أكاسير من دوحة الفرجوني

 


 

 

بشوف فوق سارها شدر الحنه واللكسير))
ودوحة الفرجوني الشعرية دوحة تجمع بين روعة اﻷكاسير وسحر اﻷساطير والشعر العالي الذي يكتب بماء اﻹبريز.
والفرجوني سليل أسرة البنا المعروفة وهي أسرة شاعرة بالفطرة ..فهم ضباط أعنة خيل الكلام.
(فكأنما نتجت قياما تحتهم ☆وكأنما ولدوا على صهواتها)
وقد أشاد البناءون العظماء صروحا باذخة وتركوا ميراثا عريضا(وضلا رهينا)..إﻻ أن الفرجوني هو ابن الفرجوني،نسيج وحده وابن كسبه ،ففي شعره تجويد ومعاناة أشبه برياضة المتصوفة في الخلوات والجلوات.
وقد بلغ الفرجوني هذا الشاعر الكوني الكبير في حب الوطن درجة التصوف والوله ..فلم أجد على قدر ماقرأت في الشعر السوداني من (شابك الشدر)ومن(قالد الجبال)وأبكى الجمادات مثل هذا الفرجوني.
الجبال هذه الشوامخ الشريفة ..أخذ منها معنى كلمة الشرف ..والشرف في اللغة هو المكان العالي ..هذه الجبال هي أعلام ومبادئ البادية ..وعرب السودان يقولون للمكان العالي الشرف ،وللجبل العلم قال القدالي:
(يطيرن لك تلاتة شروف وستة مَرانِع
حتن تاني عَنقُور السَّناف المانع)
وقالت بت المِصايد تصف ناقتها:
(طلعت فوق الألم
ورزمت لى اللِّنْكَرم
واردِي عِديد السَّلم
تحت الهيم والدَّلم)
وقال القدَّالي:
(عاين لي علمها اللّيلي طاير وين
عندك يامعرَّص كيف رَمِشْة العين)
وقد رسم الفرجوني وبإنسانية عالية خارطة شديدة الحفاوة لجبال البطانة..خارطة شعرية قل أن تجد لها نظيرا في الشعر العربي تحت عنوان ما يعرف بأنسنة الأشياء.. وقد خاطب الجبال حتى تمثل له جبل ود قدير بشرا سويا:
(ناداني الجبل ها ود قدير صايَحْلِي
حسو سمعتو في الليل والبرق لايحْلِي
جيتو قلدتو حنالي ورزم رايحْلِي
وشدر الخاسة منو الفضل إتمايحْلِي)
إنها عبقرية الشاعر وعبقرية اللغة وعبقرية الغربة التي جعلت الفرجوني يحمل البطانة بين ضلوعه أينما حل وأينما ارتحل .
فخطاب الفرجوني للجبال ومساررته لها وإخراجها من عالم الكثافة إلى عالم اللطافة يقربه من مواجيد المتصوفة وأهل الأسرار..والفرجوني فيه سمت المتصوفة وفي شعره عمق يقترب من المعرفة ..فالجبال والجمادات عند ابن عربي وكبار العارفين ليس بينها وبين الله حجاب.
وإذا كان مجنون ليلى تعلق بجبل التوباد وهو يقول :
(أجهشت للتوباد حين رأيته ☆وكبرت للرحمن حين رآني)
فإن مجنون البطانة أحمد الفرجوني قد حول أشجارها وجبالها إلى عوالم تنبض بالحياة وتتدفق بالذكرى والحنين..وأشاب الفرجوني هموم أشابت نواصي جبال البطانة:
(عيني في السهر ليهن دهر بتزابن
بقى في النوم عيافهن ومن مشارعو بهابن
زي ماكبرت وعضَّام جسمي كلو أتغابن
جبَّال البطانة نعلهن ما شابن)
حديقة الورد الأخيرة)التي أسرت سعدي الشيرازي هي نفس الحديقة ونفس الفردوس الأرضي الذي أخرج الفرجوني من حي ود البنا بأمدرمان إلى فضاءات البطانة الواسعة التي أصبحت ملاذاً أبدياً وكونا شعرياً لهذا الشاعر العبقري ..وتمنى الفرجوني أن يدفن في
(عليين )البطانة لتخلد ذكراه في الأرض التي أحبها وخلدها في شعره الخالد:
(يا ال نوعتي بي سابع القشوش تيرابك
