إتفاقيات السلام : مشروع لحل الأزمة … بقلم: عمر الترابي

 


 

 

 

رعاية الإتفاق أهم منه.

Alnahlan.new@hotmail.com

في الوقت الذي يمضي فيه السودان نحو مرحلةٍ جديدة - تشير كل المؤشرات إلى أنها ستكون معقدة وصعيبة وتحتاج إلى رباطة جأش وحكمة ومرونة- لا بد من إشارات عاجلة لمواطن إحدى الأزمات الكامنة التي من الممكن أن تنفجر وتثير العالم المتوتر أصلاً وتزيد المشهد السياسي السوداني تعقيداً، و هذه الإشارات تأتي مسحاً على تاريخ تتأرجح فيه مآلات الربح والخسارة ويصبح جرده أحياناً مراً وأدعى لمواقف بديلة، فحسب المتأمل له أن يأمل أن لا يعاد فتحه مرة أخرى ويبذل وسعه من اجل تلافي الأخطاء إذ أن صيرورة المواقف تأتي مكرورة وعجيب إن لم نتعظ بها، وفي هذا السياق تأتي الإشارات علها تجد من يسارع إلى علاج الأزمة وتداركها قبل أن تمضي هي الأخرى إلى التضخم المتوالي الذي أصاب غالب أدواء السودان، فالسودان ومنذ 1989م ظل يعايش أوضاعاً استثنائية، أفرزت ظروفاً استثنائية، ولكن هذه الظروف انضبطت بمستوجبات الإيلاف المنعقدة اتفاقاً وتراضياً عبر مواثيق أرستها ثقافة الحوار نتاجاً لفشو و رسو ثقافة الحوار -إلى حدٍ معقول- ، فيأتي هذا الجهد محاولاً استصحابها في مرحلة ما قبل الإستقتاء ضرورة لازمة وذلك عبر تنشيط الإتفاقيات المهمة.

وبالنظر في هذه الإتفاقيات، نشير إلى أنه مع بداية الألفية الثانية التفتت كل أطراف الصراع في السودان إلى ضرورة انتهاج نهجٍ حواري في مخاطبات قضايا الوطن الرئيسة، وكان ذلك القرار حكيماً من جهة ولكنه من وجوه أخرى كان مغامراً و يحتاج إلى تضحيات كبيرة؛ فمن الصعب لمن حمل السلاح أن يضعه دون أي ينال مقصوده أو تحل قضيته، ولكن القيادات السياسية ارتقت لمستوى الحدث والتزمت بالإعتراف بأزمة وبضرورة وجود تنازلات وتضحيات للوصول إلى اتفاق على سبل علاجها، نتج عن هذه القناعة السياسية المشتركة جملة اتفاقيات و عدد من العهود والمواثيق هدفها الوحيد هو حل المشكل السوداني، فكانت نيفاشا (2005) مدخلاً جاداً لحل أزمة الجنوب التي اتفقت الأطراف على أنها تستدعي الحل سلمي فجاء الإتفاق حصيلة أشهر من التفاوض، و كمَلَها اتفاق القاهرة الذي وقعته الحكومة مع التجمع الوطني الديمقراطي (2005)،  و من ثم جاءت أبوجا (2006) كمدخل لحل أزمة دارفور، وجاءت أسمرا أو سلام الشرق (2006) كمدخل لحل أزمة الشرق، وجاءت اتفاقات أخرى كنداء الوطن والتراضي الوطني وغيرها.

كان الإتفاق وتوقيعه يعني ان حرباً وضعت أوزارها وأن سلاماً جاء واقترب، وكان هذا هو زاد الحلم السوداني بدولةٍ قوية وآمنة، مُتنت كل الإتفاقيات بضوابط وآليات رقابية وهيئات متابعة تقيها من الردة إلى المربع القديم، وبالرغم من ذلك فإن  بعضها كان سلاح حربه غير بعيد عن أيدي طرفيه فكانت يد تنفذ وأخرى على مقبض السيف، بالرغم من ذلك إلى أن المنطق يشير إلى أن هذه الإتفاقات جاءت عن قناعة متواكدة وتراض نسبي ونزول إلى صوت الحكمة والعقل و أحياناً المصلحة وتجاوب غير مشين لضغوط انسانية، و لعله من اللازم أن نشير إلى الإنفاقيات حملت قضايا جهاتها و أصوات المطالبين ووفت في مكتوبها غالب أحلام المهمشين، و تميز اتفاق القاهرة بأنه كان أكثر قومية من غيره وجاء بعيداً عن الجهوية وقريباً من علاج المشكل الأساسي للسودان و متمم لنواقص اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا)، بوصف أنه ينتمي إلى طرف كان يحمل لواء المعارضة بإسم تجمعٍ عريض لأحزاب السودان، فاهتم بنقاط نقابية وتشمل المفصولين و كثير من قضايا المواطن البسيط وحلم الوطن الجامع.

