إشكاليات مبادرات الترويج لرأسمالية تقدمية وإصلاح حمضها النووي .. مقاربة أطروحتيْ محمد يونس وجوزيف استغلتز

 


 

 

١٧ يناير ٢٠٢٢
أولاً:
محمد يونس حامل جائزة نوبل للسلام بين سلام الفقراء الاجتماعي الاقتصادي وبين يوتوبيا اللبرالية الجديدة
يتناول مقالي هنا ورطة جدل المفكر والقائد المستنير مع الواقع الراسمالي المعاصر اللئيم ، حين يحاول المفكر/ الناشط إعادة صياغة وتصميم الرأسمالية المعاصرة وأنسنتها، رغماً عن سعتها وطاقتها المادية والرمزية المحدودة برؤية الربحية والسلطة والإمتياز، منذ أن فقدت فعاليتها ووسامتها التنافسية الآدم سميثية ، عبر مبدأ مغادرة الأسواق حين الفشل والقصور وعدم الكفاءة، ذلك كون الإحتكار أودى بشباب وخيلاء الرأسمالية التنافسية الصاعدة. بعبارة أخرى أود القول أن محاولة إعادة تدوير وترويج وأنسنة الراسمالية الإحتكارية المعاصرة لا يعدو أن يكون سوى ضرباً للرمل. لقد كاد جوزيف ستغليتز أن يقول ذلك كما سنرى فى هذا المقال.
كان هدف محمد يونس البنغلاديشي النبيل كمفكر وناشط إجتماعي مستنير وإقتصادي ومصرفي ، تكوين منشأة تجارية تتصدي لتغيير الواقع الاقتصادي الاجتماعي المادي للفقراء ، وإحداث تغيير إجتماعي فى بنغلاديش. تنطوي رؤية محمد يونس الأساسية، كما أزعم ، على إستحالة ترسيخ مفهوم "السلام" خارج إنعتاق البشرية من الفقر. قصدي من قوسيْ السلام هو أنه أعمق من مفاهيم واتفاقيات السلام العابرة حول النزاعات والحروب التي مصدرها الفقر والظلم المُختَرع والمصنوع على كلِّ حال. إذن لا غبار -على المستوي الفكري والأخلاقي - على مسعى محمد يونس نحو خلق رأسمالية مؤنسنة ورحيمة عبر تطبيق مفهوم التمويل الأصغر و/أو الإئتمان الصغير؛ وهو تسليف أموال قليلة للمنتج الصغير بأسعار فائدة منخفضة وبدون ضمانة أو تأمين مالي لا يمتلكه الفقراء أصلاً.
فى قلب ذلك الإستهداف عالي السقف، كانت مؤسسات بنوك التمويل الأصغر الربحية الخاصة فى بنغلاديش والساسة الذين يسبحون بحمدها تكسّباً تترصد يونس وتبيّت له نيّاتٍ قاتلات؛ وحاولت توريطه فى قضايا غش شركة زبادى وشركة تلفونات تتبع لبنك غرامين. أما مؤسسات ودول الشمال الكوني رأت بما تبقّي لها من ماء وجه، وجماعات ناشطة حكيمة أن تدفع أو تستثمر وتروّج لتلك الرؤية والممارسة الذكية الخيّرة الألمعية ومنها: بعض المؤسسات الحاكمة الأمريكية والنرويجية والهولندية والفرنسية والسويسرية ومؤسسات الأمم المتحدة والمنتدي الإقتصادي العالمي الخ.
لا يعني أن إحتفاء الشمال الكوني بأطروحة محمد يونس المسلم الحداثي لم يخلُ من نقدٍ ساخر حين وصفت مجلة الغارديان البريطانية مبادرته كمحكية "نيولبرالية طوباوية"، كون تلك القروض خلقت مجتمعات استهلاكية ، ولم تنجح في تكوين شركات مستدامة ومستمرة للمنتجين الصغار الفقراء.

