إبراهيم الكامل آل عكود .. تعجلت الرحيل

 


 

 

 

abdallashiglini@hotmail.com

وإنك لنجم يهتدي صحبه به ، إذا حال من بين النجوم سحاب. بك كانت بلادي تطاق ، وعُشرة الأحباء مرقد ضيقٍ ينتهي به العُمر   . ركِبتَ خير مركِبٍ ، وصاحبت أنتَ أولاً الكتاب . لا يستريح المرء إلا بتقفي آثارك، ففرسُك تواعد الريح دوماً بالانطلاق . خير وطنٍ عرفناه هم من السُمر ، أحفاد " رماة الحدق " . بهم تضيء الدنيا وأرضهم نسميها في وجدانناالوطن . فلا بركة إلا بهم ،و خير الزاد صحبةٌ خيِّرة ،. كأن المنيّة قد تعجلت خطوها قبل أن نلتقي  مرة أخرى من بعد عشر سنوات. كنت يا سيدي تقول لي دائماً ( إنك لم تقتنع بصيد الفرائس الطبيعية بين الحيوانات من آكلة اللحوم وآكلة العشب ، رغم علمك بكثرة إنجاب الأخيرة وقلّة وجود المفترسات  ، وقلت لي إنك لو كنت أسداً لمِتّ من الجوع ! أي جوع هذا الذي يفرقنا الآن ؟! . أضحت الأشجار التي نستظل بها تُساقِط علينا أوراقها ، وتلهبُنا الشمس من حيث لم نحتسب . وإنه لمكر الدنيا ومكيدتها التي تختار لنا إظلام النهار وبكاء الليل . (1) تركتنا سيدي للذكريات صدى السنين الحاكي ، وذهبت بعيداً في غيبتِك الكبرى . اتسعت خروق أنفسنا عن الرتق .وجفّت كلمات تصطرع ولا تجد وصفاً دقيقاً لنُبل شخصكم الكريم وتنوع ذخيرتكم من الشعر والنثر والترجمة والرسم ، غير أن المولى أوجدك بيننا مثل شهاب حام في سمواتنا ذات برهة كونية ، وسبحنا ننظرك في أنفسنا وفي الآفاق . وحريٌّ بنا أن نفرح أنا كُنا شركاء بسطة مجلسك ، ومن بطانتك التي أحببت . انتشرنا بجوارك ذات يوم ، ونحمد مولانا الذي بك كفانا عن غوائل الدهر . ونثر علينا محبتك ذات برهة زمان ، ولا ينقطع شكرنا عن تلك المنحة الربانية أن كنتَ بعضاً منا ، وجفا الزمان أن يمتعنا كما أحببنا أن نكون . (2) بلغني فراقك من رسالة حميمة من صديقنا" أبوذر آل عكود ". قطرات من الدمع السخي تلاحق بعضها تعيد توازننا النفسي ، وهي مشقة البُعاد الذي ليس لنا يدٌ فيه، وكنتُ قبل أيام أبحث عن بعض الأبيات الشِعرية التي أهديتها ابنتي قبل أعوام ، عندما كانت طفلة تسكُن معي في غيبة المنافي ، ولم أجد ما كتبتَ أنتَ لها . وذاكرة الأرض والسماء أكبر من قدرتنا على النسيان ، وسوف نجدها في مٌقبل الأيام ،إن شاء المولى. وإن رحيلك الأبدي امتحان للنفس عجيب ، وليست أغراضه خافية علينا . لم أزل أُقلب سفرك الداوي ( المدارات والمعابر ) علني أطيب من بعد فراق هو قسمتنا في هذه الحياة . (3) التقيت " إبراهيم " في صفحة من صفحات المنافي ، واستطعمت حينها مائدة السماء . سمعت رنيناً يهبط من فوقها ، و ( أجليت النَظر يا صَاحِ ) ، واكتحَلَت  برؤيتك العيون . كُنت من قبل قد تَطلّعت لقبسٍ من سِفرك الأول . ومن يشتَمّ البعض  يُفتتَن ، ويطمع أن ينبسط له الرزق  . فمن السماء هبطت عليَّ مائدة ، وقد بَخُلت عَلى من سألوا الأنبياء عليها من  قبل  . سُبحان من يُجري الأرزاق على هواه . استطعمت ولم أزل أستقطع لنفسي ما شاء الوقت ، وأقرأ من سِفرٍ في منزلة رحيق عمرٍ ، يعجز القلم أن يستجلي كنوزه . مرحى .. مرحى ، يقول "إبراهيم" إنه سِفره الأول ! .         استكتب أبو الفرج الأصفهاني نفسه خمسين عاماً ، حتى كتب الأغاني . وهذا السِفر أجده يذَّكرني بمنـزلة من منازله . يصغُر سفر"إبراهيم" حجماً عن أي من مجلدات الأغاني ، لكنه كثيف المحتوى ، غنيٌ بكنوزه . لم يجمع الأشعار والأخبار كما فعل الأصفهاني ، بل جلس عند كل نص من نصوصه جلسة عابد ٍ، زينت له الدنيا من حوله آيةً من نعم المولى ، يجلي غموضها ويدخل ملكوت كاتبها ويلبس روحه حتى ينقلها للغة الأخرى .          