أهل الله

 


 

د. عمر بادي
28 March, 2009

 


مقتطفات من كتابي ( شتات يا فردة )
دار جامعة الخرطوم للنشر _ 2003
ombaday@yahoo.com
د. عمر بادي
 أثبت العلم أن بجسم الإنسان عصارة خاصة تفرز مادتها فتفعل في العقل فعل الإنتشاء والخدر، وذلك في لحظات السمو الروحي والتي تصاحب لقاء العاشقين المتيمين والعاشقات ، وتلاشيهم في ذوات بعضهم البعض أو في الذات العليا كما عـند الصوفيين ، فتتجلى المناجاة في كلام من الشعر هو أسمى وبه لا محدودية للمعنى وما وراء المعنى من التأويل ، فيشربون من خمر هي ليست كالخمر ، هي خمر داخلية لا يصدّعون عنها ولا ينزفون .. هكذا رأى الشعراء المعاصرون من المجددين الحديثين أن يسعوا للحظة التجلي والكشف تلك ويصلوا إلى آفاقها الرحبة بالشفافية ، والتي تتلاشى فيها غلظة الجسد حتى يصير في نقاء الروح فتأتيهم الكلمات ليست ككل الكلمـات ..عبدالوهاب البياتي ، صلاح عبد الصبور، محمد الفيتوري ، أدونيس.. وغيرهم وغيرهم.. نظروا إلى الأدب الغربي ونقبوا فيه وخرجوا بأشعار أسموها حديثة وأسموها قصيدة نثر ، وحينما نقبوا في التراث العربي الإسلامي ذهلوا عندما وجدوا كل ذلك موجوداًعند أهل الله من الصوفيين .. الحلاج و إبن عربي  والبسطامي والسهروردي وغيرهم وغيرهم..
    قبل خمسة أعوام عندما كنت أعمل في السودان ، وأنا قادم من عملي إستوقفني أحد الأشخاص يرتدي ملابس متواضعة و يحمل عصاة و (باقة) بها ماء ، فعرفت أنه (مجذوب) من أهل الله ، فوقفت له وركب معي وكنت أدير شريطاً للتسجيل تصدح منه أغنية عاطفية فأوقفت الشريط إحتراماً له لكنه أشار علي أن أشغله مرة أخرى قائلاًً لي :(( نحن الصوفية أهل طرب)) ، وصار يتمايل برأسه مـع إيقاع الأغنـية ، قلت له:(( كـلام الحب دا عجبك؟)) ، أجابني :(( أنا عندي ليه معنى تاني بعجبني)) ، فعرفت أنني أمام (حالة) طالما سمعت عنها وهي تأويل الصوفيين . سألته عن وجهته حتى أوصله ، أجابني أن أستمر في سيري ومتى إنحرفت عن وجهته فسوف ينزل حيث قدّر الله له ، وعندما أراد أن ينزل رفع يديه ودعا لي وإستودعني الله..
    وجدت نفسي وقد تراءت لي القبة الخضراء التي تعلو مسجد الرسول الكريم أردد في المدائح النبوية عن القبة وعن المدينة وعن المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام ، رددت من ضمن ما رددت مدحة الشيخ البرعي:
  سـمـّيت بالعـمّــنا لنــفوسنا طمّنا
  أحمد رســـــولنا ســر آدم وأمــنّـا
   وبه نتمنى في سيرته يضــــمّنا
  في حـــزب الخير بالرحمة يعمّنا
  نسعد بزيارته في الروضة يلمّنا
 ونــــزور أصحابه نبلغ كل المنى
 بــالحج الـوافي ونعيّد في منى
    فالسلام على رسول السلام والرحمة والمحبة ، السلام على رسول العدل والمساواة والوئام ، السلام عليك يا سيدنا يا رسول الله ، الصلاة والسلام عليك يا نبي الله ، الصلاة والسلام عليك يا خير خلق الله ، الصلاة والسلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبيين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين .. السلام على صاحبي رسول الله أبي بكر وعمر وهما يرقدان عن يمينه ، وعن يساره تربض الروضة المطهّرة إحدى رياض الجنة ، من دخلها فهو فائز.. السلام على عثمان ذي النورين في البقيع وعلى عائشة وفاطمة الزهراء ، السلام على حمزة أسد الله في مقابر الشهداء ..