أوجاع جنوبية

 


 

 



abdallashiglini@hotmail.com

الدنيا ترحل في لولب سكران ، يترنح بالخُطى ، ويرشح بالوجع.

(1)

مقدمة :
نحن نتفق ، أو نختلف ، فكثير منا تكاثروا خلاسيي الملامح . وفي البدء كانوا يغنّون بلسان ويصلون بآخر . ورثنا الجينات البيولوجية وجينات الثقافة التي تتخلق . وتبقى هيّ تعاني أوجاع الفراق وقساوة الظُلمات المجتمعية التي عمّقت الجراح ، خاطت الأورام وفي داخلها الصديد ، وتحلم بالبرئ ، فكيف يكون ذلك ؟!
لسنا بصدد إنشاء محاكمة أو نصب مشانق للذين يحيون حياتهم كيفما اتفق ، يرضون غرائزهم في حيّز الممكن من الشرائع التي توفرها البيئة ، ولا يكترثوا أن أفعالهم لها ما بعدها ، أبعاد  قد تشوه الطيبة والسكينة والتعايش ، ويظهر القيح في مُقبل الأيام .
نُزيح المزلاج ونفتح بوابة الألم الدفين ، ونقبض على واحدة من بنات القص المُضيَّع ، ونأتي بها من دم الواقع المذبوح ونترك للسادة الكرام وللفضليات أن تتسع صدورهم ، ويرقبوا نبضات قلوبهم حين يلبسون أجساد شخوص القص الواقعي ويسألون أنفسهم  عن مصائر حيوات ذهبت حكاياتها  المؤلمة في صفحات تاريخٍ عصيّ أن يندثر .            

(2)

رجعت بي الذاكرة الى  ديسمبر 1972 . سنوات مضت . كان قد مضى على اتفاق "أديس أبابا" تسعة أشهر . في الجنوب قوتان مسلحتان مختلفتان وبينها روابط الاتفاق، ترابضان أمام مداخل ما كانت تسمى حينها بمدن جنوب الوطن ،  فقد توقفت الحرب تماماً بعد الإتفاق السياسي ، وجاء سلام حقيقي .

(3)

رحلة إلى الجنوب قمنا بها خلال العطلة الشتوية ، وكنا حينها في الصف الثالث في شعبة هندسة العمارة بكلية الهندسة جامعة الخرطوم . عنوان الرحلة الدراسية  ( المسكن في جنوب الوطن ). توقفت الحرب وخرج المشروع الدراسي الحُر الى العلن وتمكنا من انجازه آخر المطاف  . وقف الجميع تضامناً معه بالمعينات ووسائل النقل والإقامة وهو يتخفف من الصرامة الأكاديمية ، ويلبس ثوب النزهة والترفيه ، ويرصد الحقائق على الأرض  .
القوات المسلحة وفّرت لنا رحلة بطائرة  ( انتينوف ) روسية الصنع نقلتنا من الخرطوم الى جوبا .ووقّعنا جميعاً  قبل صعود سلم  الطائرة على مسئوليتنا  الشخصية عن سلامة أنفسنا، لأنها طائرة نقل عسكرية . كُنا نيّف وعشرين طالباً ومن ضمننا  طالبة واحدة. رحلة تقلبت خلالها كل مناخات الصحارى والسافنا والاستوائية قبل وصولنا " جوبا". أول مرّة  نلامس الوجه الآخر من الأرض البكر  . كم هذا الوطن كان فسيحاً  .

(4)

في جوبا كان مسكننا  الأول داخليات " المدرسة الثانوية " ( جامعة جوبا في تاريخ لاحق ). إنقسمنا الى فرقتين  ، لغرب النهر " غرب الإستوائية "  ولشرقه " شرق الإستوائية " . تتكون الفرقة الواحدة من أحد عشر فرداً ، وكنت ضمن فريق شرق الإستوائية  ،و معنا بعض  رفاق العمر الجميل : منهم يوسف ، بكرى ، جليلة ، والسراج  وشخصي وعلي مادبو و" غالب بُر " من وزراة الثقافة والإعلام حينها وآخرين ، يقودنا مشرف الرحلة الأستاذ " حسن شريف "وهو أحد أساتذة الكلية ورئيس وحدة المباني بجامعة الخرطوم  آنذاك  .
القرى وأشباهها في شرق الإستوائية هي المقصد . على سيارة النقل العسكرية  الألمانية الصُنع " المجروس " إنتقلنا  عبر الطريق البري شرقاً بعد عبورنا النهر . وكانت العبّارة النهرية هي التي أقلت  الناقلة والمتاع لشرق النهر ، فجسر جوبا لم يكن حينها الا حلماً . وجبل " الرجاف " شاخصاً في الأفق البعيد ، فأطلّت علينا من الذاكرة  قصيدة " ود الرضي " الغنائية
" من الأسكلا وحلا " :
صب يا دمعي لا تكون جَاف
وياقلبى البقيت رجّاف
البدر الخفا الانجــــــــــاف
اليوم شرّف الرّجاف

