أنظام مدني ديمقراطي معافى ، أفضل للإسلام ، أم هذا النظام ؟ … بقلم: حلمي فارس
في وقت بدأت تتلاطم فيه دعوات الخروج للشارع لأسقاط نظام المؤتمر الوطني بالسودان ، كتبت في هذا السيارة الإلكترونية ، وتناقلته مواقع عدة ، مقالي المسمى : ( إسقاط المؤتمر الوطني الآن : خطأ إسترتيجي وطعن في خاصرة الوطن ) !! وقد در علي هذا المقال من الردود ما لم تجره سوابقه ، بين مؤيد سعيد بما ورد فيه واصفاً له بالموضوعية والعقلانية ، ورافض لما جاء به ظان بأنني من ( سدنة ) هذا النظام وأدافع عنه متخفي في أثواب المعارضة !! لكن أغلى وأبلغ تعليق وردني كان سؤال ( هو عنوان هذا المقال ) بعث به ليبرالي عتيق جمعتنا صداقة سنوات الدراسة ومرحلة الشباب وفرقتنا دروب الحياة ، سؤال ظل ينخر في عقلي طوال أسبوعين الماضيين ، طرحته على البعض ودار حوله النقاش بإستفاضة وتمحيص .
أهمية هذا السؤال والإجابة عليه تكمن في أن الكثيرين ممن يعارضون إسقاط نظام المؤتمر الوطني في الوقت الحالي ، وغالبيتهم من ذوي الميول الإسلامية ، إنما يبنون معارضتهم هذه على قاعدة تخوفهم من البديل القادم إن ذهب هؤلاء ، ويدعمون معارضتهم هذه بحسبانهم أن هذا النظام ، برغم إعترافهم بالثقوب الكثيفة التي تشوه ثوبه المتهري ، إنما هو نظام إسلامي قامت به حركة إسلامية وتبنته قواعد إسلامية وتبنى هو برنامج إسلامي أساسه تطبيق الشريعة الإسلامية ، ويدعمون حجتهم بأن ( إصلاح الحكم والحاكم الإسلامي لا يكون بنقض وفتق نسيج الدولة الإسلامية وإسقاطها ، إنما بالإصلاح الداخلي بكل الوسائل المتاحة ) ، وأن ( ترميم البناء وإصلاح عيوبه خير وأيسر من هدمه كاملاً وإعادة بناءه من القواعد ) .
دعوتي للتريث في العمل ( الآن ) لأسقاط المؤتمر الوطني لا تأخذ من حجج هؤلاء شيئاً على الإطلاق ، لقناعتي التامة بأن الحكومة التي يديرها المؤتمر الوطني حالياً لا تعكس في أي من وجوهها ( نموذج دولة الإسلام ) التي يتحدث عنها ويتحجج بها المعارضون لأسقاط هذه الحكومة من الإسلاميين ، بل على النقيض تماماً فأنها تعكس وجهاً شائهاً ونموذجاً قبيحاً لمشروع الدولة الإسلامية في منطقة الشرق الإسلامي ، و قد أدخلت دعاة المشروع الإسلامي في العالم أجمع في ( جحر ضب ) خرب بسبب ما أنتجته وتنتجه كل يوم من سيئات تحسب على المشروع الإسلامي العام وفكرة ( الدولة الإسلامية ) ، فأصبح من العسير على داعٍ أن يتحدث عن نموذج ( المشروع السياسي الإسلامي ) إلا وقوبل بمشروع المؤتمر الوطني السوداني كمثال للثمر المر والتالف لهذه الفكرة . ولعل هذا مما دفعني للإعتقاد والقول بأن أولى الناس واجدرهم وأحقهم بالعمل لإسقاط هذه الحكومة هم ( الإسلاميون المخلصون ) دفاعاً عن دينهم الحق و حماية لمستقبل فكرتهم ومشروعهم الأسلاموي الحقيقي وتثبيتاً لحقيقة أن هذا النظام لا يمثل حقيقة هذا المشروع .
