أمريكا تسير في الاتجاه الخاطئ في السودان: أو النوم مع الشيطان

 


 

 

إبراهيم علي إبراهيم المحامي-واشنطن

 

صدم السودانيون بالموقف الأمريكي الداعم للمؤتمر الوطني في اكبر عملية تزوير تشهدها الحياة السياسية السودانية. وتجلى الموقف الأمريكي في دعم نظام البشير الشمولي، رغم كل ما وصمته به الإدارة الأمريكية على مر تاريخه من بطش ومصادرة للحريات السياسية والمدنية، عندما اعترف الجنرال غريشون مبعوث الإدارة لدى السودان بتزوير الانتخابات في جلسة خاصة مع الجالية الجنوبية بمنطقة واشنطن. قال السيد غريشون في هذا الاجتماع "كلنا يعلم أن الانتخابات مزورة وواجهت صعوبات عدة لكننا سوف نعترف بها من اجل الوصول لاستقلال جنوب السودان وتفادى العودة إلى الحرب". ولم يكتف السيد غريشون بهذا الاعتراف بل سخر بصراحة اشتهر بها من كل الذين لا يعلمون بالتزوير أو يتوقعونه واتهمهم بالغفلة وسوء الفهم السياسي.

 

ورغم إعلان البيت الأبيض ووزارة الخارجية بأن الانتخابات السودانية معيبة ولم تكن حسب المعايير الدولية، وتفتقر إلى الإجراءات السليمة، أعلنت الإدارة الأمريكية أنها مضطرة لقبولها والتعامل مع الفائزين باعتبارها احد شروط اتفاقية نيفاشا، وشرطاً مسبقاً prerequisite  لحق تقرير المصير. 

 

في تلك الانتخابات سيطر المؤتمر الوطني على عملية الانتخابات سيطرة تامة منذ البداية تحت سمع وبصر المبعوث الأمريكي أن لم يكن برضاه، ابتداء من قانون الانتخابات والسجل الانتخابي وتقسيم الدوائر إلى عملية الاقتراع التي كانت أشبه بالمسخرة التي شهد عليها العالم. ولم يحاول السيد غريشون وقف هذه المهزلة في حدها، كما لم يسع في البداية إلى مقابلة قادة الأحزاب التي قررت أن تخوض التجربة رغم عيوبها إلا عندما اندلعت أزمة انسحاب مرشحي الرئاسة، فجاء تدخله خصماً على متطلبات التحول الديمقراطي، وعمل ليل نهار من اجل إقناع الأحزاب بالمشاركة وضمان فوز البشير بالرئاسة.

 

جاء الموقف الأمريكي على عكس تمنيات القوى الديمقراطية التي تسعى من اجل التحول الديمقراطي في السودان، وجاء داعماً للشمولية بحيث وقف على الضد تماما من تطلعات القوى الديمقراطية ومناقضا للمبادئ الأمريكية الداعية للديمقراطية وإشاعة الحريات المدنية والسياسية في العالم الثالث.    

 

الموقف الأمريكي يعلي من شأن الاستفتاء على حساب الانتخابات والتحول الديمقراطي، وهذه موقف مفهوم ولكنه يقوم على افتراض خاطئ. هذا الافتراض يقول بأن البشير هو الضامن الوحيد لقيام الاستفتاء بصورة ناعمة دون أي مشاكل أو تعقيدات. لذلك ، بحسب هذه النظرة، ليس من مصلحة الإدارة الأمريكية دعم القوى الحزبية الأخرى الساعية لإحداث تحول ديمقراطي وتحقيق الوحدة العادلة في البلاد، طالما أن هنالك شكوك تحوم حول مدى جديتها في تنفيذ الاستفتاء، وليس من مصلحتها صعود قوى جديدة للقصر الجمهوري والبرلمان من شأنها أن تستدعي نيفاشا لقبة البرلمان للتصويت عليها من جديد.

