إذا خرق وزير المالية القانون وفى بعهده!

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم


كتبنا في المقال الماضي بعنوان (عفوا ولكن القانون مع وزير المالية)، ثم اطلعنا على مقال هام تطرق لحادثة وزير المالية مع الصحفي الأستاذ أبو القاسم إبراهيم من قبل قانوني ضليع هو الأستاذ نبيل أديب، نشره في صحيفة التيار بالاثنين 23 مايو بعنوان "دهشة الصفي وغضبة الوزير". تطرق الأستاذ باقتداره المعهود للحادثة ليثبت بالرجوع للنصوص القانونية السودانية وللعرف العالمي أن الوزير خرق القانون.. فهذه كما يقول الخواجات "إعادة زيارة" للموضوع بعد الاطلاع على نظرات الأستاذ نبيل الثاقبة.
انطلق الأستاذ أديب من تقرير عدد من الحقائق كأهمية الشفافية السلاح الأول لمحاربة الفساد، ورد على كلام السيد وزير المالية علي محمود (والذي قال إن محتوى الوثيقة ليس مهما بل المهم أنه مستند دولة تحصل عليه الصحفي من مكتبه بطريق غير مشروع) ذاكرا تجربة مماثلة في أمريكا إبان حرب فييتنام حول نشر وثائق خاصة بالبنتاجون، الحكومة حاولت وقف النشر عن طريق المحكمة ولكن المحكمة العليا حينما وصل لها الأمر لم تلق بالا لكيفية حصول الناشر (إلسبرج) على الوثائق بل محتواها، مؤكدا أن ما يثار حول مضمون الوثيقة ليس مسألة انصرافية.  ثم ناقش نبيل أطروحتنا من أن القانون في صف الوزير داحضا لها وقال: صحيح إن المادة 55 من القانون الجنائي يجوز القبض فيها بدون أمر قبض ولكنها غير صحيحة في حالة الصحفي لأن (المستند موضوع القبض لا يتصل بشئون الدولة السرية، وحتى لو كان ذلك فإن القبض لا يتم بناء على أمر الوزير) مؤكدا أن الشرطة هي الجهة التي تقبض، وعدم مشروعية إجراءات الاحتجاز. وعدم مشروعية الغرض من الاحتجاز لأن حماية المصدر من حقوق بل واجبات الصحفي وأن المادة 25(ب) من قانون الصحافة والمطبوعات لسنة 2009 أعطت الصحفي ذلك الحق واحتجازه لإرغامه على كشف مصدره يخالف القانون والدستور. وأكد أن حماية المصادر الصحفية أساسية لحرية الصحافة وتطرق لتجارب عالمية تثبت هذا المعنى. وقال إن ما قام به الوزير من حجز للصحفي يوقعه تحت طائلة المادة 115 من القانون الجنائي التي تعاقب على التأثير على العدالة.
مرافعة الأستاذ نبيل من ضلعين: الأول هي أن ما قام به وزير المالية السوداني فيه خرق قراح للقوانين السودانية، والثاني هي أنه يخرق الأعراف والقوانين الدولية السارية فيما يتعلق بحرية الصحافة. وسوف نتطرق لمقالة الأستاذ نبيل باستراتيجية مزدوجة تحاول كسر الضلع الأول لنثبت أن ما قام به هو عين الساري في البلاد أو عرفها المثبوت حتى ولو كان ناقض بعض النصوص القانونية. ونقوي ضلعه الثاني لنؤكد فداحة الانتهاك للعدالة والأعراف والمواثيق الدولية والإقليمية فيما قام به وزير المالية!
