إلغاء وزارة الأشغال في السودان !

 


 

 

 


13 فبراير 2018
alshiglini@gmail.com

" قَفَاَ نَبْكِ مِنْ ذِكُرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ "

امرؤ القيس
(1)
عام 1994 :
توطد حٌكم جحافل الغزاة ، وخلعوا " غوائش " الفاتنات عُنوة . وجاءوا بالرجال إلى الرصاص والمدافن الجماعية في الصحراء بليل . توزعوا الأرزاق بينهم فيئاً ، وساقوا السبايا ليُضربنَّ بالسياط .
*
كنتُ في مكتبي مشغولاً ببعض المكاتبات والتقارير اليومية المتعلقة بنشاط بعض المشاريع، عندما زارتنا مهندسات فاضلات، كُنَّ يعملنَّ في رئاسة وزارة الأشغال في السودان . طلبت لهُنِّ الشاي الأحمر، وكان هو المتوفر حينها للضيافة. بدأت مهندسة منهُنَّ لا أذكر اسمها تقول لي :
- أعندكم وظائف مهندسين ؟
بدأتُ مُتبسطاً في شرح أن ميزانية الوظائف ، يتعين أن يتم اقتراحها في الميزانية مُسبقاً ، وبعد التصديق يتم الإعلان عن الوظيفة أو الوظائف ... وفجأة تذكرت مدلول السؤال، فقلت :
- لمَ السؤال وأنتم مهندسات في وزارة الأشغال ؟
أجابتني إحداهُنَّ ضاحكة :
- يا خي حَلُو وزارة الأشغال ومنحوا خمسين مهندساً ومهندسة كُتب بإحالتهم للصالح العام بسبب إلغاء الوزارة !
وَجمت من الدهشة ، وغلبني الرد أو التعقيب . فترة صمت استمرت قرابة الدقيقة ، وبعدها بدأت مُتلعثماً أخفف من وطأة القرارات التي تأت من علٍ . كأنها انفجار صاعقة ، أو غليان بُركان فيزوف الذي دمَّر " بومبي " الإيطالية بمساكنها وأهلها في دقائق ، فتحنطت الأجساد كالتماثيل. كِدتُ أكذّب النبأ ولكنني بدأت أعي فداحة المُصيبة ... مُتأخراً.
وحدهم قادة التنظيم الذي سطى على الدّولة والسلطة ، يعرفون كيف ومتى " تتنزَّل" القرارات من حاضنة " كبيرهم الذي علمهم السحر " ، لتصبح واقعاً ، يتعين علينا قبوله . و" تتنزل" هي من هين مصطلحاته التي لاكتها جماعته حتى جفّت من المضامين والمعاني .

(2)

من هي وزارة الأشغال في السودان ؟
هي الجهة الحكومية المسئولة عن تنفيذ الأعمال والمنشآت الحكومية في كل أرجاء السودان القديم .المباني المُتراصة التي تواجه شاطئ النيل الأزرق من أوله إلى منتهاه : مبني القصر الجمهوري العتيد ، مبني القضاء ،مبنى إدارة العاصمة ، مبنى البوستة ، مبنى وزارة الداخلية ، مبنى وزارة المالية ، مباني الإسكان ،مبنى وزارة الأشغال ، مبني إدارة المساحة ، مباني نادى الأطباء ، مباني نادي الضباط ، مباني وزارة الصحة ،مباني جامعة الخرطوم منذ أن كانت مدرسة أولية وإلى أن صارت جامعة ، وكان القيّم على أمورها الهندسية مندوب وزارة الأشغال " كبير مهندسي الجامعة " منذ العام 1957 وإلى العام 1970. كل تلك المباني تغيرت مسمياتها!.
تقوم وزارة الأشغال بتصميم وتنفيذ كافة المدارس الأولية والوسطى والثانوية في كل أنحاء السودان القديم ، كما تقوم بتصميم وتنفيذ كل نقاط الغيار والمراكز الصحية والمستشفيات ، ومباني المجالس البلدية ومباني القضاء ، ومراكز الشرطة ومباني السجون ومباني سكك حديد السودان. فهي المصمم والمنفذ لجميع مباني القطاع العام .
تطورت وتعددت أدوارها ، فهي الجسد الفني المسئول عن المراجع الهندسية ، والحُكم على صلاحية الأعمال المنفذة من الناحية الهندسية والقانونية ذات الصلة. يضم فسيفساء هندسية تمتاز بالخبرة والمرونة والتنوع. بها كفاءات هندسية تأهلت في معاهد السودان وجامعاته ، وغزّت شرايينها الأكاديمية بإرسال المهندسين في بعثات راتبة للدراسات العليا في المملكة المتحدة واستراليا وغيرها من المؤسسات الأكاديمية خارج السودان لترفيع العمل الهندسي وتطويره. فيها كم هائل من العمال المهرة والفنيين ومساعدي المهندسين ، الذين ينفذون الأعمال الهندسية في كل بقاع السودان ويشيدون صهاريج وخزانات المياه في القرى والأرياف البعيدة النائية .

