خضر بشير: سِر كَسرة (الله فوق زوزو) في أغنية “إيهِ يا مولاي” 

 


 

 

قصيدة (إيهِ يا مولاي إيهِ) للشاعر محمود أبو بكر (1918-1971م) صاحب ديوان (أكواب بابل من ألسنة البلابل) من القصائد الخالدات في الشعر السوداني الحديث. وهو شاعر النشيد الوطني الشهير (صَهْ يا كنار).

وغنى له الفنان الرائد، أحمد المصطفى قصيدة (زاهي في خِدره)، يقول فيها: "كُفرة نيرانها زي جهنم..، تحرق الجنب الشمال"، من شوارد البلاغة النادرة: سهولة ممتَنعة، تمتزج فيها نيران المدافع بنار الغرام. فالأغنية من وحي الجبهة الليبية في الحرب العالمية الثانية حيث كان الشاعر ضابطا مقاتلاً في قوة دفاع السودان في صف الحلفاء.

وأما قصيدة (إيهِ يا مولاي إيهِ) فقد لحنّها الموسيقار اسماعيل عبد المعين، أحد بناة صرح الأغنية السودانية الحديثة العِظام، وتغنى بها لأول مرة مطرب (الحقيبة) المتميز، فضل المولى زنقار، بمصاحب آلة العود والكورس، والراجح أن اسماعيل عبد المعين نفسه هو من صاحب زنقار في العزف على العود، فبصمته الموسيقية لا تخطئها الأذن. وقد لاحظنا أن اللحن مبني على الإيقاع الشائع في الغناء الشعبي الجماعي لدى نوبة الشمال.

وأغلب الظن أن ظهور الأغنية بصوت زنقار كان في منتصف ثلاثينيات القرن العشرين أو أواخرها. ويوجد لزنقار تسجيل محفوظ من الأغنية بصوته الأصلي غير (المُقلِّد) وهو صوت شجي عال التطريب، وقد سجلّ به أيضاً أغنية (يا عروس الروض يا ذات الجناح) لشاعر (المِهجر) واللبناني ألياس فرحات.

ثم جاء خضر بشير (الراهب المتبتل في محراب الفن) وغنى قصيدة (إيهٍ يا مولاي) في مطلع ستينيات القرن العشرين مع تعديل في لحن عبد المعين/ زنقار. لكن خضر بشير لم يعدل في اللحن وحسب، بل قَفل الأغنية بكسرة من كلمات وعبارات عامية غير موجودة في نص القصيدة الأصلي الفصيح جاءت كما يلي: .


علموا الزوزو / الله فوق زوزو

يا حلاة زوزو

أو أوو يا حلاة زوزو

زوزو طربانة/ طربانة، طربانة

يا حلاة زوزو


والكسرة أو القفلة كانت ظاهرة مميزة للأغنية السودانية الحديثة. وهي لحن راقص سريع الإيقاع وقصير تختتم به الأغنية ويختلف عن اللحن الأساسي وكلماته ليست في مستوى كلمات النص الأصلي إذ تغلب عليها السوقية وألفاظ العامة. وكانت هذه الألحان والإيقاعات التي تختتم بها الأغاني معروفة للجمهور ويطلقون عليها أغاني الكسرات. واشتهر قولهم: "كسرة يا أبوعلي" يريدون حسن عطية أن يختم الأغنية بكسرة راقصة "حارقة، منضجة" على حد تعبير ابن سناء المُلك كما سيأتي بيانه.

وأغلب الظن أن هذه الكسرة أو القفلة كان يرتجلها المطرب ارتجالاً أثناء الغناء مما تجود به قريحته أو ربما قد تكون مما علق بذاكرته من أغنية شعبية مثل أغاني (التم تم) آنذاك أو مقطع من لحن سوقي رائج أو مما يترتم به في "القعدات" إلخ.

وقد اتضح لنا مؤخراً أن هذه الكسرة أو القفلة ليست ظاهرة خاصة بالأغنية السودانية بل ظاهرة مميزة وبنية أساسية في أغنية الموشح الأندلسي. وأبرز ما يميز بنية هذا النمط من الشعر الذي اشتهرت به الأندلس: التشطير والتسميط. التشطير هو اعتبار الشطر المقفى بيتاً مستقلاً لوحده. والتسميط هو تنويع القافية في القصيدة من قسم إلى آخر.