إن إدانة وزير المالية في القوانين السودانية هي نصف المشهد فقط ونصفه الآخر يؤكد أنه وغيره من المسئولين يمكنهم أن يفعلوا ذلك كل مرة أرادوا، وبرأينا أن الأهم هو إثبات قصور هذه القوانين البالغ لدى مقايستها أمام معايير حقوق الإنسان العالمية والإقليمية، وهي مهمة أكثر إلحاحا من المهمة الأولى (أي إدانة وزير المالية) لأنه طالما وجدت هذه القوانين المعيبة برأسنا فسوف نسمع كل يوم بوزير أو مسئول يستغل حصانته وسلطاته التقديرية ليخرق العدالة والقانون ذاته. هنالك مثلا مشروع إصلاح القوانين الجنائية الذي تقيمه منظمة ريدريس في السودان، وهنالك آخرون يقومون بمجهودات مماثلة، وكلهم عينهم على مساوئ القوانين السودانية التي تهد العدالة وتنتهك حقوق الإنسان، والأستاذ نبيل أديب من أهم المراجع القانونية في تلك المجهودات وأكثرها حماسا، ونريده مثلما حدثنا عن انتهاك الوزير للقانون، أن يحدثنا أكثر عن نقص القانون نفسه.
الواقعة في ضوء المبادئ العالمية
لنبدأ بتعضيد الفكرة الثانية أن ما قام به وزير المالية يناقض الأعراف والمواثيق الدولية والسوابق القضائية العالمية وحرية الصحافة. فقبل صك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة في جلستها الأولى سنة 1946م القرار رقم (1)59 الذي ينص على أن "حرية تداول المعلومات حق من حقوق الإنسان الأساسية وهي المعيار الذي تقاس به جميع الحريات التي تكرس الأمم المتحدة جهودها لها" ثم جاء الإعلان العالمي سنة 1948م وصار عرفا دوليا يحكم الجميع ومادته رقم (19) تنص على حرية التعبير وحرية الوصول للمعلومات. وفي العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (والسودان طرف فيه) كذلك نصت المادة (19) على حرية التعبير والوصول للمعلومات، وهذا العهد يعتبر جزء من دستور السودان بحسب وثيقة الحقوق فيه. والميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب (1981م) (والسودان مصادق عليه) نص على حرية الوصول للمعلومات.
عالميا، استمرت الحكومات تنص على السرية في محلها وفي غير محلها، وفي خمسينيات القرن العشرين وحيث تنامى الامتعاض من الحكومات السرية تم الضغط على الصحافة في بعض مستعمرات الكومونولث السابقة للمطالبة بحكومة مفتوحة تحت شعار "إن الشأن العام هو شأن العامة". انطلقت موجة التقنين لحرية الوصول إلى المعلومات من النماذج الاسكندنافية إلى استراليا وكندا ونيوزيلندة في الثمانينات من القرن المنصرم.  وفي 2003م تخطى عدد الحكومات التي لديها تشريعات دقيقة لتسهيل الوصول إلى سجلات الحكومة 50 حكومة.
وقد ذهب العرف الدولي والتجارب الدولية خطوات بعيدة في تأكيد ضرورة ومحورية حق الوصول للمعلومات وحرية الإعلام الاستقصائي في الوصول للوثائق الرسمية، فالإعلام بالتعريف العالمي صار (كلب حراسة) مهمته كشف ونقد أداء الحكومات والمؤسسات العامة وهذا هو دوره الأساسي، وبالتالي يفقد دوره لو حرم من حرية الوصول للوثائق والمعلومات. وصار هناك اتفاق بضرورة (كشف المستور) وراء ادعاءات الحفاظ على الأمن القومي إذا لم يكن الضرر بالهدف المذكور (الأمن القومي) أكبر من المصلحة  العامة في الحصول على المعلومات. وهذا يذكر بحادثة وثائق البنتاجون التي استشهد بها الأستاذ نبيل أديب. فحينما اطلعت المحكمة العليا على الوثائق لم يعد يهمها مصدرها ولا خرق السرية بقدر ما يهمها محتواها الذي يمس بالمصلحة العامة.
