كثير من الذين يتهيّبون المعارك، التي تعيد النظر في المسلمات، يبعدون عن ثالوث ( السياسة والدين والجنس ). اليوم تراجع شياطين التنظيم وانتزعت منهم سلطتهم، بعد أن احتل الأمين العام رأس الانقلاب بمصيّدة المكر، وصُنع مكيدة سياسية اعتمدت الكذب على الآخرين. فكانت تطعيم أغراضه السياسية ببهار التديّن، فجمع كل المتدينين والارهابيين، من كل حدب وصوب. وجعل لهم منبراً واحداً: هو توحيد أهل القبلة الواحدة، التي يرغب أمين التنظيم أن يجر التاريخ بمكنسته الساذجة، وينهي خلاف السنيين والشيعة في لمح البصر!.
*
كان همّ أمين عام التنظيم هو صناعة أسطورة، جديدة قديمة. يعيد ليس صياغة الإنسان السوداني فحسب، بل إعادة الدولة التي توسعت في العالم القديم أيام دولة الأمويين. وأن يصنع تاريخاً جديداً لها، من بلدٍ ينطلق منه كمقدونيا، بقعة صغيرة نشأ فيها الإسكندر، فكبُرت دولته في معظم أنحاء العالم الحضاري القديم. طموح أراد زعيم تنظيم الإخوان المسلمين أن يوصله إلى الخلافة!.
كانت الدنيا عصيّة على الانقياد، ولكنه تمرّن على الصبر المُرّ، فطموحه غير عادي. انتظر خبيزه لينضج، على نار هادئة. جزء من صبره أن يتحالف مع أعدائه، يبسط لهم يد الشراكة وهم في السلطة، وفي نفسه يضمر غير ما يبطن، يداريهم من أحوال الحياة السياسية ومطباتها ما استطاع إلى ذلك من سبيل، ليأخذ منهم بقعة صغيرة، يشيّد عليها مملكته.
(2)
جادل القيادة التاريخية لحركة الإخوان المسلمين في السودان، وانتصر أتباعه حين خطط لنهج جديد، يصل به للسلطة. كان قد قرر الانسلاخ التدريجي عن التحالف مع الجبهة الوطنية، وإقامة تحالف مع القوميين العرب، حين ظفروا بالسلطة بعون الاستخبارات المصرية. وبدأ حلفه مع حركة مايو منذ أن التقى الصادق المهدي بجعفر نميري في بورتسودان عام 1977. فلنفك الغلاف عن شخصية الرجل الداهية، وخير وسيلة له أن يداهن أصحاب السلطة ويعاونهم كي يجد لتنظيمه طريق سالكاً، ويبسط يده داعماً لأصحاب السلطان في كل خطوة يخطونها. هو الذي أشار على رأس السلطة بأن يستقدم بنك فيصل الإسلامي للسودان، البذي مول جرائم البيئة حين تم تحويل معظم غابات السودان إلى فحم خدمة للتنظيم. كان الغرض النبيل هو أن يبني اقتصاداً له علاقة بالدين كما يرى الإنسان العادي، بعيداً عن ( الربا), وذلك مدخلاً لمعرفة خبايا نفوس الرجل، الذي صار مع الزمان أميناً عاماً للتنظيم المتغير الأسماء و ديكتاتوراً، ولكن الديكتاتورين العسكريين: نميري وعبود، على المستوى الشخصي، لم يكونا فاسدين مالياً وإن كانا يمتازان بفساد سياسي ونهجاً دكتاتورياً. ليس لنميري مال أو عقار خاص به، وكذلك الفريق عبود، ولكن الأخير لديه مسكن بناه له البنك العقاري السوداني وتخصم أقساطه من مرتبه الرسمي، ومنحه تحالف الأحزاب في أكتوبر 1964منحة، أن أعفاه من دفع بقية أقساط البناء قبل إحالته للتقاعد. ومقارنة بالاثنين جاء عمر البشير بفساد مالي مشهود، وسرقة المال العام الذي هو نهج تنظيم الإخوان المسلمين، ذلك بخلاف جرائم الاغتيال والاغتصاب والسجن وتعذيب خصومه.
نموذج لكيف كان إبراهيم عبود ليست له علاقة بالفساد المالي؟
سنروي قصة أوردها الاقتصادي " إبراهيم منعم منصور " في دفتر مذكراته.
