إحداثيات الثورة السودانية
بسم الله الرحمن الرحيم
الثورات العربية التي قامت منذ ديسمبر الخير الأخير ولا زال عزفها مستمرا حررت شعبي تونس ومصر ووضعت شعوب ليبيا واليمن والبحرين وسوريا على طريق التحرر، هذه الثورات لكل منها سمات مميزة عن غيرها ولكنها عموما اشتركت بدرجات متفاوتة في استخدام التكنلوجيا الجديدة في التعبئة الشعبية وكسر التعتيم الإعلامي الرسمي، والحشود الضخمة دروعا بشرية بوجه السلطة المستبدة وآلتها الأمنية المتوحشة، والإعلام الإقليمي والدولي الفعال خاصة قناة الجزيرة الفضائية مع دور لقناة العربية والبي بي سي من الفضائيات وكلها تجعل مسرح الثورة مشاهدا أمام العالمين، مع تنامي مبدأ الحق في الحماية العالمي مما يحد من قدرة الحكام على البطش حيث يُفضحون عالميا وتجرّف مقبوليتهم الدولية. إن حتمية تمدد الثورة لتعميم التحرر من الاحتلال الداخلي لم تعد مجال مغالطة لطويلي النظر ونافذي البصيرة.. السؤال هو كيف ومتى ستكون الثورة في السودان؟ وبلغة مجال ثلاثي الأبعاد ما هي إحداثيات الثورة: جغرافيا أي أين ستنفجر أولا، وزمانيا أي متى ذلك، وطليعيا أي ما هو دور الشرائح الشعبية المختلفة فيها؟
لم تفلح محاولات الحشد في السودان حتى الآن عبر الإنترنت. ولهذا أسباب موضوعية.
قلنا إنه وبحسب موقع إحصائيات الإنترنت العالمية (صفحة أفريقيا) فإن عدد مستخدمي الإنترنت في مصر يساوي نحو 17 مليون نسمة بنسبة (21,2% من السكان) وفي تونس 3.6 مليون بنسبة 34%، وفي ليبيا 354 ألف فقط أي حوالي 5.5%، بينما في السودان المستخدمون نحو 4 مليون بنسبة 10%. فنحن لسنا أسوأ من ليبيا التي قامت فيها الثورة. والإنترنت أيضا هي مكان حرب بين النظام والمعارضة ويعمل النظام على تخريب عمل المعارضة من الداخل. نشرت صحيفة الفاينانشيال إكسبرس تقريرا في 3 أبريل ذكرت فيه إفادات من قادة في المؤتمر الوطني حول تخذيل العمل المعارض وهزيمة الثوار في ملعبهم (الإنترنت). أنشأوا عشر مجموعات فيس بوك في الشهرين الماضيين وأنزلوا موضوعات مثل "مؤتمر وطني وأفتخر" و"لا للمظاهرات في السودان لا سلمية ولا تخريبية"، وقال طالب مؤتمر وطني اسمه مصعب صالح أنه يقوم باختراق مواقع الثوار باختلاق أسماء وهمية وإنزال تعليقات مضادة وحينما يتم شطب تعليقه (بعد دقيقتين) وطرده من المجوعة يدخل باسم وهمي آخر. وقدّر خالد سليم الذي يدير موقع المؤتمر الوطني بولاية الخرطوم بأن لديهم آلاف من الأنصار ضمن الـ17000 الذين تتباهى شرارة بعضويتهم، وقالوا إن لديهم عشرات الآلاف من المناصرين في الفيس بوك. وهنالك خطة أمنية أدخلت الإعلام الإلكتروني في بحوث وملفات الإعلام الأمني الذي يعني فيما يعني للنظام اختراق خطط المعارضة الإعلامية وتشويش الرسالة الإعلامية المعارضة.
إن استخدام تكنلوجيا الإنترنت لا زال كرتا بيد النظام أكثر منه بيد المعارضة بالداخل، ولذلك لو بحثت حول شعبية المواقع الإنترنتية السودانية بين رواد الداخل لوجدت أن الغلبة في أكثر مائة موقع هي لمواقع صديقة للنظام (باستثناء الراكوبة وسودانيز أون لاين وحريات). وبالرغم من ذلك فإن الإنترنت سوف تلعب دورا كبيرا في حشد المناصرة والدعم من السودانيين بالمهجر وفي ربطهم بالداخل لتنسيق أية أعمال تدعم الثورة ومن ضمنها الإذاعات أو الفضائيات التي يمكن أن تنشأ لدعم خط الثورة، فقد بدأ مع شهر إبريل الماضي البث من إذاعة منبر الشباب السوداني في أيام السبت والثلاثاء والخميس مساء لفترة محدودة (على الموجة القصيرة 1554 ك هرتز)، وهي تبث من الخارج، وينتظر أن تتطور هذه الإذاعة وأن تنشأ منابر أخرى في ذات الاتجاه.
