أفي حقه يُصْدَرُ ” الصَّك ” ؟

 


 

 



(1)
كلُّ يومٍ لكَ احْتمالٌ جديدٌ .. ومَسيرٌ للمجدِ فيهِ مقامُ
وإذا كانت النُفوسُ كِبارا.. تَعِبتْ في مُرادها الأجسامُ
وكَذا تطلعُ البدورُ عَلينَا .. وكَذا تَقْلَقُ البُحورُ العِظامُ
المتنبي
(2)
داخل الحرم . جاءت به عُمرة . منها مُتكأ للعبادة ومنها أن يجد عملاً أو مكاناً في المهاجر الواسعة . كانت أرض النبوة ومهبط الوحي هي قبلته . فقد كان نضراً بهياً سُنياً كأهلنا في السودان . يعرف كيف يحيل طقس الجلوس في المآتم إلى دوحة للفقه الإسلامي السُني . يقول بيُسر : أن نحول جلوسنا إلى دوحة علم نؤجر عليه .
(3)
يبدأ الحلقة الدراسية حين يقول  :
حدثنا علي بن حجر حدثنا إسماعيل بن جعفر حدثني عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن أبيه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من يرد الله به خيراً يفقهه في  الدين )وفي الباب عن عمر وأبي هريرة وهو حديث حسن صحيح .
ثم يعرّج بالصلاة على النبي  والتسليم و يفتتح الحلقة بأي سؤال من أحد الحضور ، فهو يجيب بما يتيسر  ويقدم الأدلة  من مراجع الفقه السني ، وعدد من المصادر التي بنى عليها  روايته وحكمه .
(4)
تخرّج هو  من كلية  القانون بجامعة القاهرة فرع الخرطوم في السبعينات  ، ولكنه عمل موظفاً في الإسكان . اعتاد زيارة المساجد ، فروحه معلقة بها . وتوقف كثيراً عند حلقات الدراسة في الفقه والتوحيد وفي علوم القرآن والحديث في مسجد الخرطوم الكبير. واستهواه الأمر. وعلم أن الدراسة في المساجد سُنة قديمة قِدم التركية السابقة، منذ أيام " المعهد العلمي " القديم . وكيف انتشر علماؤه في حلقات بمجالسهم ، للعامة والخاصة . أذكر منهم جَدي الذي تعلمت في مجلسه  " متن العشماوية " في أول الطريق، ونحن في أيام الطفولة الأولى، فقد ورث هو ذات التراث الذي ورثه لاحقاً صديقنا صاحب المقام الذي نفتح  سيرته العطرة !.
(5)
التزم في كل أوقات فراغه أن يبدأ الدراسة المنهجية من الصفر . فقد صرّح بأنه كان يعيش شبابه في جاهلية القرن العشرين ، كأنه يعلن إسلامه أول مرة  . أعاد التدرج في المعرفة  بمناهج السنة من أشجارها والأفرع الأزهرية  والتقليد والهوى . ودرس منهاج الأئمة الأربعة ، وقبض على ناصية اللغة العربية . فتعودت حُنجرته المخارج الصحيحة في المدّ والإدغام والغنَّة والتشديد والقلقلة  والتفخيم والترقيق. طاف بتجويد النصوص القرآنية  على رواية ورش عن نافع السوسي عن أبي عمرو حفص عن عاصم الدوري عن الكسائي وكذلك حفظ القرآن على رواية قنبل عن ابن كثير ابن ذكوان عن أبي عامر خلاد عن حمزة . فتعود لسانه مذاق الذكر الحكيم وحلاوة تلاوته. واصطرع مع ماضيه الهائم على وجهه، وهزم الطبع وروضه. وصعد في علوم الدين درجة ثم درجات ونال مُبتغاه . ضَمُر جُرمه ، وظهرت اللحية بوصة ترتفع عن بشرة الذقن . اعتادته الجلباب القصير والعمامة . وله مراجع إن سألته عن قِصَر الجلباب وكشف " عظم الشيطان " فلك أن تنتظر آراء فقهاء مدارس العلم السني . فلا تعجل بالسؤال إن لم يكن لك متسع من الوقت لتسمع الرد.
(6)
أجازه علماء مسجد الخرطوم الكبير . فصارت له مكانة في القول وفي الحكم وفي المشورة  . ووصلت به شجاعته ، أن يقول لك تفاصيل في أمور الدين  والفقه ، وإن سألك سائل فقل له قال بها " نصر الدين " ، يعني نفسه .
