لا أعرف حُزناً أشد حزماً وخناقاً على الأفئدة ، و شحذاً لقوانا وأكثر، من إيلاماً من فراق " فاطمة " . تداعت الأطياف كلها ، خارج السودان وداخله ، تتسابق لتودّع الجسد النبيل وهو مُسجى . وفيها التّوق للوفاء في حق الشقيقة الكُبرى أو الأم الأضحية ، قدمت حياتها كلها من أجل العدالة الاجتماعية خلال مسيرة حياتنا السودانية لمدة تزيد عن ستين عاماً . كأن الشعوب السودانية المتنافرة قد تناست ثارات الزمن. والطُحال الذي يتمدد بلا طائل ، مغص مُستديم . في " الغُربة " تجمعت الورود والأزاهير ، ووقفت الجُموع صمتاً لنوَّارة بلادنا وقد رحلت . لا يستوعب الذهن الألم الذي فاض بأصحابه ، حين كاد الوداع أكبر من كلمات الرحيل .تلك نظرات في باطنها اعتذار أننا لم نستطع إكمال رسالتها كما يجب أو أن التاريخ يكتُب أنها أكثر تقدماً من أبناء وبنات عصرها . كتب " الدجاج الإلكتروني " أنها رحلت في " دار المُسنين "!؟ ، والحقيقة أنها مُقيمة في بيتها في المملكة المُتحدة ! . أراد فصيل الشؤم أن يُلحق بها صفة الذُّل المهانة ، وهي تُغادر بعد عمرٍ مجيد قضته تدافع عن الوطن ، وترنو لتنال المرأة حقوقها العادلة . اعتدنا على البضاعة الخاسرة من الفاقد التربوي للحركة الإسلاموية ، يريدون أن يصدقوا الكذب الذي يشيعونه !.حتى الذين جاروا على الحاضر ، وتوضأوا بدماء أبناء جلدتهم على أنه ماءً طهور !، جاءوا كي لا يفوتهم أجر التشييع ، علّ الشعوب تنسى !!. لا أعرف أهو ابتزاز لمشاعر الحزن الذي عمَّ القُرى والحَضر ، أم هو شعور بالذنب الثقيل ،الذي شعر به أصحاب القلوب القاسية المُتحجرة الإحساس ، كما تحجّرت الأذهان من قبل . فقدوا الإحساس بالكرامة . بعيدون همّ عن أعراف الإنسان النبيل ، لأنهم في وحشة حقيقية ، و فراق مع طبيعة الفطرة التي رفدتها العقيدة التي يحملون شِعاراتها. وحملوا أسفار على أسنّة الرماح ، ولا يدرون عنها كثير شيء . ها هو الحزن يندلق على الجباه الحُرّة ، وهي تُغالب نَدى عَرَق الجُمان ، وهو يتصبب .والمشاعر كلها تختلط وتتبدى الأحزان في أجمل أفراحها بموتٍ " كموت الجماعة عِرِس" ، إن كانت هنالك من أفراح تبقّتْ !. تهتّز أجساد النائحين والنائحات من الفجيعة الكبيرة ، فالتاريخ قد نهض من سُباته ليكشف حاضرنا الكئيب ، أمام سيدة لو كانت في بلدٍ مُتحضر لأقاموا لها تمثالاً في وسط المدينة . (2) لم يكُن انتماؤها إلا لقضية المرأة والتقدم ، حين كانت الحياة عندنا ببعض الحُرية ، وهي ومرافقاتها الفُضليات ، وهُنَّ يُكابِدنَّ من أجل الآخرين ، في ريعان العُمر النّدي . صدَّتهم حينها حواجز الظلام الخرسانية . تغير الآن حال المرأة عما مضى . صار اليوم أكثر انحطاطاً مما كانت "فاطمة" وهي في اخضرار عُودها تتصوّر حدوثه . عداءٌ سافر للمرأة : شكلها وزيّها وصوتها ، إلا حين تمُد أصبع السبّابة، وتهتُف بعبارات عفا عليها الزمان !. نشهد الآن دعوة مُستميتة لهدر حقوق المرأة ، تظهر في الخفاء ، ثم في العلن ، على قلة ما هو متوفر من حقوق . ضربوا حولها سياج العُصور الغاشمة ، حين جاءوا بليل. وعُدنا بعده إلى سالف العصر والهوان !. (3) لا شيء يُنصف السيدة " فاطمة أحمد إبراهيم "، فهي علامة فارقة في المستوى الشخصي ومستوى المعرفة الفاعلة في زمن الغشاوة الكُبرى . عَبَرت هي كل الغيوم المُلبدة والصواعق التي تشق الأسماع . تمجّدت تلك السيدة التي اهتزّ بدخولها مبنى البرلمان القديم .