لقد تخير " إبراهيم " مادته للترجمة من النفيس المنظوم ، و من المموسق ، والمقدس ، ونقل لنا من شِعره الفصيح والعامي وافترش لنا أرائكَ نتكئ عليها لننهل .إنها لمفخرة لي  ، أن يتطوَّف من حولي مُذنبٌفوّاح بعِطر الثقافة البَهي. لن نقدر على شُكر من جعل السماء بأنوارها المتلألئة في قبضة أيدينا ، ويسر " لآل  عكود" أن تكون منحة المولى لسليل أنسابهم . نِعم الأرواح حين تأتلِف . قلت له : ـ فارع الطول أنت مُشرِق الطَلعة . بسمتك ترسم لُطف ملامحك النبيلة . تبدو كأخٍ صدوق يكبُرني فقدته زماناً ثم التقيته في مساء يوم من أيام المنافي .   رد ببسمة ، وعلى وجهه أرى ارتباكاً لا يناسب ثقل تجربته و عُمره ، وتلك من بشائر التواضُع . هو عيب استشرت جرثومته و ملأت كل خلايانا المُبدعة . جلسنا ولم يترك لنا الوهج الذي بيننا  مجالاً لنتعرّف  قشور بعضنا  فدلَفنا إلى اللُب . بدأنا بالمِزاح ، وتقلَّبت نفسي في نعيم أن يُصادِق المرء  جمال المزهرية المورقة وهي في عُمر العطاء السخي ، فتُفرد  من روائحها ، وتمُد إليّ فرح الدنيا  يضحك طفولةً . (4) قلت : ـ ــ إذن (  المدارات والمعابر ) هو سِفرك الأول . قال : ــ ـ نعم هو الأول و هنالِك ديوانا شِعر ينتظران النشر . كَوْني هو الذي تكاثف ، عَسيرة  هي الكِتابة في موطننا . تَعذبتُ  وأنا أصحِح المُسوَّدة ، المرة تلو الأخرى . ضاقت بي الدنيا قبل أن يخرج السِفر إلى النور ، ولم يزل عندي موضع مُراجعة ، وشيئاً من حتى !. قلت له : ـ ــ  ربما نحن في السودان حديثي عهد بالنشر . سبقتنا القاهرة وبيروتوحلب و دمشق . قاطعني : ـ ــ    الأزمة  في تصحيح اللغة والإخراج والصقل !  لحظة صمت نَهضَت بيننا ، وانعطف بنا الحديث  لشأنٍ آخر . قلت : ـ ــ حَدِثني أنت عن الكتابة وخواطرها ، و هواتف الذهن التي تُطارد من يكتبون . أهي تُطاردك ؟ قال : ـ ــ كأنك تقصد خَمر الكِتابة ، وسُكر اللغة ، فعندما أصعد عتبات الخيال الحالِم ، تهبط عليَّ الخواطِر هبوط النسور على القوارِض . قلت له : ـ ــ إنها  خاطرة غريبة الأطوار  تعتريني مثلك هذه الأيام .لا وصف  لملامحها الغريبة ، حين تتملّك الروح والجسد  . لا وقت تتخيره هيللهبوط عليَّ .حتى نَـزف السماء لَه مواسم ، لكن تلك الخاطرة تتسلل إلى الذهن كقَدرٍ استعذبت سكِينه مواضِع الرخَاوة وغاصَتْ . تهبط عقلك هبوط ملاكٍ في هِزة كونيةٍ ترتجُ لها الأفلاك  ويتمدد الكون في فراغهالسحيق  . هذا عسير عليّ . أصحو فجأة من حلمٍ يذبحني وأنا أتخبط من انفلات الروح وقت مُفارقة الجسد . أركل بقدميَّ كأنني أتشبث بالحياة. عسير أن يهوى  المرء قاتلِه . يُكسر سُنن الأحياء  في حُب البقاء و كره الفناء  . قال إبراهيم : ـ ــ نعم ، أنت الصادق . كأنك قد وصفت ما بي . أحسست أن الخاطِرة أمر كَوْني حين يهبط يستوطن ذهني . يحُثني لأكتُبْ ، وعندما أفعل تسترسل اللغة في نـزف متقلِب الألوان و الملامِح . لوحة مُتحركة ملؤها الأحمر والأبيض والأصفر والأسود والتركُواز ، وعجائب تتخلق بين استراحات الرمادي حين يستعصي الصفاء والود بين الجميع . أقلق هوَّ ليلي و تَهيبته . قُلتْ :ـ ــ أراك سيدي وأنت في عُمر تجاوز الخمسين ، كنخل فارِع الطول حين تُداعِبه الريح يضحك . فجذوره قد استشرت شرايينها تُمسِك بعروق الذهب في صخر الأرض .