مضى تنفيذ كل هذه الإتفاقيات مضياً متراوحاً بين المقبول و المتقبل على مضض، وكانت الإرادة السياسية حاضرة ولكن في بعص الأحيان تسبب خطأ تقديم وجوه الحرب لمرحلة السلام في بروز تحديات كبيرة أضرت بسير بعض الإتفاقيات، ولكن كانت الضمانات تحل الإشكال وتعيد دفع عجلة الإتفاقية، البعض فسر الجو الذي أفرزته اتفاقيات السلام والممارسات عليه بأنه انتقال من حرب السلاح إلى الحرب الباردة، وأن الإتفاقيات لم تستطيع قتل العداء، لذلك كان الخوف من نُذر الحرب أكبر من الطمع في تحقيق هدف السلام "التنمية"، والبعض الآخر يرى أن مجرد تقادم الإتفاقيات و بعدها من تأريخ الحرب وزمانها لهو إنجاز.

لقيت اتفاقية نيفاشا الإهتمام الأكبر من التنفيذ والحظوة الأوفر واستطاعت أن تفرض نفسها بمفهوم أنها أفرزت شريكين أصيلين يغلبان كل الآخرين في السلطتين التنفيذية والتشريعية، و استأثرت اتفاقية الشرق بخلق وضع محدد واكتفى بصنع السلام، واتفاقية أبوجا ظلت تلح عليها الضرورة لتتطور لتضوي تحت لوئها أو تنضوي تحت لواء اتفاقية أوسع تلم الجرح الدارفوري كله، ولكنها ظلت صامدة وظل موقعيها على سدة الحكم وفي موقع القرار، أما اتفاق القاهرة فقد كان الأسوأ حظاً كما يشير التجمع الوطني الديمقراطي الذي ظل يشتكي من بطء تنفيذه للجهات الراعية طويلاً، حتى أن البعض من رجالات التجمع ظل يتمثل بالمثل العربي البليغ: أحشفاً وسوء كيلة؟!، و الحَشَفُ من التمر: ما لم يُنْوِ، فإذا يبِس صَلُب وفسد فصار لا طعْم له ولا حلاوة، فكان المعنى أَتَجْمَعُ عليَّ أَن يكون المَكِيل حشفاًُ وأَن يكون الكَيل مُطَفَّفاً؛ وهذا لعمري ظلم مركب، و أمر عجيب! فهكذا يصف البعض حال اتفاق القاهرة، بالرغم من أهميته التي تجعله مدخلاً لحل الازمة السودانية.

جرت انتخابات في ابريل 2010 ، موافية لما نصت عليه نيفاشا (2005م) وأشارت إليه اتفاقية القاهرة (2006) هذا إذا تغاضينا عن التأخير، وجرت في مناخ كنا نأمل أن يتم تأمينه بتراتيب تصالحية سياسية أولاً، إلا أن ذلك لم يتم لأسباب تختلف بإختلاف الناظر، لذلك أفرزت مناخاً يحتاج هو الآخر إلى إعادة نظر ودراسة متأنية للخروج به إلى محط أمن ودار سلام، "فتأزم المأزوم" ولم يحقق أملنا برسوٍ الى بر آمن، وإن كان هناك أمل كبير في أن يتم تلافي ذلك عبر تراتيب تتوافق عليها القوى السياسية.