نفس الشيء يقابله العالم الآن أمام سابقة (الويكيليكس) كموقع تخصص في نشر الوثائق السرية للدول. وصار جوليان اسانج مؤسسها مساءلا أمام المحاكم الأوربية بتهم قال إنها ملفقة وصار شيطانا ملعونا في أمريكا، بينما ها هي مؤسسة نوبل تضع الويكليكس بين المؤسسات المرشحة لنيل جائزتها للسلام لهذا العام، باعتبار أن ما قاموا به كان رائدا في إيصال الحقيقية للناس وفضح الأكاذيب والجرائم العالمية. صار العالم يحترم أكثر فأكثر حق الناس في الحصول على المعلومات باعتبار ذلك يحقق مصالحهم الحقيقية، ولو كان على حساب الحكومات.
ومن الأعراف العالمية في محاربة الفساد ما طورته منظمة الشفافية العالمية من أساليب مشجعة على كشف الفساد، متيحة للوصول للمعلومات عن التجاوزات في المؤسسات المختلفة. ومن أهم استراتيجياتها المسماة بـ "بناء جزر النزاهة": عقد المنتديات العامة والنشر الصحفي، وهذا يتطلب إحاطة الصحافة بكل التفاصيل حول المؤسسات العامة. وهناك أيضا "إطلاق صافرة الإنذار"، حيث يتاح للموظفين داخل المؤسسات الإبلاغ عن المعلومات حول التجاوزات بدون كشف هويتهم خوفا من بطش المسئولين. فإذا كان راتب مدير الأسواق المالية ومخصصاته أو غيره من المسئولين يقع في دائرة سوء التصرف في المال العام أو إهداره أو غيره من أشكال التجاوزات إذن بحسب إستراتيجيات النزاهة يجب أن يسمح للموظف الذي يطلع على هذه المعلومة أن يكشف ويبلغ عنها (يطلق الصافرة) بدون كشف هويته، وتكون تساؤلات وزير المالية حول كيف تحصلت على الوثيقة خاطئة بحد ذاتها وذاهبة لستر التجاوز ليس إلا.
استنادا على هذه الحقائق فإن ما قام به وزير المالية خاطئ ومنتهك لحق الشعب السوداني في المعرفة، وهو بربرية بتعبير الأستاذ ضياء الدين بلال إذا قسناه بمعايير سيادة القانون وإجراءاته الشرطية والقضائية المعروفة.
ولكن.. لنعاين صورة أخرى
بالرغم من المنظر العالمي أعلاه ظلت البلدان العربية في الغالب بعيدة عن نفحات الوصول للمعلومات أم الحقوق الأخرى ومربط فرسها. وفي الدليل التدريبي الذي أعده الأستاذ عبد الله خليل المحامي حول الحماية القانونية للصحافيين واخلاقيات العمل الصحفي أكد أن هذه الدول تكاد تجتمع (بما فيها لبنان الديمقراطي) على النص على سرية المعلومات والوثائق حيث تغالي هذه الدول –والدول النامية عموما- في النص على سرية الوثائق القومية. وبالتالي فإن مجرد كون الوثيقة رسمية يعني أنها سرية وهذه الحقيقة ظاهرة في القانون الجنائي الذي عنوان مادته (55) هي (افشاء واستلام المعلومات والمستندات الرسمية) كما لو كانت كلها سرية! وكما قلنا سابقا فحتى تجربة سن قانون للتصنيف والوصول للمعلومات في السودان كان تجربة في وضع القيود ومسودته ذاتها صارت وثيقة سرية!
صحيح إن دستورنا ينص في المادة (39) على حرية التعبير وتلقي المعلومات، ولكن النص الدستوري يعطي الحق "وفقا لما يحدده القانون" وهي صيغة تبني الحق بالرمال وتعطي رياح القانون حق الهدم! وقد تعرض لها القانونيون منتقدين وقالوا إنها تعطي الحق باليمين وتسلبه بالشمال!
أما التجارب العملية في السودان فتؤكد أنه  حينما يذهب الناس للمحكمة الدستورية شاكين تعارض القانون مع الدستور، يقف القضاء الدستوري بجانب القانون وليس الدستور. فالقضاء العادي والدستوري كله يسير خلف هداية (المشروع الحضاري) وهو مشروع عدله يقسم الناس إلى فسطاطين: حاكمون لا يطالهم العيب، ومحكومون مظنون فيهم الريب!