(5)

ديسمبر الشتاء في الشمال ، غيره  في جنوب الوطن . هو أقرب الى الصيف . خضرة الشتاء هناك في "جوبا "غبراء ، غير التي في المناطق الأخرى. ريح طيبة مسالمة ، أفق رحب وأرض غنية  . جبال متفرقة  متوسطة الارتفاع  . سهول ونباتات وبسمة الترحاب في أوجه الريفيين حين نلقاهم. تلقاك إشراقة مفرحة ما عهدناها أبداً  . سقطت إلى غير رجعة ، تلك النظرة الجافية وخيفة التوجُس من أثر ما سمعنا من أقاصيص عن الحرب .واكتشفنا الودُ في  عالم بريء ينضح إنسانية  :
أيها الغريب القادم من الشمال ، ترمُقك نظرة الإعجاب ، وبسمات بيضاء تلوّن  الأوجه ، تقول لكم تفضلوا . تلمس جلالاً وهيبة ، ترمقنا كأن تاج الملوك في محيّانا ، أو وضاءة الصلاح تعلوا جباهنا .
بدأت أستعيد حكاوي  صديقي الراحل " عبد الله موسى " وذكريات الستينات عندما كان طالباً  في مدرسة " رومبيك الثانوية " . غزل المدارس ، ومحلِّية لغة  عربي جوبا . وطرائف العالم البريء الساحر ، قبل أن تصبح المدرسة معسكراً حربياً :
( كانت صدور الفتيات مكشوفة إلى الخواصر ، ونبال الصدور  ممشوقة القوام  . كنا نعجب أن لم نعتد الرؤية ، وعرفنا أن الحياة بحريتها هي مسلك عادي ، لا يثير الغرائز ، ولا تنفتح العيون لدهشة الإبهار . الفارعون في الطول و الفارعات من أبناء وبنات الوطن جنوباً ، أجسادهم حسنة السبك. سلسة التقسيم ، نديّة ، ليّنة طريّة ، وقوية البنيان . فيها الوصف وفيها نقيضه .)

(6)

لم هذا الترحاب يفيض حتى تحمّر الخدود من الخجل ؟. أين نحن من النظرة الجافية ، التي تقول :
أيها الغريب من أنت وماذا تريد ؟
أيعقل أن يكون لهيب نار الحرب الأهلية من صُنع الصفوة منذ القدم ! .
إنه الشعب الطيب المضياف في كل ركن وكل ضاحية وحيّ ورهط وقرية  أو حزمة  أكواخ ، إذ أنتَ تعبر من جوبا الى الضفة الأخرى شرقاً . سلاسل من جبالٍ خضراء ، وسهولٍ على مدّ البصر . قرى متناثرة هنا وهناك  ، كأن  عيون أهلها حين تبصرنا تقول  بلغة القلوب :
- أهلاً و مرحباً . قدمتم أهلاً وحللتم سهلاً .

(7)

( تصميم البيت في جنوب الوطن ) هي الدراسة المبتغاة . ووسيلتها التعاطي الحُر و دخول الأكواخ ورسم مخططاتها والواجهات ، نحاول نقل ما لم يكن في الإمكان نقله من بيئة وحجر وشجر وإنسان وحيوان  . جولة  داخل مكوّنات  أي من الأكواخ والبيوت  تتلمس تنوعاً اجتماعياً ، واختلافاً بيّناً عن بيوتنا  في الشمال . نتفحص مواد البناء وطرائق التنفيذ . نرسم التفاصيل باليد ، وصور ضوئية يلتقطها  رفيق لنا مختص ، قدم معنا من وزارة الثقافة والإعلام . فأصبح للمشروع ثماراً للثقافة وللدراسة الجامعية وللترفيه وللرصد الثقافي والسياحي أيضاً  .  