أما من ناحية الإحداثيات الجغرافية فنحن نعلم أن هناك جهات فاقت الحالة فيها الثورة المدنية إذ حملت السلاح تعبيرا عن الغبن. كان منها الجنوب الذي صوت بما يشبه الإجماع على الانفصال غضبا من نظام "الإنقاذ" وسياساته المذلة، ومنها دارفور التي حملت نخبها الشبابية السلاح ودخل الإقليم في فوضى الحرب وانتهاكاتها الفظيعة التي جعلت الإقليم سبب تكاثر قرارات مجلس الأمن الدولي ضد السودان تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، أي باعتبار السودان مهددا للأمن والسلم الدوليين، بلغت قرارات مجلس الأمن ضد السودان 29 قرارا مقارنة بلا شيء ما قبل 1989م!! وهناك جهات حملت السلاح مع الحركة الشعبية وتلوح بالحرب بل إن الحشود العسكرية في بعضها قد ولغت في قتال وإن لم يصل حد إعلان الحرب الشاملة (المناطق الثلاث: أبيي وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق) فإذا استثنينا هذه المناطق أو الولايات الخمسة التي اتخذت أو سوف تتخذ الثورة فيها شكلا عسكريا (شمال وجنوب وغرب دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق) تتبقى أمامنا عشر ولايات لنبحث إمكانية تفجر الثورة الناعمة فيها، مستعينين بدراسة أشرنا لها من قبل أجراها باحث متخصص حول الغضب التراكمي في السودان.
تقول الدراسة إن الغضب التراكمي يدل على مقدار عدم الرضى الشعبي من الحكومة وهو يستطلع آراء الشباب في الفئة العمرية 18-32 بين غير المسيسين منهم. معطيات الشباب المستطلع غير المسيس كانت كالتالي: 30% شباب متعطل عن العمل جامعيين وحملة دبلومات، 25% شباب خريجي أساس وثانوي وجامعي يعملون بمهن هامشية، و40% يعملون بدخل غير كاف، و5% عينات أخرى. مع ملاحظة أن درجة الغضب وسط المسيسين المعارضين تزيد عن نسبة الغضب المرصودة بـ9%. تقول الدراسة أيضا إن الشارع ينفجر إذا بلغت درجة الغضب 90%. وحسب نتائج الدراسة التي أجريت على الولايات العشر المعنية (الخرطوم، الجزيرة، النيل الأبيض، سنار، شمال كردفان، القضارف، كسلا، البحر الأحمر، نهر النيل، والشمالية) فإن كل الولايات العشر فيها غضب تراكمي ومؤشره لأعلى أي متزايد ماعدا في ولايتي النيل الأبيض وشمال كردفان حيث المؤشر متأرجح. أعلى الولايات في نسبة الغضب هي كسلا بنسبة 88% تليها ولايتي الجزيرة والبحر الأحمر بنسبة 85%، ثم الخرطوم وسنار بنسبة 81%، ثم القضارف بنسبة 80%، ثم الشمالية بنسبة 75%، ثم شمال كردفان بنسبة 71%، ثم نهر النيل بنسبة 65% وأخيرا ولاية النيل الأبيض بنسبة 55%. ونشير فقط لقولنا إن مؤشر الغضب المتدني ليس معناه أنه لم توجد أسباب التذمر ولكن معناه أن رسالة التشويش الإعلامية الرسمية تضافرت مع التعتيم المقتدر لتعمية الشعب عن حقيقة التردي. نكرر أن النظام يركز على الإعلام الأمني مثلما الأمن العسكري تماما!!
