يتدافع السودانيون نحو مصر المحروسة، على كل ضامر نفاثة وباصات يابانية واسكندنافية قوية الشكيمة تقطع الرحلة الماراثونية في يومين. وتتناهي إلي القاهرة يومياً من السودان أربعة عشر باصاً وثلاث طائرات وقطاران محملة بالزولات وحقائبهم المكدسة بالزوادة والبضائع، مما خف حمله وغلا ثمنه: التركين وخميس طويرة والكسرة المتمّرة والشرموط وطحين العصيدة والدامرقة والويكة والمنين وعلب السردين والفاصولية والفول المصري ودقيق القمح وزيت السمسم والشطة، بالإضافة للبنود ذات الندرة بالأسواق المصرية (حسب الموسم) كالشاي والسكر، وبالطبع حب البطيخ وبت تمودة والقنديلة والبركاوي والعرديب والكركدي الذى أدخل السودانيون فى روع المصريين أنه يشد من أزر الباءة. ويأتي المسافرون محملين بتلك الأطنان من الزوادة لأن الشائعات المستهدفة للمنتجات الغذائية المصرية قد ملكت أقطارهم، فهنالك حملة دعائية خبيثة وعاتية ومكثفة ضد مصر، تنوي أن تفعل باقتصادها بصفة عامة ما فعلته بالسياحة على إثر التفجيرات الإنتحارية والأنشطة الإرهابية – خاصة في سيناء، قاب قوسين أو أدنى من المنتجعات السياحية بالغردقة. ولا تدرى يارعاك الله من يقف وراء هذه الإشاعات بالضبط! أم أن ثمة بذرة من الحقيقة في شكل فاكهة مصرية مضروبة هنا وهناك – ثم تلقفها العقل الجمعي السوداني وحولها إلي جزء من الميثولوجيا المتداولة التى تركز علي سلبيات المصريين (الحلب)، وشيئاً فشيئاً ترسخت كقناعات لا يأتيها الباطل من خلفها أو أمامها. أم أنها ألاعيب ماكرة ينسجها اصحاب المنتجات المنافسة كما يحدث دائماً في سوق الله أكبر. أم أنها، كما قال لي أحد الصحفيين المصريين، خطة محكمة من قبل تنظيم الإخوانجية الدولي وبتمويل من قطر والنظام التركي، تضمنت شراء ذمم بعض الصحفيين والهاكرز ومروجي الإشاعات السودانيين وبعض متنفذي المؤتمر الوطني، وتهدف لتجفيف السياحة العلاجية والتجارية والترفيهية السودانية لمصر كجزء من الحملة ضد نظام السيسي التى ما فتئ التنظيم الدولي منكباً عليها، كما تشهد قناة الجزيرة، منذ ثورة 30 يونيو 2013 الشعبية.
مهما يكن من أمر، تسد الآفاق هذه الأيام الدعايات المعادية لمصر، والتى تشكك في طعامها وشرابها وهوائها وسمائها وأرضها، وفى أخلاقيات المهن الطبية بها، بيد أنها لم تحد من تدفق السودانيين نحو قاهرة المعز الذين ما زالوا مستمسكين بأوامر الحق عز وجل: (واهبطوا مصر....)، ذاكرين ومستذكرين ما وصي به الشيخ البرعي عليه رحمة الله: (ياصاح أمنا لي زيارة أمنا مصر المؤمّنة بي أهل الله!). والزوادات التى يأتون محملين بها غالباً ما تذهب في شكل هدايا وبخشيش لنادلي وموظفي الفنادق التي ينزلون بها، كما حدث فى حالتي شخصياً، وهاك يافول من القدرة المصرية التقليدية ويا سندوتشات جاد وحلويات العبد (الأصلي) ويا كشري....