دخل امتحاناً أيام الإنقاذ الأولى لضباط الشرطة الجامعيين ، فكان أولهم . صرع كل الحيل التي بسطتها الإنقاذ لاختيار المتدينين. وبهرهم بسعة إطلاعه ، فكانوا معه المسئول أعلمُ من السائل ، وانتصر  . كانت المُعضلة في إزالة " شعر الذقن " . وفي ذلك الزمان لم تتغير النُظم ، وقفل راجعاً يتحسر أن أولئك لا يعرفون قيمة  نهج " السنة " كما ينبغي  . اجتمع والده بنا وكان رجلاً تقياً وسطياً ، مثل أعمامنا ،فالتوسط  عندهم من الفطرة ، كالحليب شراب العافية .
قال لي والده " محمد "  :
-    " ماذا لو تحدثون صاحبكم  في حَلَق شعر الذقن ليكتمل تعينه ؟"
(7)
انعقدت المجالس ، فكان علو شأنه في حُجج الدين أكبر من محاوريه . واستسلم هو  بعد أن جلس للصفاء مع نفسه طويلاً . وتم تعيينه نقيباً في الشرطة ، ولم يمر زمان حتى صارت الذقون تنبت في أوجه كل رجالات الشرطة والقوات المسلحة . فقدت ابتدأ زحف الإسلام السياسي على المؤسسات. واسترجعَ عقيدته القديمة  التي هَدَته ذات زمان إلا أن تنتصر لحقه والسنة التي بها تمسك. وعاد " الذقن " مكانه .
بدأت الإنقاذ برنامجها بخطى وئيدة . استبقوا الشريعة بأن أشاعوها أولاً لاختبار الرأي العام حولها . وما كان هو من المتعصبين إلى أن قللوا الشقة ما بين زمن الاختبار والتطبيق . وهجموا على الدولة بالقوانين النافذة  ، مهما يكن رد الفعل .
(8)
برز خلافه معهم أول ما برز  بشأن ما أسموه بالفدرالية  وأن للجنوب قضية أخرى داخل الدولة الإسلامية . فكانت القضية  لديه هي أن الأرض لله وأن الإسلام بالغ مرماه : إما الجهاد أو الجزية لمن بقي على دينه . فليست هنالك فيدرالية في الفقه .
اشتد ساعده وجاهر أهل الإنقاذ ، ولا يجد سانحة إلا ويقول قولته في الفدرالية وعبثها بأصول الدين والعقيدة . وكان آخر المطاف  مما ليس له من بدّ ، فقد أضحى  متشدداً وبقاؤه في الخدمة النظامية تمثل مخاطر حقيقية على برنامج الإنقاذ السياسي ومشروعهم الثعلبي . أحيل إلى التقاعد . وحمد الله أن لم تعُد هنالك من تقيَّة  تقف دون رأيه الصراح في الدين وفي الدنيا .
(9)
قضية  الهرطقة  هي وقوفه في الحرم يتحدث في أمور الدين ويشرح  ، ومن حوله مجموعة من العامة وهو يتحدث عن الذات الإلهية  في تفسيره  عن قصة مريم ونفخ الروح في الآية :{وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } (الأنبياء91 ). و أورد هو عن الجلالين كيف أن جبريل  نفخ في جيب درع مريم  فحملت بعيسى (وجعلناها وابنها آية للعالمين) الإنس والجن والملائكة حيث ولدته من غير فحل.
(10)
كل الذي يُعرف أنه أُخِذ من باحة الحرم ، ولا أحد يعرف مكانه . تم الاتصال عن طريق الخارجية .  وعلموا أن أمره في الصراط . ليس في الأمر أي تدخل ممكن. فقد تم القبض عليه في جريمة " الهرطقة " !.وهو موضوع لا شفاعة فيه . ليست شكوى في عرض الدنيا الزائل ، بل في أس العقيدة وأركان الإسلام . وهذا أمر يختص بولايته " مجلس العلماء القضائي " الذي سوف  يُعرض عليه المُتهم الذي يحاول انتهاك حرمة العقيدة  في أطهر أماكنها . وتلك مأدبة دسمة للأرثوذوكسيين . ما أجملها من لذة تلك التي يحاورون  فيها من مسّ العقيدة وأعمل فيها التشويه لأمرٍ عقدي ليس للإنسان فيه من قول . أحضروه من الحرم إلى السجن . لبث شهراً في انتظار  مجلس العلماء أن يفرغ من القضايا التي تنتظر  .