القانون الذي يفصّل الدستور هو قانون الصحافة والمطبوعات لسنة 2009م وقد قلنا إنه يعطي أي موظف حق القرار في حجب المعلومة، والقانون الآخر هو الجنائي الذي كأنما يعتبر كل الوثائق سرية.  وبهذه النصوص التي يأكل بعضها بعضا يكون الموقف القانوني منحازا لتجريم تسريب الوثيقة من مكتب الوزير. وكان يمكن للوزير لو (لم يغضب) أن يأمر بدم بارد الجهات القانونية بوزارته بفتح بلاغ على صحيفة (السوداني) ويجرجرها في المحاكم (الصديقة)، فحماية المصدر شيء، والتستر على (مجرم وفق القانون الجنائي) سرب وثيقة سرية شيء آخر. ولكن الوزير فضّل أن يأخذ القانون بيده، فأمر بالاحتجاز وكان ما كان.
وهنا، من جديد، نؤكد أن الوزير سوف يمر خالي الوفاض من أي تساؤل حتى لو عن للصحفي أبو القاسم أن يقاضيه. فقد استحدث نظام الإنقاذ (قانون مخصصات شاغلي المناصب الدستورية
التنفيذية والتشريعية وإمتيازاتهم وحصاناتهم لسنة 2001) هذا القانون يسحب الحصانات التي كانت تعطى للبعثات الدبلوماسية (بحسب قانون الحصانة لسنة 1956م)، والذي لم يكن يسر على أي سوداني مهما كان منصبه، على الدستوريين بمن فيهم الوزراء. ومن تلك الحصانات: عدم الخضوع للقضاء المدني والجنائي. فكيف بالله والوزير محصن يقع تحت طائلة المادة 115؟ إن الدستوريين صاروا نعامة مك، ما من أحد يقول لهم تك!
طالب كاتب سايبري ببحث مسألة الحصانات والامتيازات بتمحص المراجع لنرى كيف تتطور القوانين (حتي نتأكد من أين تأتي المصائب وكيف ولماذا لا يتساوي كل الناس الآن أمام القانون، ولماذا اختفت الفرص المتكافئة، ولماذا هناك استثناءات ولمن تمنح؟)
فنحن حينما نقول إن القانون مع وزير المالية لا ننكر خرقه للاجراءات الجنائية ولا سعيه لأخذ القانون بيده، ولكننا نعرف أننا في بلاد تضافرت فيها القوانين المقيدة، مع الحصانات غير المحدودة، ومع الطابع القراقوشي للحكم لتجعل أس الحق والحقيقة ليس نقد المسئول الذي يتصرف وفق عرف بلاده المعروف، بل نقد هذا النظام العدلي الظالم بنصوصه القانونية ونظامه القضائي والنيابي وبأعرافه وبثقافته أو لا ثقافته السائدة. والذي يكون خرق وزير المالية فيه أو غيره من المسئولين للعدل هو مجرد إيفاء بالعهد! وذلك بحسب فكرة المتنبي، وهو على إجادته وروعة سبكه ذكوري حتى النخاع، قال:
إذا غدرت حسناء وفت بعهدها  فمن عهدها ألا يدوم لها عهد!
إذن، حينما يخرق وزير المالية القانون أو حينما يأخذ مسئولا كبيرا راتبا ومخصصات فوق المعقول فهم إنما يوفون بعهودهم للشعب السوداني المسكين، وهل غادر (المسئولون والوزراء) قبلهم من متردم؟ قال لي أحد المعلقين: كلهم سواء، فلماذا يشيع ما شاع حول (عثمان حمد) هل هو ضرب تحت الحزام بسبب خلافات بينية؟ وأقول: لا ندري السبب، ولكننا ندري أن حالة السيد عثمان حمد ليست (متنحية) بلغة علم الأحياء، بل هي حالة (سائدة)، وسائدة جدا.

وليبق ما بيننا
Rabah Al Sadig [ralsadig@hotmail.com]

 

آراء