أنا والحزب الشيوعي السوداني: من التأثر إلى الثورة

 


 

 

د. عبد المنعم مختار

أستاذ جامعي متخصص في السياسات الصحية القائمة على الأدلة العلمية

ما صدقت الخبر الفاجع
فدخلت عليه الراقد
صرخت في كلتا أذنيه:
ايليتش أعداء الثورة قادمون
فلما لم يهب واقفاً
أدركت أنه قد مات

***
الفارس معلق ولا الموت معلق
حيرنا البطل
يا ناس الحصل
طار من سجنه حلق
فج الموت وفات
خلى الموت معلق
في عيننا بات
وسط الناس نزل
من كل الزوايا
ممدود الايادي بالخير والتحايا
والحزب الشيوعي

***
في انتظارك وفي انتظارك
وفي شراييني بيدمدم حس قطارك
لو افوت السجن واسكن في جوارك
وامسح برموش العين غبارك

أعلاه ما علق في الذاكرة من شعر لكتّاب شيوعيين لأكثر من أربعين عاماً دون أدنى تصحيح أو مراجعة. وأنا الآن أحب شعرًا آخر.

مشهد أول

كان اسمي الحركي الوحيد هو "محمد الأول"، وقد أطلقه عليّ الخال الحبيب دكتور كمال محمد عطية والخالة العزيزة أسماء، أخته الأصغر المحامية، عندما شرعوا في تسجيل قصائد ثورية بصوتي عندما كنت في حدود الثامنة من العمر. قاموا بتحفيظي عدداً من القصائد الثورية لكتّاب شيوعيين مثل محجوب شريف، وساعد في التحفيظ تلحين القصائد على إيقاع "المفراكة" وهي تهوي على قاعدة الحلة المحترقة. كان هذا مثيراً لي كطفل، كما كان مثيراً تغيير السيارات وصولاً إلى منزل "جالوص" مؤمن حيث قمنا بالتسجيل. حسب علمي اللاحق، تم توزيع التسجيل الصوتي على المعتقلين السياسيين في شتى سجون السودان.

مشهد ثانٍ

البروف، كما يحلو لنا أن نطلق على الخال عبد المنعم محمد عطية، صديق وجار الوالد، كان يختلي بمحمد إبراهيم نقد، إن لم تخني الذاكرة، في حوش دارنا المستأجر في باطنية امتداد ناصر، عقب إحدى الليالي السياسية دعماً لترشيح فاطمة أحمد إبراهيم في دائرة البراري عشية انتخابات 1986 في السودان. سمعت نقاشات ونقداً خشناً لنقد من البروف، ولم أفهم الكثير لأنني كنت في الرابعة عشرة من عمري، ولكنني أعجبت بتهزئة رئيس الحزب الشيوعي العظيم من قبل خالي.

مشهد ثالث

الاغتيال السياسي لابن الدفعة طارق محمد إبراهيم خلال سنة الدراسة الجامعية الأولى، عقب إهانة التدريب العسكري الإجباري في معسكر القطينة، شكل صدمة كبيرة بالنسبة لي. كتبت قصيدتين هتافيتين ضد العسكر والجبهجية والترابي والتنقاري، بالأسماء، وبدأت أتجول في جميع مجمعات جامعة الخرطوم، في سنين بيوت الأشباح، لأزعق بهما في وجه القتلة. تم اعتقالي وتعذيبي، وأدخلت نتيجة لذلك إلى غرفة الإنعاش المكثف، وحييت الموت مثل لوركا، ولكنني نجوت.

مشهد رابع

سكنت معظم سنتي الدراسية الأولى في مكتبات جامعة الخرطوم في مجمع الوسط، حيث كنت أقرأ في الحب والكراهية، في الاحترام والإذلال، في الفلسفة، التاريخ، الجغرافيا، الدين، السياسة، الاقتصاد، علم النفس، الاجتماع، وغيرهم. اكتشفت خليط الاجتماع بكل ما سبق وشغفت بفلسفة الاجتماع البشري وعلم النفس الاجتماعي واقتصاد السوق الاجتماعي. هنا كان كارل ماركس وفريدريك إنجلز، وغوستاف إدرينغ، وجورج لوكاتش، ومحمد عابد الجابري، وأنطونيو غرامشي، وعبد الله العروي وغيرهم من اليسار واليمين حاضرين. لكنني لم أصبح شيوعياً رغم النشأة، وذلك بفضل القراءة.

مشهد خامس

سبقتُ في نعيه بـ "حسن الكضاب"، ونعته آخرون لاحقاً بـ "حسن طرحة". كان هذا الكائن أداة الحزب الشيوعي السوداني عبر واجهة الجبهة الديمقراطية بالجامعات لاتهامي بالكوزنة والأمنجة أيضاً، والدليل فقط أن خاله الشيوعي قال، وهو لم يقل. بدأت الملهاة في أركان نقاش بجامعة أم درمان الأهلية، التي قمت بتدريس طلبة الطب بها بعد الثورة الأخيرة، وانتهت عبر أركان نقاش في جامعة الخرطوم ابتدرتها أنا للتصدي لجائحة الإفك التي، لو تعلمون، كانت مؤلمة الأثر على شاب مثالي لم يبلغ الرابعة والعشرين بعد، وكاد أن يتولى منصب السكرتير العام لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم لولا إلغاء الكيزان لنتيجة الانتخابات الواضحة.

خاتمة

هذه مشاهد من كل. وهي إشهار خلفية لمن يهمه الأمر. ومقالي القادم بعد حين سيكون دعوة مسببة لحل الحزب الشيوعي السوداني وحظر أنشطته كأحد وسائل تحصين الانتقال المدني والتحول الديمقراطي القادم في السودان.

 

 

آراء