إضاءة علي كتاب: (حياة و تجارب) تأليف .. البروفيسور عبدالسلام محمود عبدالله

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم
من الظواهر المؤسفة في السودان عزوف بنيه عن الحديث عن أنفسهم و عن تسجيل تجاربهم و إنجازاتهم الشخصية ،و ذلك لأسباب مجتمعية تأبى الحديث عن النفس ، و تعف عن ذكر الإنجازات الشخصية . لهذا مضت أرتال من أبناء السودان العظماء إلى بارئهم بدون أن يسجلوا تجاربهم و نجاحاتهم و إخفاقاتهم لتستفيد منها و تبني عليها الاجيال الصاعدة. الواقع يقول إن عدداً ضئيلاً جداً من أهل السودان كتبوا سيرهم الذاتية و نشروها لتكون في متناول المجايلين و اللاحقين من أبناء الوطن..و لهذا فإن كتاب ( حياة و تجارب ) الذي نحن بصدده يُعتبر من الأمثلة القليلة للسِيَر الذاتية التي توفرت للمجتمع السوداني مكتوبة بقلم أصحابها..و حتى في ما نحن هنا بصدده كان للقَدِر حكمه !! فكتاب (حياة و تجارب) هذا أعد مادته كاملة مؤلفه بروفيسور عبدالسلام محمود عبدالله، لكن شاءت إرادة الله ان لا تكتمل طباعته و نشره إلا بعد وفاته بوقت وجيز ، فلم يره في شكله النهائي قبل أن يلتحق بالرفيق الأعلى راضياً مرضياً بما بذل و ما أنجز علمياً و مجتمعياً في بلاد السودان، و في مواقع أخرى إقليمية و دولية.
يقع الكتاب في ثلاثمائة و ثمان و خمسين صفحة من القطع الكبير ،في طباعة جيدة ،و تصميم جميل للغلاف و الصفحات، مع عدد كبير من الصور الفوتوغرافية التوثيقية ، و تزينه ثلاث مقدمات تضفي أبعاداً مهمة علي محتوى الكتاب و علي خلفيات بعض ما ورد فيه من أحداث ، لا أقول قد أغفلها المؤلف ، و لكنه تَوَاضَع عن الخوض في تفاصيلها.
لم تك بداية حياة المؤلف سهلة و ميسرة فلقد كانت حياة يتم و عصامية ،خففها التكافل الأُسَري و المجتمعي الذي يتميز به أهل السودان ، مما مَكَّن المؤلف من إكمال مراحل تعليمه العام تحت ظروف أسرية و مادية صعبة ، و ظل متنقلا بين الكاملين، مسقط رأسه ، و ود مدني و حنتوب و الخرطوم ، مشمولاً في كل تلك المواقع برعاية كريمة من الأهل و الأقارب ،و مدفوعاً للتقدم في سُلَّم التعليم بما كان يحرز من نجاحات و تفوق رغم كل ما كان يحيط به و بأسرته الصغيرة من ضيق ذات اليد ،و رغم ما كانت تتطلبه ظروف الحياة في مجتمع مشروع الجزيرة التي كانت تحتم علي الكل، و حتى الاطفال المشاركة في العمليات الزراعية منذ نعومة أظفارهم ، مما كان يتضارب في أحيان كثيرة مع متطلبات الدراسة النظامية في المدارس..و يروي الكاتب هنا كيف كانت أيام الشهر تتوزع عنده مناصفة بين المدرسة و الحقل ، مما كان يستوجب بذل جهد خرافي منه للحاق بما فاته في المدرسة خلال إسبوعين من كل شهر خلال العام الدراسي كان يقضيهما في الحقل مشاركاً في العمليات الزراعية .
رغم كل الظروف غير المواتية ، إستطاع المؤلف التَمَيُّز العلمي ، و كان من القِلَّة المحظوظة التي إحتضنتها مدرسة حنتوب الثانوية عندما كانت قبلة لأذكياء السودان و خاضعة لمنافسات شرسة بين أبناء كل أقاليم السودان ..لقد أفرد المؤلف جزءاً كبيراً من الكتاب لتسجيل ذكرياته و إنجازاته في رحاب مدرسة حنتوب الثانوية ، كما عَبَّر دون مواربة عن عِشْقٍ مستحق لتلك المؤسسة التربوية العريقة التي أمَّها العديد من فطاحلة المعلمين و الإداريين السودانيين و الأجانب ، و أضاء جنباتها العديد من طلاب أصبح لهم شأن و أي شأن في حاضر و مستقبل السودان.
