الدكتور عمر فضل الله أديب وقاص وباحث وكاتب سوداني مرموق ، له إسهامات متنوعة ورفيعة المستوى في شتى مجالات العلم والمعرفة والأدب والفكر والدراسات الاستراتيجية وتقنية المعلومات ، وهو يعمل حالياً ومنذ عدة أعوام استشارياً كبيراً في مجال " الحكومة الالكترونية " بدولة الإمارات العربية المتحدة. أما في مجال الرواية تحديداً ، فقد صدرت له من قبل رواية " ترجمان الملك " ، وهي عبارة عم معالجة روائية لقصة هجرة صحابة النبي (صلعم) في القرن السابع الميلادي إلى مدينة النجاشي التي هي سوبا حاضرة مملكة علوة ، فراراً بدينهم من بطش مشركي قريش وأذاهم ، كما اقتضت تلك الرواية ، وكذلك اتساقاً مع فرضية بذات المضمون قال بها من قبل بعض العلماء والأدباء السودانيين خاصةً ، كان على رأسهم العلامة الراحل بروفيسور عبد الله الطيب. وكنت قد عرضتُ لهذه الرواية الأخيرة لهذا الكاتب ، في مقال لي بعنوان: " قراءة في رواية ترجمان الملك للدكتور عمر فضل الله " ، نشرته بهذا الموقع المحترم ذاته. فمن أراد الرجوع إليه فليقوقله ، فهو ثمة. على أنَّ رواية " أنفاس صُلَيْحة " التي يصدرها الدكتور عمر فضل الله في بحر هذا العام 2017م ، تُعتبر هي الأخرى ، بمثابة معالجة روائية مماثلة لتاريخ وملابسات وآثار هجرة القبائل العربية إلى السودان ، وتزايد أعداد أفرادها وجماعاتها ، إلى الدرجة التي أغرتها بتضييق الخناق على مملكة " علوة " المسيحية وإسقاطها ، وانتزاع الملك منها في القرن الخامس عشر الميلادي ، لكي يسطِّروا بذلك صفحة جديدة في تاريخ البلاد ، غير وجهتها الحضارية ، وكرَّس فيها شخصية وطنية جديدة ، تجسدت فيها غلبة الثقافة والتوجهات العربية والإسلامية بصورة حاسمة ونهائية. وبمثلما فعل الدكتور فضل الله في روايته السابقة " ترجمان الملك " ، فقد اتكأ هذا الكاتب بشدة على التراث في روايته هذه " أنفاس صُليحة " ، التي عمد فيها إلى المزج بين الخيال والواقع والتراث والتاريخ ، وربما ملامح من السيرة الذاتية ، إلى جانب الروايات الشفاهية ، وخصوصاً روايات النسّابة التقليديين في السودان ، لكي يُخرج لنا عملاً سردياً باذخاً ، قوامه لمع فسيفسائية الشكل من كل ذلك ، ولكنه – في ذات الوقت – يختلف عن كل ذلك ، لأنه في خاتمة المطاف عمل روائي وليس منجزاً بحثيا. ذلك بأن أداته الأولى هي التخييل ، وغايته القصوى هي التشويق والامتاع في المقام الأول. ولما كانت الرواية كما يقول العتابي: " هي حبكة وشخصية ووصف ، هذا في ظاهرها ، أما داخل ذلك فثمة آراء وأفكار ورسائل يحاول الكاتب أن يقول رأيه فهي حينئذٍ موقف من الحياة والواقع " فإن بوسعنا أن نقول إن عمر فضل الله قد استوفى بعمله هذا ، الشروط والمقومات الفنية للعمل الروائي تماماً ، من حبكة ، وصراع ،وصناعة شخصيات ، وتصوير لها من حيث المظهر والمخبر والنوازع النفسية الخ ، وسرد للأحداث ، وعقد للحوارات الدرامية. ولكنه قد تجاوز ذلك لكي يلقي من خلال