(8)  

الأكواخ  ضيّقة المداخل لتحجُب الساكنين عن الضواري . لأول مرة تفهمت أن حبوب    ( البَفْرة ) المطحونة مع الماء والمخمّرة هي وجبة غذاء ، بما تحويه من فيتامينات صنعها التخمير ، و عند إزاحة الغطاء  عن الحاوية ،ترى الرغوة  وتشمّ الروائح . إنها من الضرورات التي يتعين توفيرها في كل حين  . ( للبَفْرة ) مفعول كمفعول السِحر . من حبوبها بعد الطحن اليدوي تُصنع (العصيدة ) . و من دقيقها المطحون  مع الماء والخميرة الطبيعية يصنع النبيذ البلدي  .ومن أوراق ( البَفَرة ) يُصنع الطبيخ في النار .
وصلنا " توريت " ، تفقدناها شبراً شبرا . بيوتها والأكواخ ومنازل بناها الإنجليز للخاصة. و مقابر الذين دفنتهم الحرب الأولى فوق ترابها . كُنا نلتف حول أكواخ القرويين ، و نتسلل عبر الأعشاب الباسقة لنشهد " نُقارة الخميس " .شاركهم صديقنا  " يوسف " في الرقص الجماعي المشترك بين الجنسين ونحن نشهد الفرحة الشعبية  الأسبوعية . كانت " توريت " أكثر أمناً من أي شقة فيها تنام في دولة متحضرة  . شهدنا احتفالات عيد الميلاد في الكنيسة التي تقع في جانب الطريق  العام خارج "توريت " . تحف بها ايقاعات الطبول وملابس القرويين الملونة ، والقادمون من قُرى الأطراف للحفل السنوي بميلاد يسوع المسيح  . كانت الكنيسة داراً للرحمة ، فيها التعليم وفيها الرعاية الصحية ، وفيها الخبز والكساء للفقراء  ، تنتهج طريقاً هادئاً صبوراً  للتبشير .

(9)

بإصرار صديقنا ورفيقنا ( بكرى ) قررنا زيارة ( كَتَري )، التي تقع في أعالي السلاسل الجبلية التي تمتد إلى " كينيا"  . هنالك حامية عسكرية  صغيرة أعلى الجبال ،على رأسها ضابط في القوات المسلحة  النظامية ، كان  أحد زملائه أيام الثانوية . وهي تبعد مسيرة ثلاثة ساعات عن ( توريت ) بالسيارة على الطريق البري .

(10)

عند اقترابنا من ( كَتَري ) بدأت السيارة الصعود من قبل عدة فراسخ على طريق ترابي ، تميل التربة فيه الى الإحمرار . أشجار الصنوبر العملاقة تغطي الطريق من الجانبين وتملأ الآفاق .
تغيرت ملامح الطقس ونحن نصعد ، تحس برداً وسلاماً من حولك . أنت تدخل المشاهد الخلابة  التي شربت من روايات القص الكلاسيكي  التي كنت تقرؤها منذ زمان ، وهي الآن بين يديك  نضرة مُبهجة . بيئة الإنسان حين ابتدأ حياته الأولى نبيلاً .
سلسلة من الجبال المتصلة ، تكسوها الخضرة بكل احتمالات ألوانها . تتمايل جيوشها بين سطوع الشمس  و ظلال داكنة من تحت البواسق من الأشجار . الشمس قرصٌ مُستدير ، ترى لونها أبيضاً  قمراً بلا حرارة . السُحب من حولنا تراها من تحتك . على مشهد يستحلب الجمال كأننا في مدائن الأحلام ، ترى من البعيد  شلالاً يهبط ماءه العذب من قمة الجبل ، رغوته بيضاء من سرعة الهبوط  . ترقد القرية على جانب من سفح التل ونحن نصعد .

(11)   

هذا وجه ( محي الدين ) المشرق عندما التقيناه . الأحضان وفرحه الذي  لا ينتهي ، فحياة العسكر تفتقد الدفيء ، إذ هي تنأى بنفسها عن العامة . فما بالك إذ وجدت اليوم صديقاً من الصبا الباكر  ؟. كانت فرحته بنا فوق كل احتمال . استأذن برهة وهمس لأحدهم ، ثم سرنا برفقته خمسين متراً حيث مسكنه . وأستقبلتنا سيدة الدار ، زوجه .  لم أزل أذكر تلك  السيدة الكريمة ، جميلة الملامح  وفق ما تسمح به نُبل الرؤية وسلامة العين التي ترى بنفسٍ صافية  من الكدر. هي نيلية السواد  بثوبها الشمالي الذي ترتدي . جلال وجمال يُجبركَ أن تنحني احتراماً ولا تتفرس الملامح  . وترحاب أهل البيت العامر بالدفئ الحنون على القلوب  يضيء ولو لم تمسسه نار . النظرة من وراء خفوت . للسيدة الكريمة كل طبائع أهلنا في الشمال ، كثيرة الترحاب وقليلة الحديث .