أعرف من يقول اترك في جيب سُترتك مُفكرةً صغيرة على الحِمل ، ناعمة رشيقة في رفقتك حتى وأنت نائم ، وعند هبوط صرخة الخواطر ، انـزع نفسك من النوم وامسِك القلم واتبِع الأوامِر . (5) قال إبراهيم : ـ ــ  أذكر في زمان قديم كُنت أعرف سيدة أجنبية تعشق مثل هذه الخواطر ، وتجلس في حضرتها جلوس الطفولة أمام الجَّد حين يقُص من أحسن قصصه التي تُلهِب الخيال . كان قلمها يُطيع الخواطر المجنونة و ينقل الشِعر والنثر . يهبط ذهباً لامِعاً برياحه الشيطانية يلتهب بالتمرُد ، حتى عبثت تلك الخواطر بذهنها ، وأسرجتْ بُراق الأحلام  وطافت  الآفاق ،استعصى عليها العودة لعالمنا . كانت تلك مأساة مُجلجلة .كَتبتْ تلك السيدة أسفاراً تُـذهل العقول . ترمي الأحجار في البِرك النائمة ، وتلون أقصان الخيال بألوان الدنيا الساحِرة . إياك يا عبد الله أن تستجيب لتلك الخواطر فتتملكك وتُبعدك عن القريب والحبيب . استجِب قدر المُستطاع ، ولا تُسلس لها  قيادك كل الوقت .  إنها تضرِم نارها حزاماً حولك حتى يستعصِي علينا أن نُعيدك لدنيانا . أنت تعرف الشاعِر إدريس محمد جمّاع  ، فعند تآلفه مع تلك الخواطِر سرقت دَنياه ، وسرقته عنا . قبل غيبته الكُبرى نفث غُبار الشِعر ندياً حنيناً دافقاً ، واستغرقت نفسه محبة لا شواطئ لها . أمطرنا جمَّاع ترياقاً يُقينا شاطحات الخيال ، وغاب هو شهيد سِحرها . قلت لإبراهيم : ـ ــ يقول الشيخ عبد القادر الجيلاني : ( الخاطرة تُغري بالانفلات ) . إنني أعرف مخاطِر الإبحار معها . دعني  أعود لنهجِك ، حين قلت لي إنك تستنهِض روح الفنان الذي صاغ النص قبل ترجمته ، تسبح قليلاً  في عوالمه . تتقمص روحه  ، وترقب كيف استجمع هو الخيال ساعةالخلق . الفكرة ، وحبائل اللغة و النص ، ثم حُلول الروح قبل بدأالترجمة . إنه عِشق غريب على سَمعي ، عصيٌّ على فَهمي . إنني لست شاعراً لأحكُم . أنت  تُقربني من الصفاء  ودنياه السَاكِنة المُتأمِلة . أتَعشق النص أولاً أم تُصادق الحُلم ؟  . قُل لي كيف تحول النص  عندك من عامية شِعر البُطانة القديم إلى الإنجليزية ثم إلى العربية الفصيحة عندما ترجمت الشِعر من  ( مُسدار الصيد ) للشاعر الفخيم محمد أحمد عوض الكريم أبو سِن  ( الحاردلو ) ؟ . هل لك أن تنشِدني النص أولاً ثم ترجمتك  للإنجليزية شِعراً ، ومن ثم النقل إلى العربية الفُصحى شِعراً أيضا . اسمعني كل ذلك بنغم "الدُوباي" وريح أهل البُطانة كما وعدتني .   ضحك "إبراهيم" و أنشد بمخارج الأصوات الريَّانة بخبرته في التدريس ، منذ مراحله الوسيطة والثانوية ومن ثم الجامعية . الأحرف عنده تتراقص وتتموسق . الهبوط والصعود والتأرجُح ، المد والإدغام والخلخلة والقلقلة والإخفاء والإظهار . سينمائية تتقمصه بكل ألوانها الطروب حين يقول   : ـ ــ دوبيت الطبيعة ( من مُسدار الصيد ) للشاعر الحاردلو بلهجة قبيلة  الشكرية :   الشَّم خَوَّخَتْ بَرَدَنْ لَيالي الـــحَرَّهْ والبَرَّاقْ بَرقْ مِنْ مِنّا جَابَ القـــِرِّه شوفْ عيني الصِّقيرْ بِجْناحُو كَفَتَ الفِرِّهْ تَلْقاها أمْ خُدودْ الليلهْ مَرَقَتْ بـــَرَّهْ   ( أم خدود : الغَزالة ) وبالإنجليزية :   HARDALLO QUARTET OF NATURE   The sun leant squashy … Scorch suddenly abated ; Lightning then flashed … Breezed freshly floated ; Glimpsed I of a hawk.. Lashing a dove , unawaited The cheekiest of gazelles.. Now leaves caverns dilated..     عبدالله الشقليني ٤ اغسطس ٢٠١٥

 

آراء