ثانياً:
دعوة جوزف ستغلتز إلى إصلاح الرأسمالية المعاصرة برأسمالية تقدمية
لقد ظلّ جوزف استغلتز بإستمرار، حامل لقب نوبل، يدعو إلى ضرورة إصلاح الراسمالية ؛ كما سنري فى كتابه الأخير "الشعب، السلطة والأرباح - نحو رأسمالية تقدمية فى عصر السخط، ٢٠١٩".
وفى سياق الرأسمالية الأمريكية عدّد ستغليتز الوقائع والتحديات التالية:
* "ربما لم تكن الديمقراطية الأمريكية الآن في خطر أكثر من أي وقت مضى، حيث نشهد تخفيضات ضريبية ضخمة لأصحاب المليارات والشركات" (فى إشارة لمرحلة ترمب)، طبعا مقابل قطوعات فى ميزانيات القطاع العام في التعليم والصحة والنقل.
* كما "يعمّر الرجال الأغنياء الآن، في المتوسط ، خمسة عشر عاماً أطول من الرجال الفقراء وفقاً لمعلومات "مشروع عدم المساواة الصحية" الأمريكي.
* "تواجه الولايات المتحدة ،لأول مرة فى تاريخها، عجزاً بلغ تريليون دولار في تاريخها" ؛ وأن إجمالي الواردات يتجاوز الصادرات (العجز التجاري مع جميع الدول - عجز متعدد الأطراف)، حيث إرتفع إلى ما يقرب من 80 مليار دولار في الشهر، وذلك فى ديسمبر 2018.
يقر استغلتز أن التحدي نحو بناء رأسمالية تقدمية يعتمد فى الأساس على ضرورة "وجود عقد اجتماعي جديد قوامه توازن وتناغم وإنسجام بين ثلاث كيانات : الحكومة والأسواق والمجتمع المدني" ، و يعتقد أنه يمكن أن يتم إصلاح الرأسمالية رغم وجود أنشطة وممارسات الرإسمالية المعاصرة البغيضة التي تعيق ذلك الإصلاح ومنها الآتي:
١. قطاع البنوك والرأسمالية المالية: هذا القطاع يتهوّر فى أنشطة المخاطرة دون وازع ورادع رقابي مما تسبّب في الأزمات الكبري من الكساد العظيم إلى أزمة فقاعات العقارات فى ٢٠٠٨. وكذلك التسليف الافتراسي لهذا القطاع، وممارسات كروت الإئتمان الظالمة.
٢. شركات الغذاء (التى تقود إلى إصابة الأطفال بوباء أمراض السكري).
٣. أضرار شركات السجاير.
٤. شركات الأدوية (أزمة المواد الأفيونية).
٥. شركات النفط والفحم ونكرانها لواقع الإحتباس الحراري.
٦. صناعة السيارات (فضائح انبعاثات الديزل).
٧. جشع عمالقة الإنترنت (امازون، فيسبوك ، قوقل الخ) .. مثلا أن فيسبوك وافقت أن تدفع ٥ مليار غرامة، وهى أكبر غرامة فى تاريخ العقوبات التي تتعلق بالتعدي على الخصوصية. وكان ذلك جزءاً من تسوية فيسبوك مع هيئة الاتصالات الفدرالية الأمريكية FCC. تسعى تلك الشركات إلى ترسيخ مبدأ التملّص من المسؤولية أو الهروب منها كما فى اتفاقية سيليكون فالي وتوقيع اتفاقية شركات الإنترنت الأمريكية مع اليابان.
٨. الأسوأ من ذلك أن فيسبوك تجرأت لعمل عملة خاصة بها "عملة الكريبتو"، رغم سيادة وإستقرارالدولار الأمريكي عالمياً حتي يتسنى للشركة أن تعربد كما تريد. من غير المعقول والمنطق أن شروط شركة الفيسبوك التي تعتمد وتقوم على مبدأ الشفافية وتعمل علي إختراع عملة سرية (لاحظ أن كلمة كريبتو تعني السرية!! ).
٩. جوهر أزمة الأسواق المالية والمصرفية هو أن تسلّط وسطوة تلك الأسواق جعلت تكلفة كروت الخصم والإئتمان debit and credit cards مقابل التحويلات الإلكترونية عبئاً ثقيلاً لا يطاق أو يحتمل.
ورغم ان ستغليتز سمي ذلك "سطوة الشركات وجشعها" الا أنه يراهن على إمكانية إصلاحها وإقناع تلك الشركات الكبري أن تعمل لمصلحة الجميع، وأن تغيّر الشركات حوكمتها عبر تشريع جديد. كما أكّد ستغليتز على أن سطوة الشركات وتركّزها تترسّخ عبر وتنعكس فى هيمنتها على السلطة السياسية، لذلك يتم عملياً تقويض العدالة. لذلك لا يمكن فصل الاقتصادي من السياسي وتتحول الرأسمالية إلى فاشية جديدة شعار انتخاباتها: صوت لكل دولار، بدلاً من صوت لكل ناخب يدلي بصوته.

