أنا وعزيزي شول ـ الوطن والمجهول
كانت تلح علي أبيات أبي عبادة البحتري وقد حاصرته الهموم كما حاصرتني فأنشد أبياته الشهيرة :
حَضَرَت رَحلِيَ الهُمومُ فَوَجَّهـ تُ إِلى أَبيَضَ المَدائِنِ عَنسي
أَتَسَلّى عَنِ الحُظوظِ و َآسى لِمَحَلٍّ مِن آلِ ساسانَ دَرسِ
ذكَرتِنيهُمُ الخُطوبُ التَوالي وَلَقَد تُذكِرُ الخُطوبُ و َتُنسي
وليت همي مثل همه وقد ارتحل لأرض أجداده ليجد العزاء في آثارهم , وهمي في أرض أجدادي , ووطني في داخلي أحمله معي أينما ذهبت ! وكيف النسيان ؟ فأينما تذهب تأتيك أخباره ، فقلت لعل وعسى أجد في السفر عزاءه فأتسلى عَنِ حُظوظِ وطن عبثت به أيادي بعض أبنائه وأضاعوه برعونتهم وجهلهم وفسادهم .
لم أجد في نفسي الرغبة في الجلوس في بيتي ومتابعة أخبار البلد والاستفتاء وتقاريرهم باتت تسبب لي السأم والضجر وتصريحات المسئولين هنا وهناك تقتلني بلا رحمة ، وقد كنت أجد في ليالي الشتاء الطويلة متعة في الجلوس والقراءة والكتابة التي استصعت على القلم ، فماذا نقول وماذا نكتب وقد فشلنا جميعا في الحفاظ على وطن الجمال والعزة فشلنا عندما سمحنا لتلك الفئة الغافلة أن تتحكم فينا ، وفشلنا في أن نستبقي إخوتنا في الجنوب الحبيب معنا نحارب معا لمستقبل مشترك ومصير واحد حتى أصابهم اليأس والاحباط فاختاروا أسهل الحلول وأقساها .
تكاثفت الهموم وأنا استمع لأصدقائي الجنوبيين خاصة وهم يحدثونني عبر الهاتف عن آمالهم وأحلامهم في الوطن الجديد . ولا أدري لِمَ لم تفارقني صورة صديقي الطيب "عزيزي شول" وهذا اسمه الذي إلتصق به من يوم أن عرفته مصادفة في مطار أنقرة قبل سنوات عديدة وكنا مجموعة من السوانيين جمعتنا الصدفة في ذلك المطار قدم كل منا من بلد مختلف في انتظار السفر للسودان لقضاء عيد الأضحي أو الأجازة وتأخرت الطائرة بسبب سوء الأحوال الجوية وبالرغم من قلقنا من عدم تمكننا من السفر قبل حلول يوم العيد إلا أن شول الذي كان قادما من الولايات المتحدة جعل للجلسة طعما آخر أنسانا قلق الانتظار فقد كان بروحه المرحة وحبه لمساعدتنا في الحصول على الطعام على حساب شركة الطيران ومناكفته لموظفي المطار قد جعلنا موضع اهتمام الكل . سميناه عزيزي شول لأنه كان ينادي كل منا بعزيزي فسماه أحدنا تفكها بها ومن يومها لم تنقطع الاتصالات بينا كانت وظيفته تتطلب السفر وكان محبا له فكانت تأتيني اتصالاته من بلدان مختلفة ولم يكن يأبه لفرق الوقت فأحيانا يتصل وأنا نائم في آخر الليل فيأتيني صوته الحبيب "ألو ... أنا شول عزيزي الدكتور" والغريب أننا لم نلتق أبدا في السودان ولن نلتقي فيه في المستقبل بكل تأكيد .
كان آخر اتصال له قد جاءني قبل شهرين ، كلمته عن هموم الوطن عن الاستفتاء وعن الانفصال المؤكد ، صمت طويلا حتى خلت ان الاتصال انقطع ، وفجأة ضحك ضحكته الصاخبة وقال لي اسمع عزيزي المصلح لم لا تترك همومك ونتقابل في أي مكان في العالم لنستمتع باجازة تحتاجها بعيدا عن السياسة وهموم البلد ،وعدته أن أفكر في الأمر . ولم اسمع صوته بعد هذا ، لم اتعود منه هذا الغياب واتصلت بالأرقام التي كانت تأتيني منه ولم أفلح في الوصول إليه وكانت أسرته تقيم بنيروبي أكثر الأوقات أما في الاجازات فقد كانت معه أينما حلَّ ، كنت احيانا أداعبه قائلا إنك سوداني وستبقى كذلك أينما سافرت ومهما حملت من جنسيات كان يضحك ويقول لي لو أردت لحملت جنسيات نصف بلدان العالم ولتزوجت أروبية شقراء ولكني خلقت سودانيا وسأموت سودانيا. ولكنه تزوج من أهله امرأة في روعة النيل وجماله.
لم أكن أدرى أن ذلك سيكون آخر اتصالاته فقد فاجأتني ابنته برسالة على بريدي الإلكتروني تخبرني بموت أبيها المفاجئ بعيدا عنهم ، ولم تعرف اسرته بخبر الوفاة الا بعد أسبوع قالت ابنته في رسالتها أن الصدمة لم تترك لهم مجالا للتفكير ولم تفتح حقيبته التي أرسلت لهم الا بعد وقت طويل وفيها وجدت مجموعة من خطاباتي له ولم تعرف كيف تتصل بي لتخبرني إلى أن تذكرت عنواني المنشور على صفحات بعض الصحف التي أكتب فيها.
أخيرا ألقى عزيزي شول عصا الترحال ومات بعيدا عن السودان جنوبه وشماله فكل هذا البلد لم يتسع له ، ولا لأحلامه . فقد كانت أبيّ النفس لم يتاجر في السياسة ولم ينتم إلا للسودان ، صان نفسه كما البحتري فاختار السفر والترحال على أن يتلوث :
صُنتُ نَفسي عَمّا يُدَنِّسُ نَفسي وَتَرَفَّعتُ عَن جَدا كُلِّ جِبسِ
أو كما قال ابن العديم :
إذا عدمت كفاي مالاً وثروةً وقد صنت نفسي أن أذل وأحرما
مات سودانيا كما عاش سودانيا , لم يشهد بني وطنه وهم يتدافعون للانفصال , وبالتأكيد لن يشهد مولد وطنهم الجديد .
لهفي علي عزيزي شول وحزني عليه امتد وتطاول يمنة ويسرة حتى سد آفاق حياتي وجددته أحزان وطني وهو يمر بأحلك الأيام ، فهل كنت ستظل كما أنت لو شهدت انفصال بلدك؟ وهل كنت ستقابلنا وتجلس معنا تضاحكنا وتنادينا بعزيزي لو كنت مواطنا من دولة مجاورة ؟
حزني عليك من حزني الكبير وحبي لك حب الأخ لأخيه الراحل وعزائي أنك مت كما كنت تتمنى سودانيا حتى النخاع وستبقى في ذاكرتي كما أنت أبدا .
Zahd Zaid [zahdzaid@yahoo.com]