بعد الإنتخابات وبفعل النظام الرئاسي الذي يجعل الرئيس دوماً في محك ديمقراطي حقيقي وامتحان صعب لإيمانه بها لما له من صلاحيات واسعة ومتركزة، أصبحت الإتفاقيات -خاصةً و أن بعضها ما زال طور التنفيذ-  في أزمة تحتاج لمعالجة حكيمة، إذ أن أسبابها لا تزال موجودة وتحتاج إلى علاج، ومواصلة السعي من أجل العمل على اطفاء جذورها وعلاجها بالذي هو أحسن، فرأينا ملامح لبقائها ومضيها واستمرارها، وهو أمر يحتاج إلى دراسة متأنية وصبر وتغليب للمصلحة الوطنية، ولكنه لعله يجبر بعض ما كسرته المرحلة الماضية.

ما أريد الوصول إليه الآن مستصحباً في معيتي القول بأن السودان مقبل على تقرير المصير الذي تؤكده اتفاقية نيفاشا ويشير إليه اتفاق القاهرة ويشير إليه الأخير مصحوباً بشرط واضح بين إذ يقول "كما يلتزم الطرفان بأن تخطط الحكومة الانتقالية وتضع موضع التنفيذ التدابير اللازمة بحيث تقود ممارسة حق تقرير المصير الى دعم خيار الوحدة"، وهو البند الذي يتحدث عبره رئيس التجمع الوطني الديمقراطي مولانا السيد محمد عثمان الميرغني ويشدد على أنه لن يسمح بإنفصال الجنوب وسيعمل جهده أن يظل السودان موحداً، وهو البند الذي يجعل -التجمع الوطني الديمقراطي- منوطاً به رعاية اتفاق القاهرة حتى الوصول لهذه الوحدة بالتنسيق مع الحكومة.

إذاً فالإنكباب على اتفاقية القاهرة مرة أخرى و الإلتزام بها قد يجعلها مخرجاً مهماً لكل الأزمات، فمن ناحية فإن للإتفاقية آليات حوارية مهمة تستطيع تحقيق الإجماع الوطني وتستطيع توليد موقف مواحد لأحزاب التجمع وتقارب هام مع الحكومة، وتستطيع منح أحزاب التجمع مجال –مستحق- لطرح رؤى تحقيق الوحدة الطوعية و تفادي شبح الإنفصال.

يقال : أن تنال الحكمة عن طريق مصائب الآخرين أفضل من أن تنالها عن طريق مصائبك أنت، ولكننا في السودان جربنا السبيلين فأخطاؤنا الفادحة كانت أن (البعض) يقحم حديث الحرب في حين السلام وحديث السلام في حين الحرب، و(يدمن) نخبوية الطرح في زمان لا يستقيم فيه إلا تناول جاد لقضايا الشعب الحقيقية، و أن الوسيلة فد تلهينا عن الغاية؛ فإن مجرد توقيع الإتفاقيات لم يكن نهاية لكل الآلام وانطواء لكل القضايا، بل إنه انطلاقة إلى حيث التنمية وحل القضايا عملياً، وهذا ما نثق في توافره لدى القيادة السياسية المحبة للسلام، لذلك فالداعي الآن أن يجتمع موقعي تلك الإتفاقيات على أسس العمل من أجل إكمال المشوار.

إن القضايا المصيرية التي يواجهها الوطن اليوم، والبلايا الحقيقية التي ابتلي بها، تستدعي حساً وطنياً عالياً من كل أطراف النزاع، ونزعةً مخلصة نحو الحوار الجاد الذي تغيب عنه الرؤى الضيقة والنظرات التي لا تفي بدراسة أحوال المستقبل ولا تسع حال السودان!، حوارنا المنشود يرعى القيم السودانية الأصيلة ويعكف دارساً لقضايا البلاد الحقيقية و يرشد الفاعلين من أهل الحكم والسياسة إلى  مخارج أزمات البلاد، فابتداع آلية للخروج من حالة الإستقطاب السياسي الأخير هو ضرورة، ولا يتم ذلك إلا بتصافي النوايا والتواضع، والتنازل عن مواطن الخلاف والوقوف إلى أرضية الوفاق، وهي دعوة نرجوا رواجها ونأمل ثمارها، هذا والله المسؤول أن يسوق البلاد إلى الخير والبر الآمن، به الإعانة بدئاً وختماً.

نشر بصحيفة الصحافة. التاريخ: 25-مايو-2010    العدد:6058 الراي36

 

 

آراء