و عوداً للسؤال عنوان المقال : فيلزمني قبل الإجابة عليه التقديم لأجابتي بسؤال تمهيدي قد يثيره في وجوهنا دعاة وأنصار المؤتمر الوطني على قلتهم وضعف حيلتهم : ما الذي ينقص الوضع الحالي بالسودان من مقومات الديمقراطية والنظام المدني المعافى ؟ وفيه من الأحزاب ما يفوق الأربعين ؟ وفيه من حرية التعبير بالقول و الكتابة ما يفوق كثير من الدول التي تدعي الديمقراطية ؟ وفيه هيئة تشريعية منتخبة ورئيس منتخب وبالتالي حكومة ( ديمقراطية ) ؟ وبالطبع يستطيع راعي الضأن في الفيافي أن يرد على هؤلاء بالآتي : ينقصها :
1. حاكمية المؤسسة والأنظمة : حيث أن النظام الحالي يعيبه أن الأفراد وشخوص المسئولين هو مصدر الألهام والقرار في مؤسسات الدولة ، وليس ثمة نظام واضح وفاعل ومهام وأنظمة تدير هذه المؤسسات غير ما يراه مديرها أو قائدها ، فنجد مؤسساتنا التشريعية والتنفيذية والقضائية بجميع أنواعها ترتبط بشخوص من يديرونها من تابعي الحزب الحاكم تحقيقاً لأهدافه لا أهداف الدولة والمواطن كما ينبغي ، وهي بذلك تعكس ملامح ديكتاتورية خفية نبتت في داخل الحزب ( الأوحد ) ثم تسللت من بعده لأوصال ومفاصل الدولة فساد فيها ( المدير الأوحد ) والقائد الأوحد لا المؤسسة وأهدافها وأنظمتها .
2. سيادة القانون وفاعليته : فالقوانين ومؤسساتها في الدولة الحالية بلا سيادة ولا فاعلية ، من حيث شمولها للجميع وتساويهم أمامها ، و من جهة قيام مؤسسات القانون بأدوارها المفترضة بإستقلالية بريئة من رغبة إرضاء الحاكم أو خوف سخطه ، فأصبحت بذلك سيفاً لا يستل إلا على من يريد له السلطان أن يحاسب ، وإلا لرأينا منها فعلاً وقولاً ناجزاً في كثير من قضايا الفساد والإفساد وإهدار حقوق وكرامة العباد التي جرى ويجري تداولها يومياً بالصحف والمجالس ، ولا تتحرك وزارة عدل ولا نيابة عامة لأحقاق حق أو رد ظلم أو صيانة مقدرات الدولة المنهوبة ، وهي بذلك تهمل عن قصد أو تراخي أهم وأول واجبات القانون ومؤسساته .
3. فصل السلطات وإستقلاليتها : حيث الحزب الحاكم ( الأوحد ) يجمع في يده خيوط السلطات جميعها ، وهي داخل الحزب في أيدي ( القلة أولي القوة ) التي تدير البلاد ، ويأتمر بأمرها السلطة التشريعية فهي من أتت عبرهم ، وتطيعهم التنفيذية التي تملك هذه ( القلة ) تغييرها كما يغيرون ( جواربهم ) في إجتماع مسائي على كوب شاي ، وتسيطر هذه ( القلة ) في الحزب ( الأوحد ) على السلطة القضائية التي يفترض بها حماية الدستور والقانون ( عن أي دستور نتحدث ؟ لست أدري ) فنجدها تغض الطرف عن تجاوزاتهم ، وتتغاضى عن القيام بأدوارها المتعارف عليها في كل العالم ، بل و ( تقنن ) لأفعالهم في كثير من الأحيان .
4. العدالة والتساوي في الحقوق والواجبات : وبإختلال الثلاثة مقومات السابقة أختلت الرابعة ، حيث يستأثر ( الجزب الأوحد ) وأتباعه ، و( القائد الأوحد ) وحاشيته بمفاتيح ومقاليد الأنظمة والمؤسسات ، وتجتمع في أيديهم السلطات ، والثروات ، وتتقاصر أمامهم قامات القوانين ومؤسساتها ، فأضمحلت مؤسسات المجتمع المدني حتى أوشكت على زوال ( إلا حزبهم ومؤسساته ) وضاعت حقوق وكرامات الأفراد إلا من أحتمى بظلهم ، وفقد الناس فرصهم في الحياة الكريمة وهم بها ناعمون .