وفي بيت الله العتيق وفي منى وعرفة ومزدلفة كانت شعائر الحج ، وكان الله لطيفاً بعباده فأنزل الغمام والمطر الرزاز والمدرار ، منذ دعاء إمام مسجد نمرة لله في خطبة الجمعة أن ينزّل الغيث وإلحاحه في الدعاء ، فسبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين... أكثر من مليار مسلم ينتشرون في بقاع الأرض في إطراد ملحوظ ، وأكثر من مليوني مسلم إجتمعوا من كل بقاع الأرض على نداء أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام ، ملبّين ومكبّرين لله ... حوالي الألف وأربعمائة عـام قد مضت منذ دعوة النبي الكريم ، ولازالت دعوته راسخة بل وتتكشف عن حقيقة وصدق ومسايرة محتواها مـع كل إكتشافات العلم والمعرفة والتطور ، في كل زمان ومكان ، فيزداد الناس إيماناً بها .. هذا النبي الأمي أنّى له كل ذلك لو لم يكن أمره منّزلاً من العلي القدير عالم الغيب و الشهادة ، قال تعالى: (( فلا أقسم بمواقع النجوم ، وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ، إنه لقرآن كـريم ، في كتاب مكنون )) صدق الله العظيم ، وتتجلى عظمة هذا القسم لكل من يرى السماء ليلاً ولكل من له دراية بعلم الفلك .
     لقد شرح الله صدر النبي الأمي وهداه ، فشرح بدوره للناس كيف يحيون حياتهم وهداهم إلى سواء السبيل ، ولم يبرح الكتاب صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، ولم تترك السنة شيئاً حتى كيفية قضاء الحاجة فأبانتها للناس.. هذا النبي الأمي لا زال أمره الوسط هو خير الأمور قاطبة ، في المأكل وفي الملبس وفي الإقتصاد والسياسة وفي الدين ، فقد روى عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال :(( قال رسول الله (ص) غداة العقبة وهو على ناقته :((ألقط لي حصى)) ، قال فلقطت له سبع حصيات من حصى الخزف ، فجعل ينفضهن في كفّه ويقول :(( أمثال هؤلاء فأرموا )) ، ثم قال :(( يا أيها الناس ، إياكم والغلو في الدين ، فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)) .. من وسائل التأديب عنده ، عليه أفضل  الصلاة والسلام ، أنه كان يلوّح بالضرب دون الأتيان به في بيته قط حتى يكون في ذلك ردعاً كافياً ، فقد قال (ص) :(( علّقوا السوط حيث يراه أهل البيت ، فإنه أدب لهم)) ، ولم يرو عنه (ص) أنه كان فظّاً بل كان هاشاً باشاً باسماً وملاطفاً ، ولو كان فظاً غليظ القلب لإنفضوا من حوله .. في خلال الألف وأربعمائة عام الماضية ظهر كثير من الفلاسفة والساسة والمفكرين ( العباقرة) وأتوا بمبادئهم ، فأين هي الآن ؟ ، لقد تصدعت مع الزمن بعد أن ظهرت إختلالاتها ، ولم تسلم نظرية أو عقيدة من ظهور نقيض لها يثبت عدم جدواها في المحك العملي ، إلا عقيدة النبي الأمي عليه أفضل الصلاة والسلام.. ويكفيه هنا أن يتم إختياره كأول شخص من مئة شخص أثّروا في العالم على مر التاريخ في كتابٍ مؤلفٍ في الغرب .. ويبقى للحج طعم آخر ولو تكرر لأكثر من مرة...
                            صحيفة (الخرطوم) - 9/3/2001م


 

 

آراء