وقراصة وكسرة بالمطاعم السودانية، وليكن ما يكون. وينغمس المسافرون فىي الأهداف التى ظعنوا من أجلها: سواء فحوصات وعلاج كما ظلوا يفعلون منذ عشرات السنين، أو تبضع فى العتبة والموسكي والكرداسة وبعضاً من الشوارع المعروفة، أو شيء من الترويح والسياحة (البلدية) وشهر العسل، أو التسلل إلى مقاهي العتبة حيث ينشط السماسرة الذين قد يسهلون لك الهجرة إلي أوروبا (أو في الحقيقة ولوج المغامرات الخطيرة بالبحر المتوسط التى قد تنتهي بك في لجج عاصفة أو في أحشاء السمك)، أو التسلل لما تبقي من المنظمات العالمية حيث يدرج إسمك ضمن قوائم المنتظرين للهجرة، وتقيم بعد ذلك ما أقام عسيب بانتظار الإستجابة العصية والبطيئة من الجهات المأمولة، وهو انتظار يدوم عادة لبضع سنوات تذهب فيها الدراهم المدخرة فى جوف التكة أو الحزام أو المحفضة، وتنضب الموارد، ويحدث الإفلاس والجوع وأم برد والسهراجة ببلد تتعذر فيه مصادر الرزق، وقد بلغ سكانه مائة وعشر مليون نسمة، بهم عشرون مليوناً عاطلون عن العمل. وعندما تسأل أيًا من هؤلاء المساكين لماذا لا يصمد فى وطنه ويناضل من أجل إزالة ذلك النظام الذى فعل به كل هذه الأفاعيل، يقول لك: مع من أناضل؟ حيثما تذهب تجد الإخوان المسلمين قد زرعوا عيونهم وشركاءهمم وعملاءهم، ولقد تحولت البلاد إلي دولة بوليسية مثل العراق أيام صدام حسين، حيث يتجسس الأخ على أخيه، وحيث يتدثر النظام بجندرمة مسلحة غليظة شديدة تفعل ما تؤمر، كالحرس الوطني الصدامي وكالحرس الثوري الإيراني؛ وبينما يستصلح ويستزرع المستثمرون الأجانب الفيافي السودانية من حولك، يستنكفون عن تشغيلك معهم ويجلبون العمالة الآسيوية من أقاصي الأرض. ولقد جفت الحياة بأقاليم السودان المختلفة لانعدام مصادر الرزق وبوار الزراعة وفشلها، ولانعدام الخدمات من تعليم وصحة، ويمم القرويون السودانيون وجوههم شطر العاصمة المثلثة، وتكدسوا بأكواخ الكرتون في أطرافها كالفئران الهائمة حول القمامات، فلا أقل من أن يضربوا فى الأرض ويبتغوا من فضل الله، عملاً بقول الحاردلو: (انبهم بي الراي....والدليل يا ناس النجوع). وأول وأقرب محطة في أرض الله الواسعة هي مصر، ومنها إلي الحدود الشرقية الشمالية (الإسرائلية)، أو غرباً إلي ليبيا أو شمالا عبر بحر الروم. وعلي الرغم من المعاناة التى ظل يكابدها السواد الأعظم من السودانيين منذ مجيء الإخوانجية للسلطة قبل سبع وعشرين سنة، فإنك تجد من يدافع عن هذا النظام العجيب، طبعاً بفضل ماكينته الإعلامية الأخطبوطية الشريرة التى ليس لها شبيه إلا أجهزة البروبوقاندا النازية الهتلرية، وهو نظام ما انفك يجد الدعم السخي من بعض البلدان النفطية الخليجية، إما لأنها علي توافق إيديولوجي معه كما فى حالة قطر، وإما انصياعاً لماكينته الدعائية نفسها التى تصور نظام الخرطوم كأنه حمل وديع، وبقدرة قادر تحجب عن أولئك المانحين الأهوال التى يتعرض لها الشعب السوداني. ولقد لعب هذا النظام لعبات بهلوانية خلطت جميع