 

هذا التخوف القديم عبرت عنه أيضا القوى الوطنية الجنوبية "الانفصالية" داخل الحركة الشعبية وخارجها. وهذه القوى هي نفسها التي عملت على إجهاض التجمع الوطني الديمقراطي وإعلان موته بمجرد رجوع قوى المعارضة للداخل بعد التوقيع على اتفاقية السلام الشامل، خاصة وان التجمع له تاريخ طويل ومواثيق مشتركة تدعو للعمل من اجل الوحدة على أسس عادلة، وذلك حتى تعطل كل الآليات التي كان من الممكن أن تلعب دورا ملموساً في الدعوة للوحدة. وقد عبر عن نفس هذا الفهم أيضا السيد سلفاكير نفسه مراراً بأن البشير هو الضمان الوحيد لإجراء الاستفتاء.

 

كذلك جاء الموقف الأمريكي نتيجة لربط غريب وخاطئ بين قيام الانتخابات وكونها شرطاً ضرورياً لإجراء الاستفتاء في جنوب السودان. لذلك تركز اهتمام الإدارة الأمريكية على شكل الانتخابات فقط دون جوهرها حتى توهم نفسها بأن الاستفتاء سيتم في ظل حكومة منتخبة كما توحي نيفاشا بذلك. لهذا السبب توارى هدف التحول الديمقراطي من الأجندة الأمريكية.

 

لذلك–في نظر الإدارة الأمريكية- كان لابد من تنفيذ "انتخابات ما" في ظل تخوف كبير من أن تؤدي أية انتخابات حقيقية حرة ونزيهة وعادلة إلى تغيير حقيقي في القوى الحاكمة بصورة تعني تغيير القوى الموقعة على الاتفاقية خاصة في الشمال، مما يهدد الاتفاقية برمتها إذا تم التصويت عليها داخل البرلمان كم أسلفنا. كما سادت تخوفات أخرى عبرت عنها منظمة الأزمات الدولية من أن البشير لن يسلم السلطة إذا خسر الانتخابات. لذلك كان لابد من تفصيل انتخابات ما على مقاسه. وتكمن مأساة هذا الافتراض الخاطئ في أنه يجعل من انتخابات فاسدة شرطاً جوهرياً وضرورياً لقيام استفتاء صحيح. فكيف يستقيم استفتاء سليم يقوم على أعمدة انتخابات فاسدة؟

 

هذا التخوف بالطبع لا أساس له من الصحة ومتناقض مع نفسه، لأن نفس قوى المعارضة وقياداتها الراهنة هي التي احتضنت مبدأ حق تقرير المصير ودعمته يوم كان مجرد فكرة يتخوف من ترديدها الجميع باعتبارها خيانة وطنية عظمى. وأكدت قوى المعارضة على ذلك في جميع مواثيقها ابتداء من إعلان اسمرا للقضايا المصيرية، مرروا بتأكيدها لدعم اتفاقية السلام وقبولها بها رغم تهميشها لجميع الأحزاب، وتأكيدها المستمر في التزامها بها إذا فازت بالانتخابات أو شاركت في الحكم عبر حكومة قومية متفق عليها.

 

إذن ليس هنالك ما يدعو للخوف من صعود هذه القوى إلى سدة الحكم أو البرلمان، ولكن الخوف الحقيقي على الاستفتاء ينبع من الرئيس البشير نفسه ومن التهديدات التي ظل يطلقها لقادة الحركة الشعبية وللمجتمع الدولي بقدرته على إلغاء حق تقرير المصير أو تعطيله. وظلت هذه هي وسيلة الضغط التي يملكها ويساوم بها الحركة الشعبية والأمريكان معاً لإطالة أمد بقائه في السلطة لسنوات أخرى. وبعد أن قام المؤتمر الوطني بتزوير الانتخابات بهذه الصورة المذهلة فكيف يضمن هؤلاء ألا يقوم نفس النظام بتزوير الاستفتاء طالما أن القانون يتيح له المشاركة في إجراءاته.

