أهمية حوكمة المؤسسات !!

 


 

 

يواجه موضوع إنهاء الفقر المدقع وتعزيز الرخاء مصاعب وتحديات عديدة، وذلك لارتباطها بعدة عوامل في كل مجال من مجالات التنمية، سواءً في الصحة أو التعليم أو الطاقة أو غيرها من المجالات، عبر مؤسسات فعالة وقابلة للمساءلة وشاملة للجميع على كافة المستويات. ويتطلب إنطلاق برامج التنمية الشاملة تعزيز مفهوم المؤسسات في إدارة عامة تعتمد الممارسات العامة والمفاهيم الحديثة لعلم الادارة للادارة الرشيدة (أي الحوكمة). وتُعرف "الحوكمة" بأنها الأنشطة والفعاليات والإجراءات العملية التي تتبناها وتقوم بها مجالس الإدارات، والمديرين التنفيذيين في إدارة منظومة العمل للتحكم في كافة النواحي الإدارية والممارسات المؤسسية. وتعمل الحوكمة على تحقيق أهداف الخطط الإستراتيجية للمؤسسات ومتطلبات النمو والتطور والتميز في مجالات رقمنة المعلومات. وهي مفردة يلزم إدراجها في الثقافة العامة في القطاعين العام والخاص لتحقيق المعرفة بالنظم والقوانين.
ويتفق علماء الإدارة على تعريف "الحوكمة المؤسسية" بشكل عام على أنها تمثل "مجموعة الضوابط والمعايير والإجراءات التي تحقق أعلى مستويات الإدارة الرشيدة والانضباط للمؤسسة"، وذلك وفقاً للمعايير والأساليب المعتمدة عالمياً، من خلال تحديد دور ومسؤوليات وواجبات كافة الأطراف والكيانات الممثلة في منظومة الحوكمة (المساهمون – أعضاء مجلس الإدارة - الأوصياء – الإدارة التنفيذية)، بهدف تحقيق عوامل ، وضمان المساءلة، وحماية حقوق وواجبات جميع أصحاب المصلحة المعنيين بالمؤسسة؛ وكل ذلك في وجود أنظمة محكمة للإشراف والرقابة الداخلية تهدف لمنح الحقوق ومساءلة إدارة المؤسسة لحماية المساهمين والملاك، لمساعدة المؤسسة على تحقيق أهدافها واستراتيجياتها على المدى البعيد والقريب. وعادة المؤسسات التي تطبق قواعد الحوكمة في إدارتها تقوم بصياغة وتقييم وسائل وإجراءات إدارة المخاطر بغرض الإشراف والرقابة الداخلية للتحقق من التزام المؤسسة والعاملين فيها بأحكام القوانين والأنظمة والقرارات واللوائح الشئ الذي يسهم في تنظم أنشطة عملياتها وتحقيق الأهداف المنشودة، مع الاستغلال الأمثل للموارد المتاحة والتأكد من إدارة المخاطر بشكل صحيح ومتميز.
كذلك يعرف كثير من الاداريين "الحوكمة" بأنها مصطلح يشير إلى مجموعة من الممارسات لإدارة منظومة هذه العمليات والنظم. ومن أمثلها الحوكمة المؤسسية، والحوكمة الإلكترونية، والحوكمة في القطاع الحكومي، والحوكمة في المؤسسات الحكومية، والحوكمة المالية، والحوكمة في الشركات والقطاع المصرفي وغيرها. ويعد موضوع الحوكمة في مؤسسات الدولة (خاصة في الخدمة المدنية) من الأهداف التي ركزت عليها الأمم المتحدة عند صياغتها لأهدافها السبعة عشر لتحقيق التنمية المستدامة 2030م.
ويعتبر الإصلاح الإداري هو مدخل للإصلاح الاقتصادي، ويمثل ركيزة أساسية لنجاح سهولة الأعمال، وتسهيل بدء الأعمال والمساهمة في تمكين المنشآت الاقتصادية، حيث يتسم الأسلوب الإداري الحالي في البلاد بالبيروقراطية، والتي تعني وفق الأطر العلمية الإدارية بأنها ممارسة إيجابية تهتم بوضع أنظمة وضوابط لسير العمل، وتقليل عنصر التقدير البشري من أجل ضمان تنفيذ المعاملات بنزاهة وحيادية دون تمييز، وبتطور المفاهيم الإدارية. لقد أضافت البيروقراطية بعض المرونة بحيث تستجيب إلى تعقيدات التحولات الاقتصادية الكلية والجزئية وتفرعاتها، ومراعاة تداخل القطاعات مع بعضها البعض. ومع الانفتاح العالمي المشهود والمنافسة الدولية التي تطلب تغيير مفهوم البيروقراطية إلى مفاهيم إدارية جديدة تواكب هذه التغيرات، حيث توصف حالياً بأنها واحدة من معيقات إتمام الاعمال. ويعد تطوير المؤسسات العامة ضرورة حتمية لتصبح ذات كفاءة وفعالية لمواجهة التحديات ومواكبة التغيير في البيئات الداخلية والخارجية لها والتفاعل مع المواطنين لتقديم خدمات متميزة لهم بما يسهم في تحقيق التنمية المستدامة.
