أفارقـة ضـدّ أنظـمـة انقـلابـيــة

 


 

 

(1)
جاء في الأنباء أن منفذي الانقلاب العسكري في النيجر أصدروا قراراً في الثالث من أغسطس 2023م ، بإنـهاء مهمّات سـفراء النيجـر المعتمدين في كلٍّ من فرنسا والولايات المتحدة وتوجو ونيجيريا ، في وقت تتصاعد فيه الضغوط الدولية والإقليمية من أجل عودة النظام الدستوري إلى البلاد .
ليستْ هذه هي الحالة الأولى التي تنهى فيها مهمات سفراء معتمدين من طرف انقلابيين ينقلبون على نظـام الحكم القائم بليـل. إذ في حالة الســـودان، وبعد وقـوع انقــلاب الجـنــرال البرهان في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2021م، على حكــومة اختيــرت وفـق اتفاق وطـني انتقــالي، وبموافقته كرئيس يمثل سـيادة الدولة، بصفة مؤقتة، إثر ثورة شــعبية أطاحت بحكـم الطاغية البشير عام 2019، فاجأ الجنـرال بالتنصل من مقررات ذلك الاتفاق الدستوري وأنهى حكومة انتقالية فانتفض الشارع السوداني ضده. لمّا وقف عدد من السفراء المهنيين ضد تلـك الخطوة الانقلابية، قرر انهاء مهمات عدد من السفراء السودانيين في الخارج. ممن عارضـوا انقلابه على الوثيقة الدستورية التي تحكم الفترة الانتقالية والتي كانت تعـدّ لإدارة فترة انتقالية في البلاد، تعقبها انتخابات قومية تجري وفق دستور وطني مؤقت يرسي دعـائم حكــم ديمقــراطي راسخ.
بدا لكثيرٍ من المتابعين للأوضاع في القارة الأفريقية مؤخراً ، أنّ معاملة السفراء- خاصة المهنيين منهم وليس الذين يجرى تعيينهم ســياسـياً- على هذا النحـو، هي من الظواهــر التي اسـتجدتْ بصورة لافتة إثر كلّ انقلاب في نظام الحكم في دول تلك القارة.

(2)
يمثل السفراء دولهم وفق قواعد نصّت عليها الاتفاقيات الدبلوماسية والقنصلية المعتمــدة، وهم من تبعث بهم دولهم وفق اجراءات وتقاليد مرعية ، تحدد امتيازات البعثة الدبلوماسية التي تمكن أولئك الدبلوماسيين من أداء وظائفهم دون خوف من الإكراه أو المضايقات. ويجوزلـلدولة الموفدة أن تنهي مهمة سفرائها وفق المادة 43 من اتفاقية فيينا المشار إليها.
لعلّ المعروف أن اتفاقـية فيينا للعلاقات الدبلوماسية السارية منذ عام 1961م هي التي تشـير إلى أن الســفراء ترشـحهم دولهم ، غير أن الملاحظ أن الاتفاقية لم تورد تعريفاً مفصلاً إن كانت رئاسة الدولة حصراً، أم الحكومة الشرعية القائمة أو من يمثلهـما ، هي من ترشــح السفير ليعتمد في الدولة التي يبتعث إليها، أو هي من لها صلاحية انهاء مهمته. غـياب ذلك التفصيل ذلك هو الذي فتح الباب لـتساؤلٍ مشروع، وأثار شـكٌّ حول الجهة التي ترشح السفير أو تنهي مهمته ، وهـو ما قد يشغل سـفراء البلدان التي تقع فـيها تغييرات في حكوماتهم عن طريق انقلابات العسكرية لا تكتسب حسب نظرهم، الشرعية اللازمة ، كما هو الحال الذي ساد في السنوات الأخيرة في عـدد من البلدان الأفريقية.

(3)
ولضبط الأوضاع في البلـدان الأفريقـيـة التي تقع فيها انقـلابات عســكرية ، فـإن للإتحــاد الأفريـقي من الإجراءات التي أقرّت بإجماع قـيادات القارة ، تهــدف إلى الضغط لإعــادة الأنظـمة الشـرعية القائمة ، بما تحــدده مفوضية السلم والأمن التابعة لذلك الاتحاد. من بين تلك اإجراءات ، أن يعمد الاتحاد الأفريقي إلى تجميد عضوية الدولة العضو التي يقع فيها انقلاب عسكري على الحكومة الشرعية القائمة.
أما بالنسبة لهيئة الأمم المتحــدة، فلا يوجد نص قاطع بشأن حـالات اعتماد ســـفراء تقـع انقلابات عسكرية في بلدانهم، ولا نسمع إلا إدانات إعلاميـة تصدر عن قيادة تلــك المنظمة ، ســواءً من الأميـن الـعـام أو من مجلــس الأمن. ويمثل اعتماد تمثيل دبلوماسي على مســتوى المندوبين الدائمين لكلٍّ من ميانمــار وافغانسـتان، حالتين مثيرتيـن للجــدل لدى لجـنـة قـبـول الترشيحات في الأمـانة العامة للمنظــمة الدوليــة. أما حـالة اعـتمـاد ســـفـير/مــنــدوب دائـــم للسـودان في نيويورك، أو سفير/ مندوب دائم في جنيف ، فقد مثلت حالة استــثنائية ، بسبب وقــوع انقلاب لم يتغيّـر فيه رأس النظام في الخرطــوم، فلم تجد المنظــمة الدوليــة حـرجـاً في اعتماد وجهــة النظر القانونية التي تقول بأنّ تعيـين ممثل للسودان في جنــيـف جاء كتصرّف داخــلي مـن قيادة سـلطة الأمر الواقع القائمة في الخرطوم ورأت أن لا غـبار عليه في انهاء أو ترشيح سفير/مندوب دائم بديل في نيويورك، أوقبول ترشيح قائم بالأعمال بالانابة مكـان السفير المندوب الدائم في جنيف. ورغم ذلك يظل الجدل يحيط بالموضوع .