سرده الروائي الممتع والمشوِّق ، بعض الأضواء الكاشفة على طريقته ، على مرحلة مفصلية ومهمة للغاية من مراحل التطور التاريخي للسودان بأسره على الصعيدين السياسي والاجتماعي ، وخصوصاً منطقة الوسط التي شهدت قيام مملكتي العبدلاب والفونج على التوالي ، ثم قيام التحالف المشهور بينهما بعد ذلك. هذا ، ولا شك في أن البعد الذاتي ، أو متعلقات السيرة الذاتية والخلفية الاجتماعية للمؤلف ، قد لعبت دوراً محوريا في صناعة هذا العمل الإبداعي للدكتور عمر فضل الله. فالمؤلف هو من بلدة " العيلفون " القريبة من " سوبا " عاصمة مملكة " علوة " التي انقض عليها العرب بقيادة " عبد الله جماع القريناتي القاسمي " الملقب ب " عبد الله جماع " ، فأسقطوها ، وخربوها خراباً صار مضرب مثل مشهور في السودان. وقد ارتبطت منطقة العيلفون بشخصية الشيخ الصوفي الكبير " إدريس بن محمد الأرباب " 1507 – 1651م ورهطه من قبيلة " المحَسْ ". والمحس الذين يقطنون بمنطقة ملتقى النيلين الأزرق والأبيض ، وإلى الجنوب منها قليلا والذين ينتمون إلى الخزرج كما يقال، قد عُرفوا منذ قدومهم إلى هذه المنطقة من ديارهم الأصلية بحوالي منطقة الشلال الثالث على النيل بشمال السودان منذ قرون ، بالعلم والصلاح والتدين عموما. وهم أقدم العناصر سكنى في منطقة الخرطوم الكبرى عموماً ، إلى جانب الجموعية " العباسيين " ، والزنارخة " البكريين " ، وبين الثلاث فئات تزاوج وتداخل وتجاور دائم. ولكن محس هذه المنطقة ، كأنهم يستشعرون إحساساً خاصاً بأنهم هم الورثة الحقيقيين للتراث الثقافي لهذه المنطقة بصفة عامة ، ولعل السبب في ذلك انتشار الوعي و التعليم بينهم منذ وقت مبكر نسبيا. فعلى سبيل المثال نجد أن من أوائل من حرصوا على طباعة كتاب " طبقات ود ضيف الله في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والفقهاء والشعراء في السودان " ونشره ، كان هو القاضي " إبراهيم صديق " ، وهو من محس توتي ، وقد كان ذلك في عام 1930م. أما الرائد المسرحي الأستاذ " خالد أبو الروس "، وهو من محس الخرطوم الكبرى أيضا ، فقد خلّف لنا أثرا أدبيا نادراً وشديد الارتباط بتاريخ هذه المنطقة ، وبذات الأحداث التي تدور حولها رواية عمر فضل الله نفسها ، ألا وهي مسرحيته الشهيرة " خراب سوبا " ، التي صرح خالد أبو الروس نفسه أنه أخذ قصتها كاملة عن عمة له. ولئن كان خالد أبو الروس يسمي المرأة التي خربت سوبا ب " عجوبة " ، فإن عمر فضل الله يسميها الملكة " دوانة " أرملة آخر ملوك العنج في سوبا ، وتبرر الرواية سلوكها التخريبي ، برغبتها في الانتقام من بعض منسوبي البلاط الذين كانوا يكيدون لها ولزوجها. أما " صُليحة " المذكورة في عنوان هذه الرواية ، فهي فتاة يتيمة والديها ، تنتمي إلى أسرة من الأشراف المغاربة الشناقيط. توفي والداها وهي صغير غب جائحة من وباء الطاعون ، اجتاحت قريتهم في بلاد السوس الأقصى بالمغرب ، فكفلها جدها وربّاها ، ووعدها بأن