(12)

سألنا عن النبع أعلى الجبل ، فقيل لنا نصف الساعة تكفي للوصول إليه . لم نترك السانحة ، وصعدنا جميعنا ، نتتبع ممشى جبلياً بدون عوائق تذكر . وصلنا قمة الدهشة حيث بحيرة الماء العذب في شبه دائرة قطرها حوالى خمسة عشر متراً ، وعمقها نصف المتر . تطُل الأشجار المتشابكة عليها في حلقة تشبه حفاوة الطفولة باللعب وتماسُك الأيدي . عند دخولك الماء تجد الينبوع الصاعد من تحتِكَ  يداعب بطن قدميك ( حمّام  جاكوزي طبيعي ) . للطبيعة طرائق مبدعة في إعادة تركيب الأشياء التي نقف عاجزين دوماً أن نفُك ضفائر أسرارها .

(13)  
عدنا من رحلة الجبل ، وكنا على موعدٍ مع طعام الظهيرة .( جليلة ) أعدت مع سيدة الدار المائدة  من بعد الذبائح ، وفق المتعود من النهج والسلوك الموروث عندنا مع الإسراف . المائدة المضيافة  ونكهة الطعام على مائدة فاخرة ، فندقية الملامح ، حتى تحسب نفسك قد استأنست مع أحد مردة النبي سليمان، وقد جلب لنا كل مُتع الدنيا من الطعام ، في قرية تنام في الجبال البعيدة في شرق الإستوائية ، لكن بطبخ سيدة الدار  . جمعتنا المائدة جميعاً . طفلٌ في الثانية وطفلةٌ في عامها الأول ، يتجولان بيننا ، يداعباننا بلطف ورقّة . اختلطت الملامح ، وورثا لون أمهما ، وملامح أبيهما .   
- هذا محمد ، وتلك فاطمة .
هكذا أكمل ( محي الدين )  تعريفنا ببقية الأسرة .
في ذلك اليوم انعتقنا في كل القيود ، زرنا ( ورشة الأخشاب ) التي أقامها الإنجليز في ثلاثينات القرن الماضي ، بتوليد طاقتها الكهربائية  بواسطة طوربينات صغيرة تتحرك من  أندفاع شلال الماء العذب الهابط من أعلى قمة الجبل . مياه الشرب  تذهب لخزان المياه  مُباشرةً من ذات النبع ، يفسح الدفع التثاقُلي للتغذية من الصنابير . لقد شُيدت عدة مساكن على أحدث الطُرز الهندسية في الثلاثينات . الحمامات ذوات المغاطس ، وأحواض غسيل الأوجه ، وأحواض غسيل الأواني في المطبخ، والقيشاني يُجمل الأسطُح . غرف النوم والمعيشة تأثثت من خشب  صنوبري ، صقلته أيدٍ ماهرة . الباحات والغرف أفسح مما نرى اليوم .
للحديث دفيء أعذب مما تحتمل أنت  رقته وبشاشته . المرح بكوؤسه الثرّة ، الحكاوي بتفاصيل وشيّها ، الضحك المجلجل يهُز الأبدان ويغسل النفوس .  أعذب من الدنيا كلها العواطف الغزيرة ، المتدفقة من صدورٍ حانية . هكذا كانت ضفيرة الوطن تغزل من الأنفس نسيجها ، فتلتقي الوشائج بالمحبة وبالتنوع  العرقي واللغوي والثقافي ، وفِعل المدّ الذي يجري في الخلايا بالنماء الخُلاسي متنوع الإزهار ، مُتعدد الأهواء . ينام مقيلنا  على قمم فارعة  ، تصل العالم من سارية تلتقط شفرات العسكر من كل صوب  .