ولو نظرنا من هذه الزاوية إلى شعر أغنية (الحقيبة) السوداني نجد أن نظمه قد جاء أكثره على نسق شعر الموشحات. وقد نظم محمود أبو بكر قصيدة (إيهِ يا مولاي) على منوال الموشح.

ووجدنا أن كسرة "الله فوق زوزو" التي قفل بها خضر بشير الأغنية تنطبق عليها كل المواصفات التي يشترط وجودها في قفلة أغنية الموشح. فقد جاء في كتاب (دار الطراز في عمل الموشحات) لابن سناء المُلك (550-601 هــ) عن خصائص القفلة قوله:

"الخرجة عبارة القفل الأخير في الموشح. والشرط فيها أن تكون من قِبل السخف، قزمانية من قِبل اللحن، حارة محرقة، حادة منضجة، من ألفاظ العامة ولغات الخاصة..، وقد تكون عجمية اللفظ بشرط أن يكون لفظها في العجمي أيضاً سفسافاً..،" انتهى.

وكل ذلك طبّقه خضر بشير بحذافيره في كسرة أغنية (إيهِ يا مولاي) للشاعر محمود أبوبكر. وهنا لا بد من توضيح، وهو أنه باستقراء النماذج التي توفرت لدينا من الموشحات بدأ لنا أن هذه السمة في "الخرجة" لا تتوفر في الموشحات ذات الطبيعة الشعرية البحتة مثل موشح (أيها الساقي) لابن المعتز، وموشح (هل درى ظبي الحِما) لابن سهل، وموشح (جادك الغيث) للسان الدين ابن الخطيب وغيرها.

هذه الخرجة أو القفلة ذات الصبغة العامية أو العجمية تتوفر في الغالب الأعم في الموشحات ذات الصبغة الغنائية واللحنية البحتة والتي وضعت أصلا لتغنى. والغالبية العظمي من الموشحات التي أوردها ابن سناء المُلك بكتابه جاءت خرجتها أو قفلتها في لغة العامة. ومن ذلك مثلاً الموشح الذي ينتهي بهذه الخرجة:


ومذ رحلتَ غَنَى الجَّوَى في صدري:

(سافر حبيبي سحر وما ودعتو

يا وحش قلبي في الليل إذا افتكرتو)


والواضح أن هذه الخرجة أو القفلة الموضوعة بين أقواس بحسب الأصل، هي أغنية شعبية استعارها الشاعر أو المغنى ليختم بها هذا الموشح.

هذا ولم يكتف خضر بشير في أغنية (إيهِ يا مولاي) بكسرة (الله فوق زوزو) على طريقة الموشحات، بل أضاف إلى القصيدة أبيات (مربع) وضعها قبل الكسرة مستعارة من قصيدة للشاعر والكتاب الكبير عباس محمود العقاد وهي:


ذهبيٌ الشَّعرِ ساجي/الطرفِ حلو اللفتاتِ

وحــيـــيٌ لا يحـــــييك / إلا بالبســـــــــمـــــــاتِ


وهذا أيضا تقليد في أغنية الموشح حيث يستعير الشاعر أو المغنى أحياناً الخرجة من قول شاعر آخر. ومن الأمثلة التي أوردها ابن سناء المُلك في مؤلفه على هذا التقليد، استعارة "ابن بقي" الأندلسي لبيت من الشاعر العباسي ابن المعتز وجعله خرجة لموشحه والذي ينتهي بهذه الأشطار:


لستُ أشكو غيرَ هجر مواصلْ

مذ مَنعتُ القلبَ عن عذلِ عاذلْ

وتغنيــتُ لهـــم قــــولَ قايـــــل:

(علمـونــي كيـف أســــلو وإلا

فاحجبوا عن مقلتيّ الملاحا)


وبيت ابن المعتز المستعار هو الموضوع بين أقواس بحسب الأصل كما أبثته ابن سناء.