ثالثاً:
الواقع السياسي الاقتصادي السوداني: نحو إعادة نظر نقدي لمصطلح برنامج المرحلة الوطنية الديمقراطية
بينما تسعي نخب إقتصادية مفكرة عالمة فى قامة محمد يونس وجوزف استغلتز إلى الإعتراف بأن الرأسمالية المعولمة المعاصرة تمر بأزمة عضوض وتبتدر محاولات إصلاحها، نجد أن بعض نخبنا السياسو- اقتصاديين (كمثقفين غير عضويين) يهرولون نحو مؤسسات الراسمالية المالية المصرفية العضوضة العاضّة كصندوق النقد الدولي ، كما أن هناك من يروّج بطفولية يحسد عليها إلى أن البنك الدولي أرحم حالاً وكأنه يدعم رسالياً وسماوياً النمو (دعك عن التنمية) خارج شروط صندوق النقد ومنظمة التجارة العالمية ، وهذا موضع خارج منظار ومجال هذا المقال.
لقد إبتدر الحزب الشيوعي السوداني منذ الاستقلال مشروع إصلاح جذري للراسمالية التابعة ويتقاطع البرنامج مع مشروع محمد يونس يسمي "مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية" ، حيث تركّز سياق البرنامج في النظر إلى رأسمالية "وطنية" لا تتناسق أنشطتها الاقتصادية مع المشروع الإستعماري ، كونها تعمل على إستثمار أرباحها داخلياً ، حتى في القطاع التقليدي ، وأنها تعمل علي تصنيع المواد الخام ومدخلات الإنتاج (من آلات زراعية وآسمدة وكيماويات) محلياً ، وتعمل على توطين وترسيخ صناعة "سودانية" كما كان شأنها فى قطاعات النسيج والصناعات الغذائية والسكّر والزيوت والصابون.
الشاهد أن سيادة الرأسمالية التجارية وتحكّم ظاهرة "الساسة-رجال الأعمال" فى عهود ديكتاتوريات جنرالات النهب التي فرختها الحكومات العسكرية خاصة في حكم إسلام الأخوان المسلمين السياسي، قوّض كامن الراسمالية السودانية وشلّ قدرتها وكفاءتها العملية لتصبح طليعة لقيادة مشروع وطني وديمقراطي.
اقترح هنا أن نبحث عن إعادة جوهر المشروع خارج خطاب "الوطني" و "الديمقراطي"، ليس بنفيهما وإنما إستصحاب واستثمار مصطلحات ومفاهيم ذات علاقة نقدية بنمط انتاج تسوده سطوة رأس المال التجاري ورأس المال المصرفي الإسلامي الطفيليين. ذلك لأن طبيعة وسمة أنشطتها قصيرة الأفق والمدي ، تستهدف الربح السريع ولاعلاقة لها بالأفق التنموي طويل الأجل والنَفَس والهِمّة. ذات السمات تبعدها عن الاهتمام براس المال الصناعي ولا مصلحة لها في الإندماج معه كما حدث تاريخياً عند بزوغ الراسمالية. تنأي تلك الراسمالية بممارساتها عن التنمية والإنتاج المادي وتتبع جينياً لطفيلية راس المال المالي المعولم. نحن اذن إزاء سياق معاد بنوياً للمحلية والوطنية (والأهم بعده عن الديمقراطية وشروط شفافيتها وسلميتها) كون راسمالها لن يتراكم الا عبر آيدلوجية ديكتاتورية دموية قامعة. لا غبار علي عبارة "الوطنية" كمحكية طوباوية مثقلة بحمولة وبصمة الدول الاستعمارية التي إخترعت الدول (الأقطار) حسب مشروعها الإستعماري وقسّمت تلك الأوطان بينها.
لقد دأب إرث وتاريخ الأدب الثوري الماركسي علي تسميات لها علاقة وطيدة بمضامين مادية مثل : نمط الإنتاج المشاعي والرق والإقطاع وشبه الإقطاع والرأسمالية الربوية و التجارية والخدمية ، كما تم تناول نقدي لمصطلح الاستبداد الشرقي. أقترح ونحن إزاء منظومة ساسة-رجال أعمال أساس منظومتهم النهب والقمع والدموية والإبادات الجماعية ، لابد من بحث مشروع فكري يناهض ذلك بتسمية ذات وشائج مادية تتمحور حول علاقات العمل- رأس المال التجاري السودانية وفئات نخب التكنوقراط الاجتماعية التي تدرّبت علي تقديس وإحتضان ثوابت آيدلوجيا ومناهج المؤسسات العالمية المعاصرة (مؤسسات البنك الدولي والصندوق والتجارة العالمية الخ) ، ومؤسسات المجتمع المدني ( مؤسسات الصدقات والإحسان العالمية) التي تطوعن النضال ، بمعني انها تصبح ناشطة مُحسِنة لا علاقة لها بالمقاومة والنضال ضد تقويض القطاع العام كرافع للإقلاع الاقتصادي كما حدث في جميع المراحل التاريخية التي مرّت بها الراسمالية الصاعدة. كما أن موسسات القطاع العام تعتمد على وتتربّح من ضعف القطاع العام وخصخصته ، ونظيرتها المحلية من منظمات إحسان طوباوية دينية تحتفي ببذل مالها لدعم الفقراء أكثر من مقاومة تصفية قطاع التعليم والصحة والمشاريع التنموية.
اذن لقد إهتم وإعتنى يونس من الجنوب الكوني واستغلتز من الشمال الكوني بمصطلحات مادية قوامها "إصلاح الراسمالية" ، وحريٌ بأدبنا وخطابنا الثوري أن يتحرّي مصطلح وخطاب له علاقة بالعام المجرّد والمادي الملموس. لذلك يجب إعادة زيارة ذلك المصطلح كوننا أمام واقع يحمل سمات يتقاطع فيها: استعمار جديد وعولمة وامبريالية وفاشية جديدة.
مرجع:
"People, Power and Profits - progressive capitalism for an age of discontent , 2019.

elsharief@gmail.com

 

آراء