أقدار !!!

 


 

 

الدوحة
حويلات حاء
وفي الجرح حاء
وحولي وحول سريري
يمور الهدوء
وتمشي السكينة
لفائف .... وبعض الملاحف
جراحات تبدو وأخرى دفينة
وتمضي الدقائق حبلى حزينة
ونفسي تكابد أوجاعها
ففي اسره الحزن بانت رهينة

الحويلات هي المستشفى الرئيسي للهيئة الملكية في مدينة الجبيل الصناعية ، زرته مطلع العام زائرا لمريض وبعدها بأسابيع قلائل كنت ممن يأتي الناس لزيارته من مناطق شتى.
كنت أحسب اني حسن اللياقة وإن أرجلي هو أقوى الاجزاء من جسدي وقد كنت العام الماضي قد قفزت من اعلى جسر الجمرة الوسطى بمنى بعد واجهت تدافعا شديدا في التيار المعاكس قبيل مغيب الشمس أول أيام التشريق.
وفي اغسطس من ذلك العام كنت إتأهب للحج لبيت الله الحرام للعام الثالث تواليا، ولكن انتهت الى لفافات الشاش الأبيض وألحفة المستشفى بدلا من ثياب الإحرام والمبيت بمنى والطواف والسعي والوقوف على صعيد عرفات الطاهر بين اللفافات والاربطة في الغرفة 341 ، كان معي إحساس الشاعر أمل دنقل يصف حاله في الغرفة 8 :

في غُرَفِ العمليات,

كان نِقابُ الأطباءِ أبيضَ,

لونُ المعاطفِ أبيض,

تاجُ الحكيماتِ أبيضَ, أرديةُ الراهبات,

الملاءاتُ,

لونُ الأسرّةِ, أربطةُ الشاشِ والقُطْن,

قرصُ المنوِّمِ, أُنبوبةُ المَصْلِ,

كوبُ اللَّبن,

كلُّ هذا يُشيعُ بِقَلْبي الوَهَنْ.

كلُّ هذا البياضِ يذكِّرني بالكَفَنْ!

فلماذا إذا متُّ..

يأتي المعزونَ مُتَّشِحينَ..

بشاراتِ لونِ الحِدادْ?

هل لأنَّ السوادْ..

هو لونُ النجاة من الموتِ,

لونُ التميمةِ ضدّ.. الزمنْ,

ضِدُّ منْ..?

ومتى القلبُ - في الخَفَقَانِ - اطْمأَنْ?!