جاءوا به إلى المجلس وكانت التهمة " الهرطقة " والقضية أنه عبث في تفسير قصة مريم  (فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا ) ، وتجنى على الذات الإلهية . والحكم في حالة ثبوته  وهو قطع الرأس بالسيف الفضي ، ويشهد التنفيذ طائفة من المسلمين . حيث يمنع التصوير ، وينفذ الحكم بعد صدور " الصَّك " . ويكون الميعاد من بعد صلاة الجمعة .
(11)
انعقد "المجلس القضائي " وجيء بالمتهم . تلاوة الاسم كاملاً والجنسية والتهمة موضوع المحاكمة . وسألوه ما قولك في التهمة الموجهة إليك أنك أفسحت لنفسك أن تشرح لنا كيف صورت  نفخ الله جلت قدرته روحه في مريم أم المسيح ؟
(12)
رد  صاحب الملف المتهم بالقضية الكبرى :
نبدأ بمصطلح "النفخ "في اللغة ومن  مرجع المعجم الوسيط :
نَفَخ نفخاً : أخرج منه الريح .
ويقال : نفخ في البوق أو اليراع أو نحوهما : بعث فيه الريح بقوة من  فمه ليحدث صوتاً  . ويقال نفخ الشيطان في أنفه : عظَّمه في نفسه . ونفخ : تطاول إلى ما ليس له . ونفخ الشيء : أطاره بفيه ودفعه عنه . ونفخ النار بالمنفاخ : هيجها وأذكاها بريحه . ونفخ الطعام ونحوه فلاناً : ملأه . ويقال : نفخ شدقيه أو حِضنيه : تعاظم وتكبر . نَفَّخ بفمه : مبالغة في نفخ . انتفخ الشيء : علا وارتفع . المنفاخ : ما ينفخ بهم نافخ الشيطان : وساوسه . المنفوخ : يقال رجل منفوخ : سمين وجبان . النفخ : الفخر والكبر . النفخ : الممتلئ شباباً. النفّاخ : الورم من داء . النَّفيخ : الموكل بنفخ النار .
(13)
واستطرد صاحب القضية المتهم بالهرطقة يدافع عن نفسه  :
معلوم للجميع  أن موضوع علم التفسير هو مدخل  القرآن لتبيان معانيه وما يشتمل عليه من إرشاد وهدي وآداب وعِبَر من أحسن القصص وإصلاح حال الأمة في جماعتها وفي معاملتها مع الأمم التي تخالطها ، بفهم دلالته اللغوية والبلاغية . فالقرآن هو الكلام الذي أوحاه الله تعالى كلاما عربيا إلى محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل على أن يبلغه الرسول إلى الأمة باللفظ الذي أوحي به إليه للعمل به ، ولقراءة ما يتيسر لهم أن يقرءوه منه في صلواتهم ، وجعل قراءته عبادة . تلك هي سيرة الذكر الحكيم  في مخاطبة الناس ، تتكشف المعاني عن طريق الحديث ورواية الصحابة والفقهاء يتحدثون  ببواطن الكلم  بالتأويل  وأقرب التفاسير . كل ذلك من بعد دراسة اللغة العربية لنغتسل من أعجمية لساننا  وينكشف لنا بيان  وبلاغة القرآن الذي لن تنتهي عجائبه .
(14)
استطرد صاحب القضية المتهم بالهرطقة  في دفاعه الجسور:
وندلف لتفسير لابن كثير للنص القرآني  :{وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } (الأنبياء91 ) .هكذا يذكر تعالى قصة مريم وابنها عيسي عليهما السلام مقرونة بقصة زكريا وابنه يحي عليهما السلام . فيذكر أولاً قصة زكريا ويتبعها بقصة مريم ، لأن تلك القصة مربوطة بهذه ، فإنها إيجاد ولد من شيخ كبير قد طعن في السن ، ومن امرأة عجوز عاقر لم تكن تلد في حال شبابها ، ثم يذكر قصة مريم وهي أعجب ، فإنها إيجاد ولد من أنثى بلا ذكر ، هكذا ورد في سورة آل عمران وفي سورة مريم . وها هنا قصة زكريا ثم أتبعها بقصة مريم بقوله  { والتي أحصنت فرجها } يعني مريم عليها السلام ، كما قال في سورة التحريم :
{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ }التحريم12
(15)
ثم أردف صاحب القضية  المتهم بالهرطقة :
وجاء في  الذكر الحكيم أيضاً:
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً } (النساء  171) .التي ستبين توضيح المقصود من روحنا في التفسير المُيسر :يا أهل الإنجيل لا تتجاوزوا الاعتقاد الحق في دينكم ، ولا تقولوا على الله إلا الحق . إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله أرسله الله بالحق ، وخَلَقَه بالكلمة التي أرسل بها جبريل إلى مريم ، وهي قوله : "كن" فكان ، وهي نفخة من الله تعالى نفخها جبريل بأمر ربه ( روح ) ، فَصدِّقوا بأن الله واحد وأسلموا له.