الأوراق بالساحات الشرق أوسطية الملتهبة: فهو حليف لإيران (المرتبطة بدورها بتنظيم الإخوانجية العالمي)، وفجأة – بعد ست وعشرين سنة من العلاقات الدبلوماسية والإقتصادية والصناعية والعسكرية والإستراتيجية مع إيران – قلب لها ظهر المجن واغلق سفارته في طهران، أي أصبح ملكياً أكثر من الملك بزج أنفه بلا مبرر في خلاف سعودي إيراني طفيف عما قريب سوف تنقشع سحبه، فهما أكبر دولتين إسلاميتين ونفطيتين بالمنطقة، وتربطهما مصالح مشتركة يعبر عنها وجودهما بمنظمة الأوبك التى نشأت كترياق مضاد للإحتكارية الغربية، وحققت للدول المنتجة للنفط استقلالها الإقتصادي وسيطرتها على القرار الخاص بمصالحها. وما حدث بين هاتين الدولتين ربما يمسي مجرد سوء تفاهم عابر تأتي عليه رياح المصالح وتمسحه من الوجود. أين سيجد نظام البشير نفسه حينئذ؟ إن الحملة الإخوانجية المستهدفة لنظام السيسي تسربت إلى السودان، بيد أنها لم تنطل على مجمل السودانيين، وما زالت مصالحهم الصغيرة، من تجارة شنطة وعلاج وخلافه، مستمرة كأن شيئاً لم يكن. ومهما كان النظام ذكياً وثعلبياً ومراوغاً فإن شعبه ينحدر من نفس الجينات، ولا تفوت عليه فائتة؛ فقد أدرك الناس أن ثمة حاجة فى نفس يعقوب عندما فجأة ودون أي مقدمات أصبح نظام البشير يتحدث عن حلايب، عن سودانيتها وعن أصل المشكلة وفصلها، وعن الشكوى المرفوعة لدي مجلس الأمن الدولي منذ عام 1958. أين كانوا منذ عام 1989؟ لماذا لم يتعرضوا لهذه المسألة دبلوماسياَ أو إعلامياً أو عبر أي قناة أو في أي مناسبة من المناسبات؟ ولماذا لم يطلبوا من أي جهة إقليمية أو دولية أن تتوسط، علماً بأنهم فطموا على فن الوساطات منذ سنينهم الأولي، عندما ذهبوا لنيجريا وإلى جنوب إفريقيا طالبين التوسط بينهم وبين الراحل الدكتور جون قرنق رئيس الحركة والجيش الشعبي لتحرير السودان؟ إنني شخصياً ذو قناعة راسخة بأن حلايب سودانية، بناء على الوثائق التى إطلعت عليها فى مؤلفات خبير الحدود البروفيسير عبد الرحمن علي طه؛ ولكن الطريقة والتوقيت التى أثار بها البشير هذه المشكلة يشير إلي أنها دعوة حق أريد بها باطل. إنه يريد أن يفاقم الزعازع التى يتعرض لها النظام الديمقراطي المصري، تحت النشاط الإرهابي للإخوانجية بسيناء، وتحت الضغوط الإقتصادية التى يواجهها بلد مثقل بالديون الخارجية، ومرهق بتكلفة حماية الحدود المصرية من تآمر الإخوانجية الذى يصب في مصلحة العدو الصهيوني في نهاية التحليل. ولقد سدت آفاق الإعلام الإجتماعي الإشاعات المضادة لمصر؛ وما برحت الحياة في أرض الكنانة مفعمة بالحيوية والإبداع، وتسير على ما يرام، كما شاء لها الملك العلام، وما زالت هذه الدولة المكافحة تستطيع أن تطعم مائة وعشرة ملايين نسمة ومعهم عشرة ملايين سائح وعابر ترانزيت ومقيم (كاسر ركبة) ثلاث وجبات كل يوم. لا بد أن بصلها وثومها وغثائها لم ينضب بعد، وقد بشمت جميع أنواع الثعالب