تسافر معه إلى الحج إلى الأراض المقدسة عبر بر السودان ، أي مملكة علوة. ولكنه اضطر إلى إخلاف وعده لحفيدته ، تحت إصرار " الشيخ محمد " الفقيه والمعلم بكتاب القرية ، بأن تبقى صليحة وديعة عنده بالكتّاب ، حتى تتعلم القرءان ، وكذلك خوفاً عليها من مشاق الرحلة الطويلة والمرهقة والمحفوفة بشتى صنوف المخاطر في ذلك الزمان. ولكن صُليحة تهرب من " الخلوة " ، وتنتخرط في مغامرة رهيبة كادت تفقدها حياتها في سبيل اللحاق بجدها الذي كانت تحبه حبا جما ملك عليها أقطار نفسها ، بل كان يمثل بالنسبة لها كل شيء في حياتها. فتتنكر في زي فتى ، وترافق قوافل التجار والحجاج العابرة للصحراء الكبرى ، وتكابد صنوفاً من الرهق والعذاب ، حتى تصل إلى سوبا ، فيسعدها الحظ بمقابلة جدها ، ويجتمع شملهما مرة أخرى. وهنالك في بلاد علوة ، يطيب لهما المقام ، فتتزوج سودانياً من أصل مغربي أندلسي أيضا ، وتصير هي نفسها جدة لراوي هذه الرواية ، بل جدة لجد جده. ولما كان الراوية صبياً مغرماً ومفتونا تستهويه ثصص الماضي ، فإن جدته البعيدة " صُليحة " هذه تحكي له ولنا على سبيل الاسترجاع أو " الفلاش باك " السينمائي ، سيرتها الذاتية منذ أن كانت طفلة في أرض المغرب ، وجميع ما اكتنف حياتها ، إلى أن وصلت إلى سوبا ، ولقائها الدرامي بجدها ، وزواجها بسوبا وإقامتها بها ، وما رافق ذلك من أحداث مهولة تمثلت في التحولات التاريخية والحضارية الكبيرة التي شهدها السودان آنئذٍ. ولا شك في أن الاسم " صليحة " الذي اختاره مؤلف هذه الرواية لكي يطلقه على بطلة هذه القصة ، له دلالته الخاصة ، خصوصاً بالنسبة لأهل العيلفون وغيرهم من محس الخرطوم الكبرى والصعيد عموما. ذلك بأنه يتناص مع اسم علم مشهور عندهم ، هو " صُلحة " التي هي " فاطمة بنت الشريف حمد أبو دنانة " ، ووالدة الولي الصالح المُعمَّر الشيخ " إدريس ود الأرباب " الذي مر ذكره من قبل. والشريف حمد أبو دنانة هذا كما تقول رواية شفهية شعبية واسعة الانتشار في السودان ، شريف مغربي كان صهراً للشيخ محمد بن سليمان الجزولي مؤلف كتاب " دلائل الخيرات " ، قدم إلى السودان في حوالي عام 1445م ، وأقام ببلدة " سقادي " بنواحي المحمية من ديار الجعليين ، وأنه كانت له سبع بنات ، تزوجن من رجال أعلام من أهل السودان ، وأنجبت كل واحدة منهن ولدا صار من بعد وليا مشهورا في السودان. على أن من الملاحظ أن الشيخ محمد النور بن ضيف الله لم يذكر اسم هذا الشيخ ، ولم يشر إلى هذه الواقعة في كتابه " الطبقات " على الرغم من أنه قد ترجم لجميع الشيوخ الذين تزعم تلك الرواية أنهم أبناء خالات ، كما أن الأستاذ الباحث الطيب محمد الطيب ، قد أنكر صحة هذه الرواية في كتابه " المسيد ". والله أعلم أي ذلك كان. وبالفعل ، فإن سياق السرد يقتضي أن تلتقي " صُليحة " بطلة الرواية بعائشة ابنة الشريف حمد أبي دنانة ، وزوجة الشيخ " عبد الله جماع " ووالدة ابنه الشهير " الشيخ عجيب المانجلك " ، فتذكر لها عائشة المذكورة ، أن شقيقتها هي نفسها تُسمى " صليحة ". وتخبرها أيضاً بأنهم من الأندلس أصلاً ، رغم أنها تؤكد لها أن " الشريف حمد أبو دنانة " محسي القبيلة ، وهذا ما تختلف فيه الرواية عن أكثر روايات النسابة والإخباريين التقليديين شيوعا ، والقائلة الشريف حمد ، هو شريف مغربي فحسب. ومهما يكن من أمر ، فهاهو الدكتور عمر فضل الله يخرج لنا مرة أخرى ، رواية دسمة مفعمة بالفن والمتعة والتشويق ، علاوة على أن فيها كدا ذهنياً ، وجهدا بحثياً ملحوظا ، وتنقيباً في المصادر والمراجع ذات الصلة في مجالات تحركات وأماكن انتشار واستقرار القبائل العربية والسودانية ، وحركة القوافل والهجرات والتحركات السكانية عبر الصحراء الكبرى ومن وإلى بلاد الشمال الإفريقي ، فضلاً عن مجالات التاريخ السوداني والإفريقي الوسيط ، واللغات واللهجات وهلم جرا. فنراه على سبيل المثال ، وهو يورد لنا في متن الرواية ، أمثلة طريفة من اللهجة المغربية بما في ذلك نماذج مما تنطوي عليه من ألفاظ ذات أصول طارقية وأمازيغية ، وذلك في أكثر من مناسبة متى ما اقتضى السرد والحوارات الدرامية ذلك. وذلك من قبيل قوله: " ترفاطت " وهو وعاء جلدي يوضع فيه الصوف والوبر ، إلى جانب بعض مصطلحات الشعر والغناء الحساني الموريتاي مثل: " اطلَعْ " و " الكِيفان " و التَّبْراع " الخ. أما الحيز الزماني أو السياق التاريخي الذي تتم فيه أحداث الرواية ، فيتطابق مع تلك الفترة التي تُعتبر بين سائر المؤرخين ، فترة مظلمة في تاريخ السودان بسبب شح المصادر التي تؤرخ لها أو انعدامها بالكلية. ألا وهي الفترة ما بين سقوط مملكة المقرة النوبية المسيحية بشمال السودان في القرن الرابع عشر ، وسقوط مملكة علوة في خواتيم القرن الخامس عشر إلى مطلع القرن السادس عشر الميلادي. ولذلك فإن الرواية تشي بالحالة السياسية والاجتماعية والدينية والعقلية السائدة آنئذ ، كما وتصور أجواء الصراعات والدسائس والمؤامرات داخل بلاط مملكة علوة التي ساعدت على انهيارها ، علاوة – بالطبع - على الضغط والحصار الحربي الرهيب الذي فرضته القبائل العربية عليها. وتنم الرواية كذلك – استقاء من مرجعياتها المعرفية بكل تأكيد – عن طبيعة التركيبة السكانية لمنطقة " شرق النيل " بمنطقة الخرطوم الكبرى في تلك الحقبة ، حيث يكثر فيها ذكر العنج ، والنوبة ، والمحس ، والعبدلاب ، والفونج ، وجهينة ، والمغاربة ، مثل الشيخ " حسوبة ود عبد الله " في سوبا ، وكذلك الشيخ " لُقاني " وهو اسم جد البطلة " صليحة " الذي يذكرنا بدوره وبقوة ، باسم الحاج " لقاني " خال الشيخ حسن ود حسونة الذي قدم جده إلى أرض السودان من الجزيرة الخضراء من جزائر الأندلس كما جاء في سيرته بالطبقات. وبالجملة فإن هذه الرواية تسوقنا حقيقةً ، في رحلة سياحية في غاية الامتاع والتشويق في دهاليز تاريخنا السياسي والاجتماعي الوسيط ، عبر معالجة روائية وفنية مبهرة ، مما يجعلها قمينة بالاطلاع.