عطشان ل مناهلا فيها حالي شرابك
متحزِّن ضميري يحن على دهرابك
وين ما مت يبقى ان شاء الله دَفْني ترابك)
وحياة الفرجوني قصيدة كتبها بدموعه وبحبر الليالي.
فخياله في سعة الصحراء وخواطره مثل التماع البروق ..وقد ترك الفرجوني أضواء النيون وغابات الأسمنت باحثاً عن الحرية وعذرية الطبيعة التي وجدها في المهامه الفيح والسباريت التي تصفر فيها الريح:
(إمدن سباريتا خلاهن سيح
صاويات علا وناسهن صفير الريح
يالعادي القماقمك مسرفيبهن قيح
وين بلد البريدك وإتا منو جريح)
لا رفيق في هذه المفازات المنكرة إﻻ الهجين وتكاد كاف المخاطب في البيت الأخير تتحول إلى تاء المتكلم.
والفرجوني هذا الشاعر الذي يجمع بين سحر الشخصية وسحر البيان كتب وصيته لصديقه حسن أن يقيم له (بيان)وضريحا إذا أدركته المنية بعيدا عن فراديس البطانة:
(بوصيك يا حسن والرب عليك الشاهد
كان الغربة طالت وجاني فيها الشاهد
ربع لي بيان متل الفقير الزاهد
أدفن فيهو سوطي وسوي سرجي شواهد)
إن هذا النصب التذكاري لا يليق بشاعر ضخم وعاشق بحب الوطن متبول مثل الفرجوني ..إنه يستحق مركزاً ثقافياً ضخماً يحمل اسمه ومنجزه المتفرد..فإذا كان كتاب الطبقات يمثل روحانية الشعب السوداني فديوان الفرجوني يمثل تراث وثقافة الشعب السوداني في أسمى معاني هذا التراث وفي أرقى تجليات هذه الثقافة:
(ضقت الصي على ضهر أب درز شقيتو
وضايق حوضي ل المتل البليب دقيتو
لامن مات أبوي لا عصيتو لا عقيتو
من أخواني مفتاح قلبي ما تاقيتو)
هذا هو الفرجوني النبيل ابن النبلاء سليل مباءة العلم اليعربي التي تحدث عنها شاعرنا الخارق كرف في رثائه للعالم الجليل الشيخ عبدالله عمر البنا ..هذا هو الفرجوني الشاعر المجيد .
(أخو الأخوان).
في شعر الفروجني رنة حزن واضحة تكاد تنتظم ديوانه من الغلاف إلى الغلاف ،وإن كان الفرجوني قد غلف هذا الحزن النبيل في غناءه الجميل وفي حبه للحياه وإقباله على المسرات. لم أجد تفسيراً واضحاً لهذا الحزن أهي الغربة أم هي العبقرية المتفردة والملكة المتوثبة لهذا الشاعر والإنسان ؟.
ولا يساورني الشك في أنه يعيش أكثر من غربة ..وهذا الحزن الذي يصبغ شعر الفرجوني يجعله يجيد إجادة عالية إلى درجة التفرد في مناحاته وبكائياته.
وديوان الفرجوني ملئ بالقيم السودانية الأصيلة مثل قيمة الكرم التي يضعها السودانيون في أول السلم قولاً وعملاً:
(حلفت بالله كان تدري البجيبو الضيف
تكاتل فوقو لا الموت بالدرق والسيف
الضيفان جزم كان جوك وطاتك صيف
بحر النعمه يملا وينزرد لل القيف)
وانطلاقاً من صميم كيمياء الشخصية السودانية يفرد الفرجوني باباً كاملاً في ديوانه للضيف وهذه القصائد (الضيفيات)غير مسبوقة في الشعر العربي كله ..صحيح أن المعري كتب السيفيات والدرعيات ولكن ذلك باب آخر.
وللفرجوني طرديات تزاحم أرقى ما كتب شعراء العربية في ماعرف بالمصائد والطرائد
ويظهر صفاء الإخلاص وصدق المودة في هذه المربوعة التي تؤرخ لعلاقة أسست على الحب والتقوى بين آل أبو سن وآل البنا :
(كبدي معلقابك ياصديق شباني
أولادك جناي وكلكن حباني
ودا من قديم طول بناه الباني
بتكرف نسيمكن طيبو ما بغباني )