أرغى وأزبد وُجهاء المكر الطائفي القديم ، حين قدِمتْ وهي وحيدة أمام عُصبة من شيوخ القبائل والطوائف الذين لبسوا جُلباب الرب ليتحدثوا باسمهّ ! . مُستهجنين أن تكون من بينهم امرأة !! ويتعين الإشارة إلى أن السيدة " فاطمة أحمد إبراهيم " قد فازت بمقعدها في دوائر الخريجين عام 1965 ، ضمن المقاعد التي فاز بها "الحزب الشيوعي السوداني" بعدد (11) مقعداً من أصل (15) . ونال الحزب الوطني الاتحادي مقعدين ، والإخوان المسلمين حصلوا على مقعدين كذلك من الدوائر المتبقية للخريجين . ولم يحصل "حزب الأمة " على أي مقعد من مقاعد الخريجين ! لم يزل أرباب الطوائف التي يتستّرون بأحزابهم ، وهم " الإسلامويون من مقاعدهم " ، يسكتون على مهانة المرأة وإذلالها ويشاركون الدولة الإسلاموية ، فعلاً وقولاً : إنهم مع " ثوابت العقيدة " !. (4) أصدر المُفكر " محمود محمد طه " سفراً عن تطوير شريعة الأحوال الشخصية عام 1971، والكتاب مبذول في مدوّنة الفكرة الخاصة بالجمهوريين ، وكتب في ص 76 : { في الشريعة ،....كذلك جاء تفضيل الرجال على النساء في هذه الشريعة ، فجعلت المرأة على النصف من الرجل ، في الشهادة ، وفي الميراث ، وعلى الرُبع منه في الزواج .. وكل هذه إنما هي أمور عرضية ، زائلة بزوال أسبابها ...} وهو ما أوضحه في دراسته الخاصة في الرسالة الثانية المُبطنة في أصل العقيدة الإسلامية، كما يرى . وهي رسالة تُسهم مرحلياً في الدعوة لمساواة الجنسين في الحقوق والواجبات . (5) يتعيّن متابعة ورعاية نشاطات " جمعية بابكر بدري العلمية للدراسات النسوية" . وهي امتداد لرسالة المعلم "بابكر بدري " في السابق ، و " فاطمة " منذ عرفتها الأجيال منذ مطلّع خمسينات القرن الماضي وإلى رحيلها . ووقف الدعوة لتشويه جسد المرأة باستئصال أجزاء من جهازها التناسلي . وقد تبنت مناهضة العسف المُجمعي الجائر "جامعة الأحفاد " ورعاية أبناء وبنات وأحفاد وحفيدات المعلّم " بابكر بدري ".لم تزل معنية بمحاربة هذا التقليد البشع الذي، لم يزل آفة صنعها المُجتمع ، وقنّن مشروعيتها بعض الموتورين الذين أحياهم النظام من قبور التاريخ !. لم يزل في مجتمعاتنا من قلدتهم السلطة مهام دستورية ، وتركت لهم الحبل على الغارب . كأنهم أصحاب وصاية على عقولنا !. (6) يتعيّن دراسة تراث الحركات المُستنيرة في دولة " تونس " التي تدعوا للعدالة والمساواة في الحقوق والواجبات بين الجنسين . وتلك رسالة يتعين دراستها ، والبحث عن السبيل لتطبيق تلك العدالة المفقودة ، في المجتمع. (7) من الضروري متابعة ودراسة أقوال و أفعال الإسلامويين، الذين تسلقوا السلطة من الخفاء بعد المصالحة الوطنية التي تمت عام 1977 . وانتشر سرطانهم داخل مفاصل السلطة والقوات المسلحة . وكانوا وراء ما تسمى بقوانين سبتمبر 1983 ، وأعدموا بتدبيرهم المُفكر " محمود محمد طه " ، وقد كان كبيرهم الذي علمهم السحر " مستشاراً في القصر الجمهوري " ، يصنع بمكر مُصائب الدهر ، ومن ثمة انقلبوا على سلطان الدولة أيام الديمقراطية السودانية الثالثة ،كما هو معروف عام 1989 ، وأتمّوا البرنامج المناهض للمرأة وحقوقها ، ولاحقوها في كافة الميادين إلى الأن . ضرورة عمل دراسة دقيقة لإعادة النظر في قوانين الأحوال الشخصية منذ المدونة الأولى وإلى القانون الذي صدَّره الإسلامويون عام 1991 . وتلك بعض مما يتعيّن أن يحملنّه ويحمله رائدات و رُوّاد التنوير، بهدف تنقيح المظالم التي تسكُن بطن القوانين جميعها ، رغم تداعي هيكل الوطن ، اجتماعياً واقتصادياً وأمنياً .