ونحن ندرك أن ولاية كسلا الأقرب للاشتعال لا زالت تسود مدنها حالة الطوارئ، فحينما أُعلن عن رفع حالة الطوارئ في 2005 استثنيت ولايات دارفور والشرق خاصة مدينتي كسلا وبورتسودان من ذلك الرفع باعتبارها أقاليم تخوض حروبا، ولنلاحظ لسخرية القدر أن هذه (الطوارئ) موجهة ضد الشعب وليس العدو الخارجي ففي ظلها تكررت الغارات على بورتسودان! الخرطوم هامة جدا من ناحية الدعم الإعلامي وإمكانية التعبئة فيها أكبر ولكنها معرضة للقمع والكتائب الإستراتيجية الجديدة والقوة المعدة القديمة بشكل أكبر، وربما تكون الجزيرة هي الأقرب لأن تكون منصة الانطلاق. لا نستطيع الرجم بالغيب فكل شيء وارد في عالم الشعوب وقد يحدث حادث يرفع الغضب في أي من الولايات لدرجة الغليان كما حدث في إقليم سيدي بو زيد التونسي مع حادثة حرق بوعزيزي.. لكننا يمكن أن نحاول الحديث حول إحداثيات الثورة السودانية بالتالي:
- سوف تعتمد الثورة على التكنلوجيا الحديثة بشكل مغاير لما جرى في مصر وتونس. ومثلما في ليبيا لن يكون لصفحات الفيس بوك والتويتر نفس الدور في التخطيط والدعوة للثورة. صحيح سوف تلعب الإنترنت أدوارا هي:
o كسر حاجز التعتيم وخلق كوات للحقيقة تصل لكافة أصقاع السودان.
o ربط المهجر بالداخل وأخباره ويلعب المهجر دوره الإعلامي والمناصر عبر مردود يستخدم وسائل تصل للناس في كل مكان مثل الإذاعات والفضائيات.
o الربط بين الداخل والخارج للتنسيق حول دعم المهجر للداخل ماديا عبر قنوات سوف تستحدثها الثورة وربما لعبت فيها الكيانات السياسية المنظمة وعلى رأسها الأحزاب دورا ما، وذلك بتطوير ونقل تكنلوجيا التوثيق من كاميرات فيديو وكاميرات تصوير فوتغرافي تصور من على البعد، وهذا النوع من التوثيق ضروري لأية حملة مناصرة مرجوة للثورة في المستقبل. كل القنوات عدا الإنترنت في السودان مخترقة، وبعض الإنترنت مخترق ولكن فيه قنوات ما زالت آمنة وعصية على الاختراق خاصة لو صحبها وعي بثغرات الاختراق.
- من التكنلوجيا الحديثة التي ينتظر أن تلعب دورا كبيرا في التحرك الثوري الموبايلات وهذه بالطبع يمكن أن يقوم النظام بضربها وتعطيلها في وقت ضيقه، ولكن ينتظر أن تلعب دورا في الحشد في الأيام الأولى للثورة.
- سيكون هناك دورا أكبر للإذاعات في الوصول للريف وكافة الولايات إذ لا زالت الإذاعة المصدر الرئيسي للخبر في الريف. وهذه مسألة لا بد من تطويرها وقد بدأت كما قلنا بإذاعة منبر الشباب السوداني المحدودة حتى الآن.
- ربما كان دور قناة الجزيرة أقل، وقد لعبت دورا مساندا للنظام وأكاذيبه في انتخابات 2010م. غالط الأستاذ مجاهد عبد الله في منتدى الأمة المقام في 5 أبريل حول هذه الحقيقة وقال: لتقم الثورة وسوف تغطيها الجزيرة! تحليلنا حول دور الجزيرة يستند على روابط خضراء (إسلاموية) تجمع بينها وبين النظام، ولكنا لا ننكر أنها تمد أياد كذلك لجهات أخرى معارضة فهي ما تفتأ تستضيف السيد الصادق المهدي، والدكتور حسن الترابي الذي أوضح في لقائه بصحيفة (حريات) الإلكترونية مؤخرا مدى عمق العلاقة التي يبدو أن مجاهدا إنما يستند عليها، السؤال هو: لماذا نسيت الجزيرة ذلك إبان انتخابات أبريل 2010م، وما الذي يضمن لنا أنها سوف تتذكر علائقها الإسلامية بالمعارضة وتتذكر إضافة إليها شعارها أنها للرأي والرأي الآخر حينما تقوم الثورة؟
- ومثلما حدث في تونس وفي ليبيا فإن الثورة ربما لن تبدأ من الخرطوم بل من الولايات حيث في الخرطوم التركيز الأمني الكبير. كنا نظن كذلك أن الولاية هي الأكثر تعرضا لرسائل التشويش الإعلامي ولكن الدراسة المذكورة آنفا تثبت أنه على العكس تأتي الخرطوم بين الولايات الأكثر غضبا. ولكن كبداية فإن ولايات كالجزيرة تفوقها تعبئة وحرية ربما كانت الأولى ببدء الشرارة الحقيقية للثورة السودانية، فسابقة البدء بالأقاليم موجودة في التجارب العربية الحالية وموجودة في التاريخ السوداني في الثورة المهدية حيث كانت التحصينات المكثفة في الخرطوم، وبدأ التحرير بالأطراف ثم ترنح غردون في الخرطوم في النهاية. هذا السيناريو أقرب لأن يتكرر الآن.