(3)
أورد " إبراهيم منعم منصور " ص 41
نورد القصة التي تثبت مع قصص كثيرة أن الرجل لم يكن فاسداً مالياً:
{ زار الرئيس عبود مدينة النهود. واشتكى له المواطنون من شيء واحد فقط: الماء. فأصدر توجيهاً، بل أمر وزارة الأشغال التي كانت تتبعها هيئة توفير المياه، بحل المشكلة في أقل من عام. وفي لحظات الاستعداد لافتتاح مشروع المياه بعد أن تم حل المشكلة بعشرة آبار، اتصل بي من أسمى نفسه رئيس اللجنة العليا للضيافة، وأنا موظف بوزارة التجارة والصناعة والتموين. وأبلغني تعييني مندوباً مفوضاً للجنة الخرطوم، وطلب مني التعاقد مع السيد مدير المرطبات ( مصلحة حكومية كانت تتبع للسكة حديد) بأن يرسل إلى مدينة ( أبو زبد ) آخر محطة في السكة حديد بالقرب من النهود، عربة ( ثلاجة) بها قدر وافر من الثلج وكمية من ( السمك) لإفطار الرئيس عبود الذي سيفتتح المشروع، هو ونفر من القيادات. كما طلب رئيس اللجنة العليا ألا ننسى أدوات الأكل من ملاعق وشوك وسكاكين، وكذلك العاملين لخدمة الضيوف من الفندق الكبير، وأن أوقّع على الفاتورة لكي يتم تحويل التكاليف تلغرافياً لمدير المرطبات، قبل تحرك عربة السكة حديد. أمهلني السيد " علي حمو" ساعة وطلب مني التواجد قرب التلفون ليؤكد لي التجهيزات.
وفي أقل من ساعة اتصل السيد " علي حمو" وقال لي: كلم عمك. قال المتحدث:
( أنا عمك إبراهيم عبود. مين الحمار القال أنا ماشي النهود آكل سمك وأشرب موية بتلج ؟ كلمهم قول ليهم، أنا ماشي أفتتح مشروع الموية، وعاوز أشرب الموية دي في زير أو سِعن قِربة أو زمزمية ، كما أني جاي في ضيافة شيخ منعم، وأكيد سوف يذبح لي خروف وآكل معه الشية والمرارة وملاح التقليَّة ).
حاضر جنابك
(4)
كثير من السادة القراء يذكر قصة الصراع بين قاطن فيلا المنشية، وقاطن القصر الجمهوري والذي انتهى بما يسمى بالمفاصلة عام 1999، فلنقرأ من كتاب "المحبوب عبد السلام " عن العشرية الأولى من الإنقاذ، وقد كان "المحبوب" في ماضيه قيادياً مستتراً في مباني القصر.
ص 434-435:
{ لقد جاءت ثورة الإنقاذ تخفي وجهها الإسلامي أول الأمر، وأدارت الحركة والدولة في صيغة يغلب فيها الظاهر الباطن، تُقدر قيادة الحركة يومئذ الضرورة لتأمين ثورتها أن توأد في مهدها، وتمادت في التمويه كذلك أكثر مما يجب، حتى غدت حيلتها الموقوتة مخادعة يعيّرها خصومها، ذلك أن للحركة عهود سابقة ازدوجت فيها أعمالها بين الظاهر والباطن، فكانت جبهة الميثاق الإسلامي الحزب الظاهر الذي تواثق أعضاؤه على عهد معلن، وهي تزاول عملها كله علناُ حزباً بين أحزاب التعددية البرلمانية، ثم في الباطن يكمن كيان الإخوان المسلمين، مهما ينسلك كله في الجبهة وينشط أعضاؤه في سائر برامجها وعملها، لكنه يستتر بنظامه الإداري والمحاسبي وببعض برامجه في الثقافة والتزكية، أو يعزل بعض فئاته شأن الطلاب للتنظيم لا يصل إلى شركائهم في الجبهة. وهي ذات تجربة الجبهة الإسلامية القومية، مهما توسعت شعبيةً أضعاف جبهة الميثاق، فقد اشتدت ضرورة الحاجة للباطن الذي تكمن فيه الأجهزة الخاصة اللازمة للتأمين، وقد غدت الحركة كبيرة تستدعي الخطر و توجب الحماية، ثم هي الأجهزة اللازمة للتمكين وقد تقارب أجله بين يدي الحزبية الثالثة.}
(5)
ذهبتُ مرة لزيارة فيلا المنشية في 1984 قبل اكتمالها وكانت في مرحلة التشطيب، عندما كان صاحبها الأمين العام للتنظيم مستشاراً قانونياً لرئيس الجمهورية، وتفقدتها كمهندس. وشد انتباهي أن حوالي ثلثا المساحة المبنية في طابق البدرون. من المفترض أن يكون طابق البدرون حسب ما مُخطط مكتبة كبرى. وخزانات حائط في جميع الاتجاهات للمكتبة، وقاعة اجتماعات كبرى في وسط المكان. وفي ذات المبنى طابقين مُدمجين مع المبنى الرئيس لسكان الخدمة المنزلية وأسرهم، وهم الذين يخدمون الساكن الأساسي وعائلته والضيوف 24 ساعة. يخدمون وفق الطلب. ويدخلون الفيلا الرئيسة عبر مدخل باب يقود للمطبخ.
(6)
ورد نص في الذكر الحكيم أن مولانا، يؤتي الملك منْ يشاء من خلقه بغير حساب، ولكنه عندما يريد أن ينزع الملك نزعاً ييسر ذلك الفعل ويحدث بيسر ومفاجأة. إن للثورة ميعادٌ لا يدخل حيز الحساب والتقدير، كي تتخذ الاحتياطات وتمنعها، بل يهب إعصار الثورة كانفجار بركان في باطن المحيط ، فتأتي أمواجه فتبتلع كل شيء.
عبدالله الشقليني
14 مايو2019
alshiglini@gmail.com