(14)

أوائل التسعينات من القرن الماضي :
بالأحضان على الطريقة السودانية ، التقيته :
- جنابو  ( محي الدين ) !
- زمن يا عبد الله ، الدنيا صغيرة جداً ، مشتاقين ، كيف الحال...وين إنتَ ؟
عرّفنا بعضنا ، والزوجات .  داعبنا الأطفال قليلاً .معه طفل وطفلة : أربعة سنوات وخمس سنوات ، وانا معي  طفلتين . تركنا الأطفال في رقابة الوالدتين ، ومن ثم المفاضلة بين أي الأماكن  أنسب في متنزه المقرن العائلي آنذاك.
سألت :
- المدام قريبتك ؟
- أيوه  من أهلنا ناس شندي .
- كيف أحوالك ، ما رجعت الجنوب تاني ؟ .
تنهد عميقاً ثم قال  :
- والله يا عبد الله بعد زيارتكم ديك ، وإتنقلتَ من ( كَتَري ) ، ما رجعت تاني .
- والأسرة  في (كَتَري ) ؟
تنهّد ...
- طبعاً رحّلتهم لأهلهم ، وقلت ليهُم  عندي مأمورية في الشمال  وسأعود. خليت ليهم مصاريف كويسة . وإتنقلتَ نهائي من الجنوب .
- وما رجعتَ ؟
- لأ ما رجعتَ ... الموضوع إنتهى زمان ، أوع المدام تسمع كلامنا . ما في أي حد من الأهل عَارِف .
عندها أصبت بما يشبه الدوار ، أمسكت برأسي .
- مالك يا عُبد !
- مافي حاجة ... أصلوا أنا اليوم مرهق من الصباح .
خرجت الكلمات ، وأنا لا أدري . أبدَى هو تعاطفاً :
- أنا معاي عربية ، ممكن أرجعكم .
- أنا برضو معاي ، أحسن  الأطفال يلعبوا  شوية ،ما في مشكلة ، أنا بخير .
تركني برهة ، وخاطبني عقلي متعجباً:
( الدنيا بالفعل ترحل في لولب سكران ، يترنح بالخُطى ، ويرشح بالوجع ) .                                                   
من غصة في الحلق تداعت ،سألته بعد  برهة وأنا استيقظ من هذه الحقيقة التي بدت كالحُلم  :
-    أخي " محي الدين " ، كيف  يا تُرى تنظر الآن لتاريخك ، وأنت ترى  المروج والأودية والسهول التي أنبتت خُضرة إنسانية مورقة ؟ . هنالك  الآن قطعٌ من دمك ومحبتك الغابرة ، وقد نَمَت على أطراف الأرياف البعيدة بدونك ، فوطن الأم هو خير ملاذ وقد هجر الأب فلذات كبده بأكذوبة وقطع ودّه وشرايين دمه بفأس صدء .لماذا ؟
-    أحنى  رأسه مُطرقاً ولم ينطق بحرف .

(15)

الطفولة المعذبة التي تشتاق في أيامها الأولى  ،أين هي  من بعد كل تلك السنوات ؟.كيف يهجد جسدك سيدي  للنوم ، وصرخات ألمها وضجيج أفراحها  كانت ترن في أذنيك في كل يوم من أيام  و سنوات هجرك الأولى، رغماً عنكَ ؟.
مضى الزمان  ، ودارت دورة التاريخ برهةً في  الكون الفسيح . تنتقل الآن  الحيوات بنضارتها الى دفة كتاب من القص  المنزوع من لحم الواقع ويقطّر دماً ،يحكي أثراً  كتبه التاريخ ، وحفره في الأجساد  وسجله النسيان !.
مَنْ الجلاد يا تُرى ومَنْ الضّحية ؟
وهل آن لعلم الإجتماع أن ينصُب منصة ليقتص للعدالة  ؟ .
لمأساة علائقنا بالجنوب وأهله أوجاع أكبر من الكتابة ، طمرتها الصدور . جينات أكبر من كل دعاوى الإنقسام والفرقة . ماذا يا تُرى فعل كثير منا ليبقى الجنوب ولُحمته ضمن الصدور الحانية ؟ . تركنا لهم الفواجع  نازفة  وفررنا ، بل أرسلنا أرتالاً للحروب والموت ، حتى جاء الإسلاميون بفؤوس  البتر والتكفير ، ونفد الجنوب المورق الطيّب بجلده  يحاول أن يصنع وطناً آخر بعيداً عن عذاب السنين. ولما تزل فؤوس البتر تفعل فينا فعلها ،كأنها تقتص من تاريخنا.

عبد الله الشقليني
13/04/2013

 

آراء