 

تكمن خطورة الموقف الأمريكي وتناقضه في أن مساعدة الإدارة الأمريكية عبر مبعوثها غريشون لنظام الإنقاذ ليقوم بتزوير الانتخابات واختطافها كاملة وسكوتها على ذلك، في انه من شأنه يرسل رسالة خاطئة للبشير، قد تشجعه على إلغاء أو تزوير نتيجة الاستفتاء بنفس القدر الذي فعله في الانتخابات. وبالفعل فهم البشير "غض الطرف" الأمريكي خطأ وفهم مجهودات السيد غريشون لتليين مواقف الحركة الشعبية والأحزاب السياسية تجاه المشاركة في الانتخابات خطأ أيضا، حيث فسرها بالعبارة المشهورة التي أطلقها "أن الأمريكان يقفون معنا". هذا صحيح ولكنه إلى حين قصير. ويغني عن القول ما ذكرته صحيفة نيويورك تايمز "طالما أن الرئيس السوداني المطلوب للمحكمة الجنائية يستطيع أن يقول هذا فعلى الإدارة الأمريكية مراجعة سياساتها الخارجية تجاه السودان."

 

هذا الموقف غير المنسجم على علاته، إلا انه لم يكن المقصود به بالطبع الوقوف إلى جانب البشير أو منحه شرعية "دولية" ما،  بقدر ما كان مقصوداً به حماية حق الاستفتاء لشعب الجنوب من شرور النظام وأي تهورات قد يقوم بها، لضمان قيام دولة الجنوب الجديدة بسهولة ويسر. كذلك يتسم هذا الموقف بعنصر التأقيت، فهو موقف مؤقت وليس نهائي كما صرح بذلك السفير الأمريكي لدى الاتحاد الإفريقي، ويدل على ذلك أيضا تصريحات النائب فرانك وولف عضو الكونغرس الذي طالب في مؤتمر صحفي اليوم الإدارة الأمريكية بتغيير سياساتها تجاه السودان وعدم الاعتراف بنتائج الانتخابات الأخيرة. وأخيرا، يفسر هذا الموقف مدى استغلال الإدارة الأمريكية لغفلة الجنرال البشير وسوء تقديره، لتنفيذ الأجندة الأمريكية في فصل الجنوب. وربما كان صحيحاً انه لن يفعل ذلك أي حزب سياسي أفضل من حزب البشير.

 

هذا الموقف لا يعني بالضرورة أن الولايات المتحدة ستقوم برفع العقوبات بشكل نهائي بمجرد إعلان فوز البشير بالانتخابات، أو بمجرد إجراء الاستفتاء وإعلان استقلال جنوب السودان، ولن يتم ذلك في اعتقادي مهما أعطى البشير ونظامه للإدارة الأمريكية، لأن ذلك من شأنه أن يقلل من مصداقية الولايات المتحدة أمام المجتمع الدولي خاصة أنها قد أعلنت تأييدها لنظام المحكمة الجنائية الدولية، ويعطي إشارات سالبة للمجتمع الأمريكي كما أكدت ذلك السيدة هيلاري كلينتون مؤخراً. فمن المتوقع أن تستمر الولايات المتحدة في نفس السياسة مع نظام البشير الذي اثبت أن هذه هي الطريقة المثلى للتعامل معه إلى أن يتم الانتقال سلمياً وترتيب أوضاع الدولة الجديدة في جنوب السودان، وعندها ستنشأ أوضاع جديدة يصعب التكهن بها الآن إلا أن كل الدلائل تشير  إلى أنها  لن تكون في صالح نظام البشير الذي سيفتقد وقتها ورقة جنوب السودان وسلام نيفاشا التي كان يساوم بها المجتمع الدولي. وبعدها سيعلم الذين ظلموا أي منقلب سينقلبون.

 

* باحث قانوني متخصص في شئون الكونغرس     

 

Ibrahim Ibrahim [ibrali7@hotmail.com]

 

آراء