ذلك الصباح من اغسطس 1983 ، كان علي المرور عبر الإشارة الضوئية بين مصفاة شل للبترول ومصنع الشركة السعودية للبتروكيماويات في مدخل مدينة الجبيل الصناعية شرقي المملكة العربية السعودية .
وجدت الاشارة حمراء المؤدية للطريق الرئيسي رقم 121 ، فانعطفت عندها يمينا لاسلك الطريق الساحلي 113 وهو قليل الحركة متباعد المسافات بين السيارات ، وشاء الله ان اتعرض بعد امتار قليلة وأنا في العشرينيات من عمري لحادث مروري كبير ، إذ صدمت شيويل في إحدى إشارات الجبيل الصناعية ، نتج عنه اصابات في الرأس وكسور في مفصل الركبة وفي العظام في الرجل اليمنى ،
كانت الإشارة الضوئية خضراء للعابر من الجنوب الشمال وللعابر من الشمال للجنوب ولكن سائق الشيول من شركة ( Dong A) الكورية إختار الإنعطاف شرقا وفوجئت به في منتصف الإشارة حاولت تفاديه فاصطدمت سيارتي بين الاطارين الضخمين ، كان ذلك المشهد آخر ما رسخ في ذهني قبل ان ادخل في إغماءة طويلة لم افق منها إلا في الغرفة 341 بجانب فرانك رئيس التمريض وطاقمه.
قام بإجراء الجراحة دكتور تاكور وهو إيرلندي من أصل هندي ، عرفت من تلك التجربة الصلة الوثيقة بين طب العظام والهندسة ، فقد أستخدم شبكة معدنية ( mesh)
لترميم غطاء الركبةواثقال ومشدات ومقياس لزاوية الإنحناء بحمله الدكتور في جيبه كلما زارني.
تعلمت منه أيضا تأثير قوة العزيمة ( will power)
على سرعة الشفاء ، فقد وقع الحادث على بعد أيام قليلة من أيام الحج وكنت استعجل الخروج لأداء المناسك للمرة الثالثة ، وعندما أسأل الدكتور يجيبني أني سوف أتمكن من أداء الحج ولكنه لم يقل انه قد يكون في عام آخر غير الذي نحن فيه ، فقد بقيت في المستشفى أكثر من أربعة اسابيع ومثلها بالمنزل .
زارني في مستشفى الحويلات الصديق الزين عبد الرحمن الزين زميل الدراسة في شندي الريفية والدامر الثانوية وجامعة الخرطوم ، وكان ضيفا على شقيقه الدكتور محي الدين الزين استشاري المسالك في مستشفى الحويلات ، وساهم مع اصدقائي في رأس تنو رة وأبقيق والجبيل وأبناء عمومتي في الدمام في تزويدي بدفعة معنوية كبيرة.
كما زارني مسؤولون من شرطة المرور للتحقيق حول الحادث والمبلغ المالي الذي وجدوه في الحقيبة المقعد المجاور لي. كما زارني العديد من مسؤولي الشركة الكورية فقد كان السائق في الحبس في مركز الشرطة بسسب خطورة إصابتي.
كان في المستشفى كذلك الأطباء الدكتور طارق خليل استشاري العظام والدكتور سعد عبد الرحمن استشاري التوليد والدكتور عبد العزيز صالح استشاري الباطنية ومن الاطباء الشباب الدكتور عوض محجوب والدكتور عبد العظيم الملك. ومن الإداريين بشرى وعلي هارون.
كان صديقي عبد الله حماد (من أبناء القضارف) يتندر بأن الناس يصدمون سيارات وشاحنات ولكن عباس صدم شيويل !!!
أما صديقي العلو السني ( من أبناء المناقل) فقد كان يصفني كلما التقاني " بأني أعيش في الزمن الضائع"
رغم اني كنت حديث عهد بالمنطقة إلا أن طاقم أمن المستشفى ضاق ذرعا بكثرة الزائرين بل وجاء احدهم إلى غرفتي ليقول لي " احبابك كثيرون" .
تعودت على نظم أدارة المخاطر في المستشفى بألونه المختلفة و تعلمت من كبير الممرضين البريطاني اساليب التمريض الأمريكية والانجليزية والفروق ببنهما حتى في طريقة ترتيب أسرة المرضى.
الساعات الأولى في مستشفى الهيئة الملكية كانت مزيج من الآلآم والوحدة والرجاء ، فتلك المرة الأولى التي الزم فيها السرير الأبيض ولكن بلا حراك ولا حتى التفاتة .
كان لدي عدد من بطاقات المناسبات من شركة سفير ، بعضها به ادعية ودعاء بالشفاء وتهاني بالعيد ، ارسلت اكثرها للاصدقاء وزملاء الدراسة والعمل طمعا في مؤازرتهم ومؤانستهم ولو من بعيد.
كان حجر التيمم في الطاولة الملاصقة لسريري مثار تعجب للطاقم الطبي ، حتى ظن بعضهم أني من عبدة الاصنام. كانت فرصة لأبين لهم مبادئ التوحيد في الإسلام فوجدت من اكثرهم اهتماما كبيرا .
" الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضي" ، كانت تلك الجملة جزءا من درس الإملاء في الصف الرابع الابتدائي
لم اتبين معناها إلا في مستشفى الحويلات عندما يأتي اصدقائي ويدخلون في نفسي السرور ويكسبون جسدي الواهن قوة جديدة . وعندما يهمون بالمغادرة قبيل منتصف الليل أحس من جديد بغلالة من الحزن والوحشة تطل برأسها .
مطلع الاسبوع الرابع بدأت مرحلة العودة للحياة الطبيعية ، فكانت البداية خطوات قليلة داخل الغرفة ، واجهت مشاق كبيرة في الوقوف على قدمي رغم المؤازرة الكبيرة من طاقم التمريض وذلك بسبب الدوار النانج عن الرقاد الطويل . ثم بدأت خطوات لاهثة وقليلة. ثم تطور الأمر وصرت اسير بخطوات متثاقلة في الممر خارج غرف المرضى حتى وصلت نهايته بجانب حوض الزهور والنافذة الزجاجية والتي اطللت منها على حركة الحياة خارج المستشفى ، كانت لحظات نفيسة وغالية تنفست فيها نسيم الحياة ومذاق نكهتها من جديد .وكنت ارى على البعد إشارة المرور التي كان فيها الحادث.
فطافت بخاطري أبيات عباس العقاد الشهيرة بعد خروجه من السجن في عهد الملك فاروق :

وكنت جنين السجن تسعة أشهر
وها أنا في ساحة الخلد أولد
ففي كل يوم يولد المرء ذو الحجى
وفي كل يوم ذو الجهالة يلحد
وعداتي وصحبي لا اختلاف عليهم
سيعهدني كل كما كان يعهد

وأنا كنت حبيس الجدران والالم والوحشة والضعف لقرابة الثلاثين يوماً غمرني فيها الأصدقاء والاحبة بدفقات الأمل والتفاؤل والفأل الحسن.
فالصديق الصدوق مكانته سامية وطعم وفائه لا يوصف.
اما عن طاقم التمريض فهؤلاء أناس يقدمون لك العون وأنت في اقصى درجات ضعفك ويسندونك حتى وأنت غائب عن الوعي . يستحق كل واحد منهم التجلة والإكبار على ما يحيطوننا به من كريم الرعاية وما بتجشمونه من مشاق في الليل والنهار وفي الرخاء والشدة ، واليأس والرجاء . لا يكفي ان نسميهم ملائكة الرحمة ، بجب ان نبرهم وننحني لهم اجلالا وإكبارا وتقديرا .هم رسلنا لانفسنا الغافلة ولارواحنا التي يتنارعها الخير والشر ويتقاذفها الغرور والعجب والحاجة للآخرين.

aburaida@hotmail.com
/////////////////////////

 

آراء