ويتسبب سوء الإدارة المزمن والفساد في إضعاف وتقويض ثقته المواطنين في الدولة. ويعمق الفساد من حدة الفقر إذ يصبح الفقراء أكثر عرضةً للاستغلال وممارسات الرشوة في مقابل الحصول على خدمات مثل الرعاية الصحية والتعليم وغيرها. ويصبح المواطنون محاطين بدائرة الفقر وضعف الثقة في مؤسسات الدولة التي تقدم خدماتها بالشكل التقليدي المعيق أو يحول دون حصول المواطنين على خدماتهم. حيث أن الوظيفة العامة ترتبط بالمواطنة، وتخضع لمعايير الحوكمة الرشيدة ومن أهم مبادئها: سيادة القانون والشفافية والمساءلة والمشاركة، إضافة إلى المبادئ العالمية للخدمة المدنية والتي من أهمها، تكافؤ الفرص والجدارة والاستحقاق، والتي على أساسها يقاس التميز في الأداء والتطوير المستمر في أي دولة من الدول.
وتسعى القارة الافريقية (التي دائما ما توصف بثراء مواردها الطبيعية ووفرة رأس المال وثرواتها البشرية) الآن
لتحقيق التنمية المستدامة بجهود جماعية من جميع أقطارها دون استثناء ويتم هذا عبر دمج جميع قدرات القارة لتسهيل التجارة والاستثمار والتنمية بها. وهناك مؤسسات تشكل دوراً كبيراً في قياس مؤشرات أداء البلدان في أفريقيا، مثل مؤسسة محمد (مو) إبراهيم، التي تعتبر إحدى المساهمات المهمة لتحقيق هذه الغاية؛ حيث تقوم بقياس مؤشر إبراهيم للحوكمة في إفريقيا منذ 12 عاما مضت. وطرح تقرير الحوكمة في إفريقيا لعام 2019م أفكاراً جديدة بشأن التقدم المحرز نحو تنفيذ خطة الاتحاد الافريقي للعام 2063م وأهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة. ويشير التقرير إلى المجالات التي يمكن تركيز جهود سياساتها للتصدي للتحديات التي تواجه الحوكمة، ومن أهما فجوة البيانات. كما تشير النتائج العامة للحوكمة الصادرة عن مؤشر مؤسسة محمد إبراهيم للحوكمة في أفريقيا، والتي تعد قاعدة البيانات الأكثر شمولاً فيما يتعلق بالحوكمة في القارة أفريقيا، إلى وجود ارتباط قوى بمؤشر التنمية المستدامة في أفريقيا، الأمر الذي يؤكد أهمية الحوكمة الرشيدة للتنمية المستدامة عبر استعراض المواضيع ذات المستويات العالية من التداخلات بين خطط التنمية للوصول لخدمات التعليم وجودته والصحة والتغذية، وإدماج النساء والشباب والفرص الاقتصادية والأمن والعدالة والمؤسسات القوية.
والجدير بالذكر أن دليل إبراهيم للحكم الإفريقي يمثل نهجاً لمراقبة مستويات الحكومات الإفريقية إحصائياً في جميع بلدان إفريقيا. وقد تم تمويل هذا النهج وقيادته من قِبل مؤسسة محمد إبراهيم، حيث يستخدم عدداً من المؤشرات المختلفة لإعداد تصنيف شامل للبلدان. وقد تم تصميمه كأداة يتم تطبيقها في المجتمع المدني في الدول الإفريقية حتى يتسنى تحميل حكوماتهم مسؤولية أفعالهم. وقبل عام 2009، كان المؤشر يتناول منطقة أفريقيا جنوب الصحراء، ولا يشمل دول المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر. وكان أول إصدار له في عام 2007م.وقد تم إصدار هذا الدليل في بادئ الأمر بالتعاون مع جامعة هارفارد الامريكية؛ كذلك تم فيما بعد توفير المساعدة الأكاديمية والتقنية من قِبل مجموعة من الأكاديميين والجهات البحثية في أفريقيا.
وبحسب ما ورد في موسوعة الويكيبديا يهدف "دليل إبراهيم للحكم الإفريقي" إلى تقييم نظام الحكم الوطني بناءً على 57 معياراً. حيث تعمل تلك المعايير على تحري مدى جودة الخدمات التي توفرها الحكومات للمواطنين. وبالتالي يكون التركيز على النتائج التي يختبرها أفراد شعب دولة ما، وليست السياسات والنوايا المعلنة. ويتم تقييم كل معيار من المعايير ومواءمته لتوفير توحيد للمعايير وتأثير مناسب على النتائج الإجمالية للمؤشر.