- سوف يكون هناك دور للشباب ونظن بالله رعاية طليعة شبابية تستطيع التحرك بعيدا عن الاختراق الأمني الذي أثبت فعاليته وسط المجموعات الشبابية حتى الآن. وسوف يكون هناك دور لطلائع شبابية وسط المجموعات المهمشة وبعضها مرتبط بالقوى حاملة السلاح. بالطبع هنالك تكوينات خارجية كثيرة ربما أهمها الجبهة الوطنية العريضة ما تفتأ تنادي بالخروج ولكن نداءاتها حتى الآن لم تدل على أن لها وزن يذكر وربما تنمو مع الأيام أجسامها ويقوى ساعدها ولكنا حتى إشعار آخر لا نعول عليها في مجريات الثورة وإن كانت تلعب دورا في تعبئة الخارج، وهنالك مناشدات ومحاولات السيد عبد الواحد محمد نور الذي نادى بالتوحد كما أثمرت نداءاته بالتظاهر تحركات في سبع مدن سودانية في الآونة الأخيرة. إننا لا زلنا نظن أنه سوف يكون للأحزاب السودانية دور ربما أكبر من رصيفاتها في الدول العربية، فقد أثبتت التركيبة الحزبية في السودان صمودا بوجه النظام وتغلغلا أكبر خاصة الأمة والاتحادي في كل الحضر والريف، والشيوعي والشعبي في المدن بكل الولايات. كيف ستنفجر الثورة مسألة لا يمكن توقعها ولكننا يمكن أن نتوقع التنسيق الأوركسترائي بين كل هذه الشرائح حالما تبدأ عملية المخاض.
هذه محاولة لتحديد إحداثيات الثورة التي لا يعلم أحد بعد كيف ومتى ومن سيفجرها، ولا أقول إنها حتمية فقد تكون مناورات النظام ومحاولاته غمل أية شرارة أنجع من تحرك الشعب السوداني، والتحدي أمام القوى الحية في الشعب السوداني هو كيف تقيم هبتها وتنجحها ليس فقط للحاق بركب التاريخ الذي شمل الإقليم، ولكن لأن الفشل في إشعال الثورة وإنجاحها معناه أن تقع البلاد في جب الفوضى، فالحال لن يكون كما كان مع الإنقاذ طيلة السنين العجاف الماضية، ومع المتغيرات المتوقعة والتي أشرنا لها في مقالنا (هل ستقوم الثورة السودانية وهل نحتاجها؟)، فإن الإنقاذ ما لم تتغير استباقيا، أو يقتلعها الشعب السوداني اقتلاعا، سوف تقذفنا إلى هاوية بدأنا بالفعل الوقوع فيها وستوصلنا لمهوى سحيق.
بعض الناس يركزون على مخاوف من التحول غير المحسوب عبر ثورة مع وجود عشرات الحركات المسلحة ومع وجود قوات أجنبية وغبائن وخلافه وهي مخاوف مفهومة ومشروعة بيد أن الخوف الأكبر برأينا هو إذا لم يتحول النظام طوعيا وهو ما لا نعول عليه كثيرا، ولم تقم الثورة المقتدرة، فالمجهول القادم في الأيام القادمة رهيب.
الخيار ليس بين جن تعرفه وآخر لا تعرفه كما يقول المثل، بل بين جنين لا تعرف كليهما أحدهما يسيره رحمان (الثورة) وأهدافه النبيلة والآخر يسيره شيطان فرفرات (الإنقاذ) الذبيحة بيد عوامل التآكل وقنابل المواجهات الرهيبة التي نصّبت ساعتها وتدق تصاعديا، عكس ساعة جوبا الكبيرة التي كانت تحسب تنازليا الدقائق والثواني حتى يوم الاستفتاء. ساعة جوبا كانت تستعد لاحتفالية وساعة الخرطوم تتحسب لبدء التشظي. إذا لم ننقذ البلاد في الوقت المناسب ربما لن يكون لما تبقى منها بقية. اللهم احفظ ما تبقى من بلادنا يا رب العالمين، آمين.
نواصل بإذن الله.
وليبق ما بيننا.