أنفاس البوادي في هضبة نجد! 

 


 

 

القَفْ الظِليطُو مَقَرَّنْ

جَنُّوا الليلة مِتْبَارْيَاتْ تُعُولن خَرَّنْ

الوَدَعْنَا بيْ العبرة أمْ عُيُوناً دَرَّنْ

طَلَقْ في جَوفِي وَجّاجْ السَمَايمْ الحَرَّنْ

" محمد شريف العباسي"

الدوبيت هو ضرب من التراث السوداني الأصيل من الجوانب كافة، وهو امتداد طبعيي للشعر العربي القديم؛ خاصة فيما يتعلق بحياة البادية، ووصف طبيعتها وتحركات سكانها. ويتحدث الدوبيت عن شتى جوانب الحياة من فخر وحماس وكرم وغزل ورثاء وملاحم وإخوانيات وغير ذلك من أغراض الشعر. كما يهتم شعر الدوبيت أيضاً بالجانب الأسري وتزكية المجتمع عن طريق بث القيم الراقية كمراعاة حرمة الجار، وعدم التعدي على عروض الناس وحفظ العشرة والإخاء والحنين إلى الأماكن وحب الوطن. ألم يقل شاعرهم:

نِحنا سهمنا دايماً في المصادِف عالي

نِحنا العِـندنا الخُلق البِتاسع التالي

نِحنا صعبات المِحن بنشيلا ما بنبالي

بِنلوك مُرهِن لامِن يجينا الحالي

والدوبيت يقوم أساساً على وزن الرجز، كما يأتي على بحرين بحر قصير ضيق، وبحر عريض، وهو بشكل عام رافد مهم من روافد الشعر في السودان ومعروف في كثير من المناطق؛ خاصة تلك التي ترعى فيها الإبل، في البطانة والبادية الغربية في كردفان وشمال وشرق دارفور وفي ديار الجعليين.

وقد أفرد شعراء الدوبيت مساحة واسعة للحديث عن الإبل والبنات، وفي ذلك يقول ود كرنو:

بذر أم شوشة فوق ضهر المكعم كرّا

لمّوا طرابا بي فرحة وقلوب منسرّا

نعمك شتا في الوديان وأخد الفرا

وود أم قجة شبع حنتوت وصقع الجرا

وهذه لعمري صورة معبرة جداً حشد لها الشاعر كل ما يلزم للتعبير عن مشهد الإبل وهي ترعى أيام الخريف. وعن البنات نستشهد بقول الشاعر:

كان وقفت عديلة وكان مشت تنقاد

وكان رقصت بجيبنو الفنايد صاد

ضربت صفي بي سنيناً نقرشو الحداد

أخدت ضلعتين، قالت حفك ما صاد

وقد أصبح الدوبيت في وقتنا الراهن هو النمط المفضل لدى كثير من الشعراء الشباب، ولذلك لا غرو أن تهتم به القنوات الفضائية حتى صار هنالك برنامج يعنى بهذا النوع من الشعر في كل قناة سودانية. وقد انتشرت تلك البرامج بعد الرواج الذي حظي به برنامج "شوارد" الذي كان يعده الأديب الفذ إبراهيم الدلال وتقدمه الإعلامية المبدعة كوثر بيومي في القناة السودانية القومية. حيث أتيحت الفرصة لكثير من فطاحل شعراء الدوبيت فاثروا الساحة الثقافية بشعر راقي وجميل وممتع.

عموماً، في ليلة كان الدوبيت فيها سيد الموقف، احتفت رابطة أبناء دار حامد بالرياض، بسليل الكرام والشعراء الفحول، الشاب الظريف وأنيق العبارة والشاعر في ذات الوقت، ومقدم برنامج "أنفاس البوادي" على بعض القنوات الفضائية، الأستاذ الوسيلة المراد، الذي كان ضيفاً مرحبا به مع ثلة من الخيار، من بينهم الخليفة مجذوب الجيلي، الذي يزور الرياض حالياً. وكما شارك في اللقاء المهندس جندي الناقة، بباقة من جديد شعره الطروب. وكان حضوراً أيضاً الأستاذ محمد سالم المراد الذي شنف الآذان بمشاركات شعرية جميلة. وباختصار شديد، نستطيع القول بأن تلك الليلة كانت بمثابة احتفاء "بأنفاس البوادي" هذا البرنامج الذي يحظى بأعلى مشاهدة من بين البرامج المشابهة، حسبما يتوفر لدينا من بيانات موثوقة. وما ذلك إلا لأنه برنامج مفتوح للمبدعين من كافة أنحاء السودان، أي أنه ينأ بنفسه عن الجهوية والمناطقية التي تغلب على بعض البرامج، سيما وأنه برز لحيز الوجود "بعد تمحيص وتدقيق كبير جداً وبعد أن عرفنا أن للشعر والأدب الشعبي مكانته الخاصة والمرموقة والرفيعة في وجدان الشعب السوداني." كما يقول مقدم البرنامج.

ولم يتحقق النجاح لهذا البرنامج ضربة لازب، بل هو نتيجة حتمية لما يحظى به من إعداد جيد، وتنوع ضيوفه وطرح مواضيع هي من صلب أغراض الشعر الشعبي عموماً والدوبيت على وجه الخصوص. ويضاف إلى ذلك تمكن مقدم البرنامج من مادته وطرحه المتفرد وحضوره الراقي والتلقائية المحببة في تقديم مثل هذه البرامج.  والأستاذ الوسيلة المراد أعلامي مختص، ومطبوع قبل هذا وذاك، ومتمكن جداً في مجاله المهني، وهو شاعر كما أسلفنا، ومن شعره في وصف الطبيعة:

أرضك باشه يا أم شختور خريفك وصيفك

الخير فيكي يا المبسوطة بارد هيفك

الخافور فتق غطاك وشال عليفك

التمليك كساكي وفرّ طربان ديفك

فهذا لعمري دفق شاعري لا يجود به إلا ذوي القريحة الراقية من فحول الشعراء. والوسيلة هو القائل في الفخر:

سمحين سيرة كقامة ومعلا قدركم

أسياد بادرة موسوم بالفضيلة سدركم

بالجود والمكارم ديمة باهي بدركم

مفصلة قافية النم بالتساوي قدركم

أما في مجال الغزل فدونكم هذه المربوعة، فهي من عيون الدوبيت، إذ يقول شاعرنا:

فلوة ساسا تتسند كدي وتتقلع

بتـمشي الكي قبل تاتِي وعقب تدّلع

الفي جوفي واقود شوقها يا دوب ولع

بتدارق خجل من ضلها وتتخلع

ولكم أن تتخيلوا فتاة تخجل من ظلها، فهذا وصف غير مسبوق لا في ديوان العرب ولا الدوبيت. أنفاس البادي ليس مجرد برنامج بل هو توثيق شامل للدوبيت في السودان.



gush1981@hotmail.com

 

آراء