(4)
غير أنَّ حالة سُـفراء النيجـر الذين أنهى الإنقلاب العسكري مهامهم أوائل أغسطس/ آب الحالي، فهم عارضوا انقلاباً أزاح رأس السلطة الشرعية المنتخب ديمقراطياً في بلادهم، فذلك قـد يرجّـح قبول الدول التي جـرى اعتمادهم فيها، خاصة تلـك التي أدانت ذلك الإنقــلاب في الاستمرار في أداء مهامهم، دون الالتفات لقرار الانقلابيين، وذلك في إطار الضغـط الجاري حالياً ليعــود العســكريون إلــى ثكناتـهـم، ليعــود الرئيس الشرعي للنـيجــر إلى الحكم مــن جديد.
ثمّة وجهان في الأمر ، أولهما سياسي والثاني أخلاقي . لربما يكون الخيــار للسفير أو الدبلوماسي الـــذي يعارض انقـلابا على نظام حكـمٍ شرعي قائـم في بلاده- حســب تقــديــره- أن يبادر بمغادرة مهمـته، كأن يطلب إعفاءه من مهمته، أو ربما يتقــدم باســتقالته للحكومة التي جـاءت عبر انقلابٍ لا يتوافق مع قناعاته السياسية. لكن أليس مطلوباً من ذلك السفير أو الدبلوماسي، أن يمضي خطوة إلى الأمام ليعـلن موقفه الســياسي المعارض ، وأن لا يكتــفي بمجرّد الاســتقالة؟ أو ربما تتسع خياراته في أقصى الحالات، فيتـبـنى موقفا سياسياً وأخلاقيا ويعلن إدانته الصريحــة لذلك الانقــلاب ، بما قد يعـني انقطاعــه عن مهنـته الدبلوماســـية نهائيا . .؟

(5)
لننظر في مثل أكثر وضوحاً وإبانة ويتصل بالموقف البريطاني من الحرب ضد العــرق في عام 2003م . كان لبعض ســفراء الخارجية البريطانية، مواقف لم تقبل بقرار الحرب ضد العراق بذريعــة امتلاك النظام العراقي لأسلحة دمار شامل كما ادعت الإدارة الأمريكية . لــم يعلن أولئك الســفراء عن خطل موقــف بلادهــم إلا بعــد أن تقـاعــدوا عن مهـنـتهـم ، فكانت أصـــواتهم عالــية.
الحالة الأمريكية كانت أشـدَّ غـرابة. السـفير الأمريكي الذي عمل في بلد أفريقي، اتهمتْ واشنطن نظــام العــراق بحصوله على يورانيوم منه، بعد تقاعده ، كلفته المخابرات الأمريكية بزيارة ذلك البلد الأفريقي ، للتأكد من قيام العراق باستيراد "الكيكة الصفرا" - اليورانيوم ، من تلك الدولة . كذب الرجل القصة، ولكن تكتمت الإدارة الأمريكية على تقريره الرّصين وأصرَّت على التهمة المزيفة. لكن بعد القضــاء على نظام صدام في العــراق، خرج للعلن وفي صحف أمريكية بأن الأمر محض أكذوبة.
شريط سينمائي خطير جاء من هوليوود، بعنوان "اللعـبة المموّهـة" بنيـت حبكـتـه علـى حقــائق جاءت من سـفير أمريكي سابق حول التقصي حول استيراد يورانيوم من النيجـر- أجل النيجر الذي نقف على قصة انقلابه الآن. أثبت الشريط الهوليوودي أن الرجل أثبت عــدم وقوع أي علاقة للعراق بتلك الدولة الأفريقية ، لكن أخفت الاستخبارات الأمريكية المعلومة. لتنطلي التهمة الملفقة على المجتمع الدولي، فكانت المبرّر للحرب على النظام العراقي. .

(6)
لعلَّ مثل هـذه الظواهـر، خاصة في التمثيل الدبلوماسي في المنظمــات الدولية والإقليمية، والتي تكرر حدوثها في الحالات التي أشرنا إليها عاليه، قد تحيل المنظمات الدولـية و الإقليميـة إلى ضرورة النظر مجدداً في الحاجة الملحّـة لمراجعة بعض ضــوابط التمثيل الدبلوماسي على المستويين الثنائي والجماعي ، وســد تلك الثغــرات بمـزيدٍ من إحكامٍ قانونيٍّ في بعض مـواد اتفاقية فـيـيـنا للعلاقات الدبلوماســية لعام 1961م، والتي تم توقيعها منذ عقــود خلتْ ، مــن قبل الدول الأعضاء قي الأمـم المتحدة.

أغسطس 2023

 

آراء