معنى كلمة الله : لم تكتمل الأسباب التي وضعها الله في الكون للإنجاب وهي وجود الذكر والأنثى فجاء خلق الله تعالى لعيسى عليه السلام مثل خلقه لآدم بالأمر الإلهي بكلمة الله "كن".أطلق على عيسى عليه السلام كلمة الله ؛ لأنه جاء بالكلمة من الله تعالى.وفي تفسير ابن كثير: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } ( النساء 171) ، ليس الكلمة صارت عيسى ، ولكن بالكلمة صار عيسى ( لفظ كن ) . معنى روح منه : نفخ الله تعالى في عيسى الروح وهي نسمة الحياة كما قال الله تعالى عن خلق آدم:{ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِين} (الحجر29) .
فالروح تأتي بمعنى الملاك وتأتي بمعنى نسمة الحياة ، فنفخ الله تعالى في آدم نسمة الحياة مثل عيسى ، فقال تعالى: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } (آل عمران 59).
قال البخاري بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (من شهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل).( رواه البخاري ـ كتاب الأنبياء ، ومسلم ـ كتاب الإيمان) .
ولقوله في الآية والحديث " وَرُوحٌ مِّنْهُ "كقوله تعالى:{ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ } (الجاثية 13 ) , أي من خلقه ومن عنده ، وليست من للتبعيض.لقد قال الله تعالى في الحديث عن المؤمنين {..أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ..} (المجادلة 22). فروح منه تعني" من عنده .
(16)
واستطرد المتهم بالهرطقة يقول :
كتب الإمام القرافي (... نفخ الله تعالى في عيسى عليه السلام روحاً من أرواحه، أي: جميع أرواح الحيوان أرواحه، وأما تخصيص عيسى عليه السلام بالذكر، فلتنبيه على شرف عيسى عليه السلام، وعلو منزلته، بذكر الإضافة إليه، كما قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ.. }(الكهف 1): ( تفسير القرآن لابن كثير )،وقال تعالى :{ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا } (مريم : 2) ، فمع أن الجميع عبيد الله، تم التخصيص لبيان منزلة الشخص المخصص ).( الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة - بتصرف.)
(17)
ثم أردف صاحبنا  المتهم بالهرطقة :
من الوقائع التي أوردنا ، فأنا وقفت أفتح باباً من أبواب العلم ،استنفر الأسئلة والأجوبة  في وجودي عند الحرم ، ليتزود الجميع بالعلم الديني .وصدق من قال    ( ومن أراد به الله خيراً فليفقهه في الدين ). فأنا باذل جهدي للعلم ، لينفعني المولى في آخرتي بالأجر . ويتكسب المستمعين من المعرفة الصحيحة في أمور دينهم  .
وإن الذي نقلوه لكم من تهمة الهرطقة ، هو نتاج سوء فهم و ضعف المعرفة  بالدين عند الذين استعملتموهم خدمة للدين للزود عن حياضه .وهم دون المُرتجى منهم، أقل حصيلة  في المعرفة الدينية . وأن أصحاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الذين أوقفوني ، ليس لهم في الدين كثير علم . فقد كنت أجيب عن قضية نفخ الروح هي قضية قصد بها رب العزة أن يقرب المعنى للسامعين ، ليتعرفوا  على نفحات قدرته وقوة بيان الذكر الحكيم وهو يوصف قدرة الله المهيمن، و التي  هي " كن فيكون " . وأن تلك القوة حملها بوساطة جبريل عليه السلام . وكان رب العزة قد أفاء علينا بالكثير من المعاني المقرِبة إلى الأذهان . فقد ورد مثلاً في سورة النور :{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } (النور35 ).فإنه تعالى قد قرب قضية النور الإلهي إلى الأذهان ،  وهي ليست وصفاً حسياً لنوره ،وهذا التقريب لا ينحو إلى الشطط ولا يقود إلى الهرطقة ، بل إن رب العزة رأي أن تتذوق الأذهان من وهج نور علمه المنتشر ، ليتعلم الناس من تلك اللغة لفظاً ومعنى  وبياناً ،وكيف يمكنهم أن يتعرفوا على قبس من تلك الأنوار الربانية  ، لتكن عبادتهم قد أخذت ذخيرتها من بدائع أحسن القصص القرآني ليعتبروا وتطمئن قلوبهم . وقد جاء في الذكر الحكيم{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (البقرة260 ) .
