع عدة قبائل فرضت الضرورات العملية كالجوار أو المصالح الاقتصادية، او التحالفات العسكرية، أو المصاهرة ضمها لسلسة النسب فيصبح هؤلاء بني عمومة أو مجموعة كبرى. ونسبة لارتباط شايق بالجعليين سنقدم في الحديث عن الجعليين تصوراً لكيفية وصول شايق لديار الشايقية؛ والتي كانت موجودة أساساً قبل وصوله كما جرى شرحه. وتقديم إجابة على السؤال ما المنعطف الذي تحول فيه اسم شاقا من وظيفة عسكرية الطابع ليصبح جداً عربياً للقبيلة تحت مسمى شايق؟


nakhla@hotmail.com

 

آراء