إذاً، أتت هذه القسوَةُ مِن مُلكٍ عضوض ساد بالأمس

 


 

 

لم يكن هنالك من ينبس ببنت شفه ايام حكم الإنقاذ. كان الكل يمضي الى حال سبيله بتجَنُّبٍ جاد لكل ما يمكن ان يتسبب لهم في اي مشاكل او تعقيدات كان الجميع في غنىً عنها وما يُصاحِبُها من ضياعٍ للوقت. صارت حتى المشاكل بين الناس تُحَلُّ بعيدًا عن القنوات الرسمية ما امكن.
هذا الاتّجاه السلوكي المسالم ظلّ ماكثاً لثلاثين عاماً كان البطش خلالها يزيدُ لحظيّاً في مقابل المزيد من التنازلات لكلّ مَن يجد نفسَهُ في مواجهة مشكلة من أيّ نوع تجنُّباً للاحتكاك مع السلطه وبالتالي ترجيح كفّة المعاناه. لم تكن هنالك مظاهرات واحتجاجات في غالب فترة الإنقاذ وكانت الأصوات التي ترتفعُ هنا وهُناك تُخمدُ بالسرعة المطلوبه بواسطة جهاز الامن.
ترَبّت الشرطه في هذا الجو المسيطِر الذي يُدينُ فيه الشارع بكاملِ الولاء والإنقياد المفروضَين لسلطة الكاكي الذي تحرُسُهُ أيضاً سلطة القمع الأعلا وكانت القيادات في قصورها العاجيه تهتم لامور نفْسِها فقط ولا تُلقي بالاً لما يحدُثُ إلى الاسفلِ منها الى حين بلوغ المُبتغى بالتقاعد المريح في الرتبه والمُخصصات. حُوِّرَت المناهج في الكُلّيات الشرطيه لتتواءم مع متطلبات المرحله فصارَ التمكين للفكر المُتطرّف وأُهملت جوانب الحقوق والقانون وأخلاقيات الشرطه police ethics وأدَب التعامل مع المواطن والحقوق.
إذاً هذه القسوه التي نراها اليوم نابعه من مُلكٍ عضوض سادَ بالأمس فهذا العالم الدخيل من تظاهرات ومواكب ورفع الصوت في حضرة الكاكي بسطوته وعين السلطة الحمراء التي تحرُسُهُ يشكّلُ أمراً غير مستساغ لهذه القوات وقياداتِها صاحبة اليد الطولى بحكم انتمائها للحزب الحاكم غضّ النظر عن التراتبية العسكريه مما أدى قطعاً لضياع الضبط والربط وبالتالي هيبة الأداء داخلها.
لم تتبين هذه القوات الطريق الجديد الذي نقل الثوار إليهِ السودان الجديد ولم تنظر إليه إلّا من منظار ضياع هيبتهم وتمكُّنِهِم الكاذب الذي يتباكون عليه. هنا يثورُ التساؤل عمّن في إمكانه تغيير ما وقر في النفوس من شعورٍ كاذب وأنّ ما صارَ أليهِ الحال هو أفضل شيئٍ يمكن ان يحدث لهذه القوه ومنسوبيها. في اليد الأخرى ليس هنالك من سينتشل الشرطه من المستنقع خلاف ضباط الشرطه الَذين هم خارج الخدمه وهذا ما وقف في طريقهِ بِهِمَّةٍ عاليه السيد رئيس الوزراء بدعمٍ من عسكر السيادي ، أو رُبّما العكس ، لعامينِ ونَيف ومستشاروهُ الذين ما قصّرنا في الحديث اليهم ونقل وُجهةِ نظرِنا ورؤساءِ احزابه الذين عملوا معهُ. أحدُ رؤساءِ الأحزاب بعد ان تحدّثنا عن خطورة الأمر وأسهبنا
وطلبنا الاجتماع بالمجلس القيادي للحريه والتغيير قال لنا انّهُ سوف يُدرِج إسمنا ولكن لن يضمن لنا أمكانيّة ان يتم الاجتماع لأن المجلس المركزي ( ما فاضي ) ولديه من المهام الكثير و( الاهم )فشكرناهُ وطلبنا منهُ الّلا يدرج اسمنا حفاظاً على ( مشغولياتِهِم ) ووقتهم وانصرفنا !
في سبتمبر 2021/8 قدّمنا رؤيتنا لرئيس الوزراء وحدثناه عن الأمن ووعد بالرد وظللنا نتردد على مكاتبهم يومياً ولم يعبأ بنا احد من وزرائه حتى قيام كارثة الخامس والعشرين من اكتوبر.
يقيني أن فترة ما بعد الإنقلاب شكّلَت ( سَنْدَه ) إنفَرجَت لها أسارير الكثيرين في قُوّة الشرطه. كيف لا وقد ( أدّبَت ) الاجهزةُ الأمنيه هذا الشعب المارِق كثير الشكوى وعادت للزج بأفرادِهِ في السجون وأطلقت السلطه ايديهِم في الركل والضرب والإستباحه والتشويه والقتل. لم تعُد للمشافي حُرمَه ولا للمرضى والمُصابين ولم يعُد هنالك حديثٌ عن قانون وشكاوي ووكلاء نيابه يستصحبون القوات فصار الشعب يستر شهداءهُ ويسعى في طلب المزيد حتى تحين ساعةَ الحساب الأكبر.
هذه هي الشرطه وربما لا تكون المسؤولية مسؤوليتهم بحكم ثلاثين عاما قضوها في حضن الانقاذ فكانت ولادتهم ونشأتهم فيها ويحتاج كل ذلك الى تغييرٍ شامل وعاجل في تكوينها بإجراءِ الغربله اللازمه ثم اعادة البناء rehabilitation وتغيير العقيده ولن يتم ذلك إلّا بقيادات مؤمنه بهذه الثورةِ العظيمه. يجب أن نضع في اعتبارنا أننا امام ( نفس )شرطة الإنقاذ ونحنُ على بعد عامين من سقوطها او كما تراءى لنا.
كُنّا قد كتبنا ولم يُصَدّقُنا أحد. قوّة الشرطه التي هي في أيدي ابنائها الذين يؤمنون بالثوره ذلك هو صمّام الأمان لهذا الوطن النازف. الآن من هو المسؤول؟ أهوَ رئيس الوزراء ، مستشاروه ، وزراؤه ، حاضنته أم كلّ هؤلاء؟ بِرَبّكُم جميعاً هل طرحنا لهذه الحلول بعاليه يُشكّل أي صعوبه في إتّخاذ القرار الصائب لأيّ مسؤول بيدِه القلم بعد هذه الثوره العظيمه التي أعقبت ثلاثين عاماً من القهر؟ هل هنالك ما هو أهم من الأمن والشرطه والأمن الداخلي ليُترك امرَها جميعاً وينشغل القوم عنها بخصوصياتُهِم ويبدؤون ماراثوناً جديدًا الآن خلفَ السُلطه؟ ليس لهم إلّا الاستنجاد بهذا الشعب فيموتُ أبناؤهُ فيعودوا إلى السلطه لتبدأ ( العُواسه ) من جديد. تحدّثنا وكتبنا وقدمنا من التقارير والبرامج عن الشرطه والامن الداخلي والحركات وجيوشها وقوات حميدتي ومَنْ مَكّنوا لكلّ ذلك وعن أمن العاصمه والمُدُن. من الذي أضاع الوطن وأضاع مجهود شعبِهِ؟ لك اللهُ يا وطن.

melsayigh@gmail.com

 

آراء