والشطرة الأخيرة تذكرني بقصة سيدنا حسان حينما شاخ وفقد بصره..وقد أرسل إليه جبلة ابن الأيهم حفيد آل جفنة الذين كان حسان يمدحهم في الجاهلية هدية فقبل أن تصله الهدية أو يسمع بها قال:إني لأجد ريح آل جفنة.
(بقول ل اب تلة والقود منعدل ممشاهن
وين ال فوقنا حاليات العطور رشاهن
يوم ودعنا جيزان الدموع بشاهن
خربن كحلو بالمتحننات قشاهن )
هذه دموع من الياقوت النادر تلصف في جيد الدوبيت السوداني قل أن تجد لها نظيرا في ديوان الشعر العربي ..فالفرجوني يخاطب صديقه اب تلة كما خاطب الشاعر القديم صديقه قائلاً:
(أقول لصاحبي لما أرتحلنا ☆وأسرعت النجائب في الوخيذ
تمتع من لذيذ كلام حورا☆فما بعد العشية من لذيذ)
وقد أجاد عبد الوهاب السيميتاوي كل الإجادة حينما وصف الدمع بالدهن المتقاطر من السراج الشارب من الدهن شهراً كريتا..وللمفارقة فإن السراج يحمله والد العريس وهو أخذ بخطام الناقة أو مقود الفرس ليركبه ابنه سائرا إلى عرسه يقول عبد الوهاب:
(دي شيكة البزيد في مباعو
رقابة الزريبتو حديد وبي قراعو
القدمنا كيف دهن السراج دماعو
بدني الليلي خماج النقع بي ضراعو)
وقال محمد حسن ود مجاور العكدابي:
(الوادي الظليطو مقرن
بجنو الليلي متباريات تعولا كرن
الودعنا بي العبرة ام دموعا خرن
طلق في جوفي وجاج السمايم الحرن)
الفرجوني يقول:
(البارح بعد سروة ونزولا هاجع
وكتين النجم شول عقابو الناجع
ساعة رقشة الندى فوق جناح الساجع
جاني خيالو صحاني وجفل متراجع)
في هذه العينية المذهبة نجد الفرجوني هذا الجواهرجي البارع يفرش للطيف الندى على أجنحة الحمام السواجع ليأتي طيف الحبيبة مثل ظبية من وادي عبقر لتخرجه من الحقيقة إلى الخيال أو من النوم إلى اليقظة فلا يجد غير سراب الأماني مثل أبي منصور الحميري:
(وزارني طيف من أهوى على حذر☆من الوشاة وداعي الصبح قد هتفا
فكدت أوقظ من حولي به فرحا ☆وكاد يهتك ستر الحب بي شغفا
ثم انتبهت وآمالي تخيل لي☆نيل المنى فاستحالت غبطتي أسفا)
وقال دعبل في حق الطيف:
(بلغت مكاناً يقصر البرق دونه ☆ويعجز فيه الطيف أن يتجشما)
وتبعه المعري بقوله :
(وسألت كم بين العقيق إلى الغضا☆فجزعت من أمد النوى المتطاول
وعذرت طيفك في الجفاء ☆لأنه يسري فيصبح دوننا بمراحل)
وقال ود كرار البشاري:
(المهدولو قادو وعنقو ماهو مداكك
وفصاص تيلو فوق حزاز وريدو اتساكك
وجدت خيالو هسع غاب ومني اتعاكك
هوت أقدامي حسيت بي الأرض تتراكك)
ويأبى الفرجوني إﻻ أن يتفرد ويأتي بما لم تأت به الأوائل فيأتي بطيف تعاينه الجمال:
(رقريق الخلا ال بينا الجمال وافنو
بيه نزلنا والنوم العيون جافنو
زولا شفتو وايام حظي ما اتلافنو
جاني خيالو يا الحاج الجمال شافنو )
هذه مجرد خواطر وهوامش كتبتها وأنا أطالع نسخة عتيقة أهدانيها أخي وصديقي الشاعر الكبير أحمد الفرجوني وكتبت ما كتبت عن حب وقد قال أديبنا الفلتة الطيب صالح خير النقد ما صدر عن حب أو كما قال..
وفي الختام يبقى الفرجوني وارثا لمقام فحول الشعراء غير مدافع فهو شاعر شقق ودربو زلقيبه .

aubaidmagadam@hotmail.com
//////////////////////////

 

آراء