وما تفني العناقيد. ولكن القضية السياسية التى يجب ألا تغيب عن ذهن أحد أن الصراع ضد الإخوان المسلمين لم تحسمه ثورة 30 ييونيو 2013 الشعبية ولم تضع حداً نهائياً لهذا التنظيم، فهو دائماً وأبداً واجهة للصراع الحقيقي بين الكادحين المصريين من جانب، وبقايا إقطاع الخديوية، مهما اختفى عن العين المجردة، والطبقات الطفيلية التى أفرزها انفتاح السادات وسياسات حسني مبارك الممالئة للرأسمالية الطفيلية، وهي نفس الفئات التى أفرزها وشجعها نظام الإخوانجية الحاكم في السودان؛ ومن هنا يأتي الحلف المستمر فى السر وفى العلن بين إخوانجية السودان ومصر (أي بين اللصوص في البلدين). لقد جرب الإخوانجية السودانيون السلطة ووجدوها تزع بالسلطان ما لا يستطيعون أن يزعوا بالقرآن، ووجدوها تحمي مصالحهم وتروي ظمأهم المتأجج للثراء الفاحش ولحياة البذخ االهاروني الرشيدي، ولذلك فلسوف يستمر السودان في إيواء الإخوانجية الهاربين ممن مصر، وفى الإنصياع لتعليمات التنظيم الدولي الخاصة بإساءة سمعة نظام السيسي تمهيداً لخلخلته وانهياره فى آخر الأمر، حتى لو نجم ذلك عن حرب أهلية كالتي تدور في اليمن وفي الصومال. إن الدول العربية المسستهدفة من قبل التنظيم الدولي للإخوان المسلمين هي مصر أولاً، ثم السعودية والإمارات العربية المتحدة، وعندما لاحت تباشير تحالف بين هذه الدول الثلاث عام 2013 بعيد الثورة الشعبية، ارتعدت فرائص التنظيم الدولي وأصيب النظام السوداني بهلع شديد. وتكالبت الأيدي الإخوانجية المختبئة لزرع الفتن بين هذه الأضلع الثلاثة للمثلث الواحد، ولصرفها نحو معركة جانبية في اليمن يختفى وراءها المخطط الآثم الداعي لإرهاق هذه الدول المستهدفة من التنظيم الدولي المتحالف مع إيران. ولقد وجد النظام السوداني فرصة في هذه المعامع لكي يموه ويواري هويته الحقيقية ويتحصل على بضع دريهمات. ولكن الصراع الأصلي بعيد المدي يكمن بين هذه الدول الثلاث – مصر والسعودية والإمارات – من جانب، ومن الجانب الآخر التنظيم الدولي للإخوانجية الذى يشكل النظام السوداني ونظام رجب طيب أردوغان جزء أصيلاً منه، مع الحليف الإيراني المعروف وأصدقائه الحوثيين وحزب الله في لبنان والعلويين السوريين. وبالتالي فإن أي تقارب أو تعاطف مع النظام السوداني هو عبارة عن غفلة خطيرة ليس لها شبيه إلا غفلة نيفيل شامبرلين الذى أبرم إتفاقية ميونيخ عاام 1938 مع أدولف هتلر وسمح له بموجبها أن يقوم ببعض التعديلات الحدودية مع النمسا وتشيكوسلوفاكيا، وكان من جراء تلك الإتفاقية أن تم إطلاق جيش الرايخ الثالث من عقاله ليجتاح النمسا ثم تشيكوسلوفاكيا، ثم يتوغل في بولندا ويتجه غرباً مكتسحاً بلجيكا وهولندا وفرنسا – باختصار أن يخوض الحرب العالمية الثانية. إن أي غفلة تجاه الفاشيين الجدد – الإخوان المسلمين - ستقود لنفس المصير الذى حاق بالعالم الحر جراء التساهل مع هتلر APPEASEMENT. والسلام.