(18)
وأفسح صاحبنا أمام المجلس  في إيراد المنهاج الذي بنى عليه دفاعه  ، وذكر علماء أهل السنة الثقاة الذين استند على مراجعهم  . وما وسعته الدراسة المتأنية من تحصيل  . فهو صاحب ملكة وقدرة وكاريزما عالية . دلف من التفسير إلى التوحيد إلى الفقه  وعرج من الآيات إلى الأحاديث ثم الإجماع والاجتهاد وأسسه ونظمه.
ارتج المكان من القدرة العلمية والثقة في القول واللغة الصحيح منطوقها  من رجل حسبوه قليل الشأن ، وصاحب أهواء .وعجبوا من الآيات المجوّد ترتيلها . هزّ القوم رءوسهم غير مصدقين. شكروه على مثوله بينهم ، ودعوه أن ينتظر النطق بالحكم .
(19)
تشاورا بينهم كثيراً ، وجمعوا كل القرائن والأدلة ،وأصدر المجلس حكمه ببراءة المتهم من تهمة الهرطقة ، إلا أنه قد قام بعمل  وهو غير مرخص له  بتعليم الناس أو إرشادهم رغم قدرته وبيانه والشهادات التي حازها . وأنه قد جاء بإذن الدخول لغرض العمرة ،وقد تجاوز الزمن الممنوح له ( معظمه قضاه في الحبس !) . فقضى الحكم  في حقه بالسجن لمدة شهر قمري آخر ، على أن يستبعد  بعدها مباشرة من البلاد .
(20)
سمعنا بخبره وقد عاد. توافد الأهل والأصدقاء يرددون  ( حمد لله على السلامة) . حين جلسنا إليه  قال :
إن الله هو المحيي وهو الذي يميت . أرض طاهرة كنت فيها . وقليل  هم الذين يعرفون مكانتها .  وأني أقول قول النبي الأكرم ،عن ابن عباس ، قال :  "لما خرج رسول آلله صلى آلله عليه وسلم من مكة قال : أما و الله إني لأخرج منكِ وإني لأعلم أنكِ أحب بلاد الله إلى الله، وأكرمها على الله ؛ و لولا أهلكِ أخرجوني منكِ ما خرجت". صدق النبي الأكرم. عطر اللهم قبرهُ الكريمَ بِعَرْفٍ شَذي من صلاةٍ وتَسليم ، اللهُم صَلِ وسَلِم وبارِكْ عليه.لم ينقطع لبن الضرع الذي منه نشرب ، ولا تعرف السدوف مثله صفحة معروقة بالروح والريحان وطيب الشذى . يعصُب على بطنه الحجر من الجوع وبين ظهرانيه المن والسلوى ومفاتيح الخزائن الأرضية . راودته الجبال أن تكون له ذهباً لامِعاً فأباه . لا يقابل أحداً بما يكره ، يمشي مع الأرملة ومع من رسف في قيد العبودية الدنيوية . يمشي خلف أصحابه ، ويكشف ظهره ، ويقول : الظهر للملائكة الروحانية . ركِب البعير والفرس المعقودة على أعرافها الخير ، وركب البغلة والحِمار . يبدأ من يلقاه بالسلام ويطيل الصلاة فاتحاً صدره الشريف للتبتُل والمذلة لخالقه . يتآلف وأهل الشرف ويُكْرم أهل الأفضال .يمزح ولا يقول إلا حقاً . يصوم الاثنين والخميس ويفطر تمرات من عمتنا " النخلة " . أحيا سُنن الأقدمين في الخير .اندست المكارم بين جنبيه. جواد الفعل والمقال . باسط اليد للمُباركة. وهج نوره غطى على صحابه الأخيار ، فكان شمسهم تأخذ أقمارهم ضوءها منه .

عبد الله الشقليني
10/10/2012


abdalla shiglini [abdallashiglini@hotmail.com]

 

آراء