و رداً على السؤال ، بعد بيان حال دولة اليوم الراكدة بلا حراك تحت إبط المؤتمر الوطني ، فإنني أرى ، ولا أريكم ما أرى إلا من أراد ورأى من نفسه ،:
(( أن دولة مدنية ليبرالية بديمقراطية حقيقة معافاة تضمن لمواطنيها :
1. كرامة وإنسانية مصانة بلا إنتهاكات .
2. حياة كريمة سليمة مستقرة بلا عوز وحاجات .
3. حرية شخصية وجماعية تامة في التفكير والتعبير والخيارات .
4. عدالة قانونية ناجزة يتساوى أمامها الحكام والأفراد والمؤسسات .
5. حقوق أساسية واضحة تنبني على القيام بالواجبات .
دولة كهذه ونظام ( إن وجدت ) ، وإن قامت على غير دين الإسلام أو شريعته ، أو لم تتخذ الإسلام شعاراً أو مشروعاً ، هي خير وأفضل للإسلام والمسلمين ولعامة المواطنين والبشر من دولة نظام المؤتمر الوطني الحالي ولو نضح ( التدين ) من وجوه و أنوف وآذان القائمين عليه .
فبمثل هكذا نظام مدني ليبرالي ديمقراطي معافى يحكمه القانون ، وفي ظل هكذا دولة قامت ونمت وسادت حركات الإصلاح الإسلامية الحديثة في تركيا وماليزيا وغيرها ، فقدمت لنا نماذج نعتز بها ونفخر ، وفي ظل نظام المؤتمر الوطني الذي يملاء الدنيا صياحاً بأنه جاء بالإسلام وللإسلام وبإسم الإسلام ، رأينا الكبت والظلم والفقر وإهدار الكرامة والإنسانية والفساد والإفساد والمحسوبية والثراء الحرام ولا رقيب ولا حسيب ، فهل يمكننا أن نفضل دولتهم هذه على تلك لمجرد إدعاءهم انها ( إسلامية ) ، وأن تلك ( ليبراليه ) ؟
تغيير هذا النظام أصبح حتمي لا فرار من ذلك ، فإن كان لإسلامي السودان المخلصين حرص على مشروعهم وفكرتهم فليبادروا هم بالتغيير والتصحيح ، أو فليُبشِروا بالدولة المدنية الديمقراطية المعافاة ، فهي الأقدر على تحقيق أهداف مشروعهم الحقيقية من هذا النظام ، وهي الأجدر بمنحهم شرعية حقيقية يحميها القانون .
فإن إهتبل المؤتمر الوطني وحكومته البراح الزمني المتاح حتى التاسع من يوليو القادم ، فأصلح ذاته وسياساته، وأصلح ذات البين بينه وبين بقية الأحزاب الوطنية وفتح أبواب البلاد لعمل وطني سياسي حر ونظيف ، فهنيئاً للوطن ولحملة مشروع النهضة الإسلامي بالسودان ، أما فإن أستمر المؤتمر الوطني في غيه وسارت به ( القلة ذوو القوة ) على طريق ( لحس الكوع ) و ( الدايرنا يلاقينا في الشارع ) وغيرها من أساليب البلطجة والعنترة الشوارعية ، فإن الخاسر الأكبر هو الإسلام وحركته ومشروعه السياسي في السودان ، حيث إنه إذا جاء التغيير الحتمي المنتظر بهبة ثورة شعبية أو عمل عسكري داخلي أو خارجي فلن تقوم للمشروع الإسلامي في السودان أو الجوار قائمة لسنين طويلة .
هل سيعي إسلاميو السودان القصة فيبادروا بالإصلاح أم سيلتقم مشروعهم ( الحوت ) ولا مُسَبِح ؟
Hilmi Faris [hilmi.faris@hotmail.com]