و تجربة المؤلف كطالب بجامعة الخرطوم قادم إليها من حنتوب كانت ثرة ، لكن تجربته الوظيفية معها كانت مضطربة ، إذ هجر وظيفة المعيد في كلية العلوم بجامعة الخرطوم و التي وفرها له تميزه العلمي، بعد شهور قليلة من تعيينه ، هرباً من كثرة العمل، كما قال ، و اختار أن يصبح معلماً في المدارس الثانوية . لكنه ندم علي ذلك بسرعة فعاد بعد لأي لأحضان الجامعة كطالب دراسات عليا ، و من بعد ذلك انطلق لعالم التدريس الجامعي بعد حصوله علي درجات عليا من جامعة الخرطوم و جامعة شيفيلد البريطانية . و من هنا بدأ كتابة صفحات علمية و إدارية مشرقة ، متعددة الآفاق و البيئات، فترك بصمات سجلها في كتابه و لا تخطئها العين في جامعة الرياض بالسعودية ، و جامعة الجزيرة ، و جامعة السودان المفتوحة ، و اخيراً جامعة أفريقيا العالمية.. فالكتاب يحتوي علي سِجِلٍ حافلٍ و صادقٍ لكمٍ هائلٍ من الإنجازات و المساهمات التي ستخلِّد ذكراه في كل تلك المواقع التي غِشَاها و ترك فيها بصمات خالدة أسأل الله أن يكتبها في ميزان حسناته و يجزيه عنها كل خير.
عموما فإن التفاصيل و مجمل الأحداث الواردة في الكتاب تمثل سيرة ذاتية تستحق أن تُبسَط أمام الناس لأن فيها الكثير من التجارب و العِبَر ، و الكثير من آليات التغلب علي المصاعب و تحدي الإنتكاسات ، و الكثير مما يستحق أن يُراجَع..و بشكل عام فإن الكتاب يثبت ما كان للمؤلف من علاقات عامة واسعة إستغلها بذكاء في قضاء حوائجه المؤسسية ، و أظن، مما ورد من تفاصيل في الكتاب ، أن إنتماء المؤلف المبكر للإخوان المسلمين منذ ايام حنتوب ، و علاقاته الوطيدة بالعديد من قياداتهم ،قد ساعده في إنجاز الكثير ..كذلك يبين الكتاب أن المؤلف، رحمه الله ، كان يتميز بجرأة شديدة في تناول الامور العامة ، و في طرق الأبواب المغلقة . كذلك يوثق الكتاب لما تميز به المؤلف من شجاعة في القول ، و من نَفسٍ لا تعرف المستحيل ، و من إستغلال إيجابي غير محدود للعلاقات الخاصة و توظيفها لخدمة الأغراض العامة.. كذلك كم هو مدهش ما ورد في الكتاب من مرات تجرأ فيها بتقديم خدمات لجهات لا ينتمي إليها ، و من إبتدار مشروعات كبرى لأشخاص و لمؤسسات خارج نطاقه الوظيفي، بروح خلَّاقة لا تعرف المستحيل ، و صبر عجيب علي المكاره و علي إمتصاص الإنتكاسات و الصبر علي المرض و علي فقدان الأحباء و الأصدقاء و بخاصة فقده المفاجئ لرفيقة الدرب و شريكة النجاحات زوجته نوال الطيب رحمة الله عليها .
ألا رحم الله بروفيسور عبدالسلام ، و جعل الجنة مأواه مع الصديقين و الشهداء . و أسأله تعالى أن يجعل كتابه( حياة و تجارب ) هادياً و مرشداً للأجيال ،و أن يُخَلِّد تجاربه الثرة و يبقي علي بصماته الناصعة التي تركها في كلٍ من جامعة الجزيرة، و جامعة السودان المفتوحة و جامعة أفريقيا العالمية، و جامعة الرياض و معهد اللغة العربية في الصين، و أن يجزيه خيراً على صبره علي ما ظل يعانيه من أمراض و آلام مبرحة لم تقعده ابداً عن ما جُبِل عليه من بذل و عطاء و كريم خصال .
بروفيسور
مهدي أمين التوم
19 يونيو 2022م
Sent from my Galaxy

mahditom1941@yahoo.com
/////////////////////////

 

آراء