وفقاً لتقرير"الحوكمة والمساءلة في إفريقيا: التقدم المُحْرز والطريق إلى المستقبل" الصادر عن صندوق النقد الدولي في13 يونيو 2022م فقد أشاد التقرير بمفوضية الاتحاد الإفريقي لدورها القيادي في تعزيز الحوكمة الرشيدة والشفافية، وأهمية تكثيف الجهود المشتركة لتعزيز الشفافية، وتحسين الحوكمة، والحد من مواطن التعرض لمخاطر الفساد. وهذه المسألة أكثر من مجرد أموال مهدرة – فهي تتعلق بتآكل العقد الاجتماعي وتفتت قدرة الحكومة على تحقيق النمو الاقتصادي على نحو يعود بالنفع على كل المواطنين. وتركيز الجهود على تقليل مواطن التعرض للفساد عن طريق تعزيز الحوكمة في ست وظائف أساسية للدولة: حوكمة البنك المركزي، وحوكمة القطاع المالي، وحوكمة المالية العامة، وتنظيم السوق، وسيادة القانون، ومكافحة غسل الأموال.
وأشار التقرير للعديد من الدول الأفريقية، ومن بينها دولة بتسوانا على سبيل المثال، وتحولها من أحد أفقر اقتصادات العالم إلى بلد ينتمي للشريحة الأعلى من الدخل المتوسط حاليا، وما تتمتع به من إدارة اقتصادية كلية رشيدة، وحوكمة قوية ومؤسسات جيدة. وقد بدأ انخراط القارة أفريقيا في شأن قضايا الحوكمة ومكافحة الفساد يحقق نتائج للعديد من الدول الأفريقية، ويمثل نماذج من عناصر أساسية للحوكمة الرشيدة والمساءلة. لذلك يتعين على المنطقة بأكملها أن تركز عليها للاستفادة بحق من إمكانات إفريقيا الهائلة. وقد أظهرت الأزمات المتعددة التي مرت على العالم أن البلدان ذات المؤسسات الاقتصادية القوية تستطيع مواجهة هذه التحديات بصورة أكثر فعالية، والتأهب بصورة أفضل لتحقيق تعافٍ قوي منها – وينطبق هذا على البلدان في كل مستويات التنمية. كذلك تعد حاجة الاقتصاديات الأفريقية للاستثمارات الخارجية عاملاً مهماً في كافة مجالات البنية التحتية مثل الصحة والتعليم، وهي تتطلب ضمان الكفاءة والشفافية والإشراف العام من قبل الحكومات. فالمستثمرين الأجانب يوجهون استثماراتهم لبلد ما لأنهم يعلمون أن حكومته ستحترم العقود المبرمة معها، وأن حقوق الملكية سيتم إنفاذها. فعلى سبيل المثال نجد أنه في حال غياب الاشراف على المشتريات العامة تصبح تكلفة المشروعات أكبر بكثير مما هو مطلوب أو متوقع.
ونختم القول بأن نجاح الإصلاح الاقتصادي والإداري للدول الافريقية (والسودان بصورة خاصة (يتطلب وجود عددٍ من الأطر الهيكلية الأطول أجلاً للارتفاع بمستوى الالتزام السياسي بالحوكمة الرشيدة والشفافية. ويبدأ ذلك بالحكومات عند إعدادها للميزانية وطريقة عرضها، كذلك ضرورة عرض واضح لإجراءات السياسات المقترحة، واستقلالية مؤسساتها العدلية والمالية بعيداً عن النفوذ السياسي، حيث أن احترام سيادة القانون يعد من العوامل الفارقة في البنية الاساسية للحوكمة، ويحقق إصلاحات جيدة في حوكمة المالية العامة. كذلك ترتكز الحوكمة على حق الوصول إلى المعلومات، بينما يعد توسع صناع السياسات الحكومية في استخدام التكنولوجيا من أجل تحسين كفاءة العمليات في الإدارة المالية أو المشتريات أو مراقبة إدارة الموارد الطبيعية من عوامل تمكين الوصول إلى درجة أكبر من الشفافية، من أجل إحداث تحول في العلاقات بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني كشركاء في تحقيق الديناميكية والشمول لتحقيق المؤسسية.
كذلك ينبغي أن يؤدي الجهاز الإداري دوراً مهماً في بناء الأنماط الحديثة في البناء التنظيمي وإعادة تصميم الهياكل التنظيمية لتحقيق المرونة والسعة في التكيف مع العوامل والمتغيرات البيئة والمتوقعة في حجم الموارد البشرية من حيث الكم والنوع على مستوى منظمات الجهاز الإداري، وتنمية قدراتها وتبني قيم العمل الجماعي وتعزيز الإبداع والتطور.كما يجب تنمية قدرات الجهاز الاداري في التعامل مع البيئة الداخلية والخارجية .وينبغي كذلك تفعيل اللامركزية الإدارية في اتخاذ القرارات، تماشياً مع تنمية المهارات لدى القيادات الإدارية والتنفيذية والوسطى للقيام بالأعمال الإدارية بما يعزز العدالة والشفافية والنزاهة والمساءلة وصولاً لنظم الحوكمة في بيئة العمل مما ينمي الثقة بين الدولة ومواطنيها.

nazikelhashmi@hotmail.com
////////////////////////

 

 

آراء