والأكثر إثارة للدهشة أن ابن سناء المُلك له موشح أبثته بكتابه المذكور وخصصه في رثاء القاضي "الفاضل" كما يقول، ومع ذلك يختمه بما يبدو أنه أغنية شعبية عامية تشبه كثيراً كسرة أغنية خضر بشير. يبدأ الموشح المرثية بقوله:


أرى نفســي لقلبي واهبــــهْ

ولم تحفل بحسن العاقبةْ

ثم يختم الموشح بهذه الخرجة:

يا نانا المليحة غالبة

يا نانا لقلبـــي ســالبــة

شكتني لَمّها

وقالت ذا الغلام

لقيني في الظلام

إلخ ......

وربما اصطنع ابن سناء المُلك هذه الكسرة أو الخرجة ليصور بها صبواته أيام الشباب حين لم يكن "هادم اللذات" يخطر له ببال، فينتبه برحيل زميله القاضي "الفاضل" الذي يرثيه في هذه الموشحة.

و"نانا يا نانا" أغنية خفيفة للمطرب الكبير سيد خليفة، وهي أصلاً كما نرى أغنية "كَسرة" أخذها سيد خليفة وبنى عليها أغنية مستقلة. تقول الأغنية في أولها:


نانا يا نانا

واحدة بس، واحدة في قلبي

حنّانة، منّانة

كسلانة، كاتلانا

باللَجَنة تتانى

ما تردي يا نانة


والجدير بالذكر أن خضر بشير لم يغني كل قصيدة (إيهِ يا مولاي) بل اختار منها أبياتاً بعينها وهي ذات الأبيات التي غناها زنقار، ما عدا مربعين غناهما زنقار، ولم يغنيهما خضر بشير.

وقد جاءت القصيدة على بحر الرمَل المجزوء، ووزنه: "فاعِلاتن فاعلاتن/ فاعلاتن فاعلاتن". والرمَل بحر سلس "وعذب النغمات، ورنته سهلة" مطواعة في الغناء لذلك كثر نظم الموشخات فيه. والأبيات التي يتغنى بها خضر بشير من قصيدة محمود أبو بكر هي:


إيهِ يا مــــولاي إيـــــــهِ/ مــــن حــــديثٍ أشـــتهيهِ

وجـــمالٍ أنت فيـــــــهِ/ بغيــــــة القلـــبِ النزيــــــــــهِ


عسس الليـــــلُ ونامـــــــا/ واكتســى الوادي ظلاما

إنْ يكُ الصمتُ رهيباً / إنَّ فـي الصــمتِ كلاما


فإذا الوجـــــــه تجلـــــــى/  فوقــــــه الشَّــــعرُ تدلـــى

عجـــبتْ عينـــيّ لبـدرٍ/ منك بالليـــــلِ اســــــتظلا


فاشربي كأسَ الضياءِ/ نخــــبَّ حُـــبِّي ووفائـــي

أنا فــــــــي عــينيك راءٍ / بعضُ آيـــــاتِ الســـــماء


وارددي الكأس إليّـــا/ كســــــــرها غالِ عليــّـا

إنها أروتْ ظميــــــاً/ وافيـــاً مــــــا دام حيـــّـا


وإذا البـــانُ تثنــــــــى/ وإذا البلبــــلُ غنــــــــــى

فاعلمي يا هند أنّا/ نكتمُ الحـــبَّ ونفنــــى


مصادر:

1- ابن سناء المُلك، دار الطراز في عمل الموشحات، تحقيق: جودة الركابي، دمشق، الطبعة الأولى 1949

2- الصاغ محمود أبو بكر، ديوان: أكواب بابل من ألسنة البلابل، الطبعة الثانية، 1964

3- محمود أبو بكر، ديوان: أكواب بابل من ألسنة البلابل، إعداد وتحقيق: رجاء وحسن محمود أبو بكر، (رقم إيداع2/2010).

4- معاوية حسن يس، من تاريخ الغناء في السودان، الجزء الأول، عبد الكريم ميرغني،2005


عبد المنعم عجب الفَيا

25 يونيو 2022


abusara21@gmail.com

 

آراء