(3)

أرشيف مخططات وزارة الأشغال :
يضم أرشيف المخططات البلاستيكية ، المحفوظة في وزارة الأشغال ، كل المباني التي صممتها الوزارة طوال تاريخها الطويل ، الذي ذكرنا أغلبها ، كي نُحيط بهيبة وجسارة عمل الوزارة وخطورته . ونأسف أن الذين اغتالوا الوزارة ، لم يكُونوا يعلمون دور هذا الأرشيف الخاص بمباني بدأ تنفيذها منذ أوائل القرن العشرين ، وعبرت تاريخاً زاخراً بالأمجاد . كلها محفوظة في الأرشيف !.
يا تُرى ماذا فعلت الإنقاذ بالأرشيف ؟!
ذهب الأرشيف كله ، كما يقولون إلى " الزّبالة " كنفايات ، ليصبح مبنى الوزارة مكاناً فارغاً لتأسيس " وزارة الحكم اللاركزي بالأثاث الجديد " وتعيين " علي الحاج محمد" وزيراً !
قُلْ ربما لا يعلمون ، أو ربما كان التخصص الهندسي في التصميم والتنفيذ والجهاز الفني من البشر ، غير معلوم لدى عامة المتأسلمين ، ولكنه بالضرورة معلوم لدى " كبيرهم الذي علمهم السحر " ، فقد كان عميداً لكلية القانون بجامعة الخرطوم في ستينات القرن العشرين . وهو بالضرورة صاحب معرفة ولو قليلة بأمر وزارة الأشغال ، وإن تركنا كل ذلك فأخوه كان يشغل عميداً لكلية الهندسة !.

يمكننا أن نقول بثقة أن التنظيم أشار بأصبعه لمبنى وزارة الأشغال : لماذا لا يكون " وزارة الحكم اللامركزي " ؟ . وما أهمية وزارة الأشغال في مشروعنا الذي نبتغي ؟ . ذات الهلوسة التي أصابت البعض عند الرغبة الشديدة في بيع مباني جامعة الخرطوم ، والتي توقف أمر بيعها حين تنادت كل الأصوات الخيّرة لوقف القرار الجائر.

(4)

تم إعادة طلاء سور ومباني وزارة الأشغال بالجير الأبيض - مُسترخصين الصيانة - وعُلّقت اللافتة الجديدة لوزارة الحكم اللامركزي ، الذي تمخض جبله وولد فأرة " النظام الفدرالي " الذي يبتلع في بطنه آلاف الوظائف القيادية، التي لا يعرف المرء ماذا تعمل تلك الوظائف الدستورية ، حتى تستحق الميزانية " المهولة " التي تُصرف عليها!.
ماذا فعل النظام الفدرالي لأهل السودان ، مدائنه وأقاليمه !؟
أليس " على الحاج محمد " هو الذي واجه سيل الاتهامات الخاصة بمال " طريق الإنقاذ الغربي "، وردّ هو :
" خلوا الطابِق مستور " ؟.
لا أعرف أهو لاجئ في ألمانيا نال جواز السفر الألماني ، بعد أن اعتبره الآخرون مُعارضاً للسلطة ، أم ماذا يخبئ لنا الألماني في دهرنا هذا ؟ . ها هو " البعّاتي" يستيقظ من سُباته ، ويصبح زعيم حزب مُعارض! .
لا زلت أذكر أن صحيفة " الراية " الإخوانية ،أيام الديمقراطية السودانية الثالثة ، وهي تكتُب مقالاً عن وزير التجارة الداخلية مدعوماً بالصور الضوئية - أيام حكومة الصادق - وهو " علي الحاج " ، وتعنون زيارته لأحد المخابز :
" صعب صعب يا علي "
سرقة ، و من أغنية السباتا الهابطة !.

(5)

في حاشية من حواشي سِفر المحبوب عبد السلام المسمى ( الحركة الإسلامية السودانية - دائرة الضوء وخيوط الظلام - تأملات في العشرية الأولى لعهد الإنقاذ – طبعة 2009 م)
ورد اسم " علي الحاج " كقيادي بارز في السلطة التي جاءت ليلاً بإنقلاب 1989، ولن يتم اعتباره " معارضاً " ، ولو خرج " عن الملّة " بفرمان " هيئة علماء السودان" ، لأنه لم يدفع بعد ، الثمن الثقيل عن انتمائه للمتأسلمين السودانيين الذي آذوا الشجر والناس والحجر .
(أ‌) ص 96

{ كان تفويض مجلس شورى الحركة الإسلامية قد انتهى إلى الأمين العام ، الذي اختار ستة من كبار قادة الحركة وأعلامها المعروفين بسابقتهم وكسبهم القيادي المتصل ، مثَّل "سبعتهم "القيادة الشرعية ذات التفويض لاتخاذ القرار السياسي الذي ينقذ البلاد ويُمكّن للحركة الإسلامية . وبموجب ذلك التفويض ، الذي استصحب شورى الأجهزة الرسمية والشورى غير الرسمية التي تولاها الأمين العام كقرار الانقلاب لاستلام السُلطة .}
حاشية :
{ أدى القسم ستة من قادة الصف الأول للحركة الإسلامية أمام الأمين العام بكتمان سر التغيير وأداء أماناتهم ورعاية عهد الحركة الإسلامية مهما اشتد عليهم في الابتلاء ، وهم : علي عثمان محمد طه ، علي الحاج محمد ، ياسين عمر الإمام ،عوض أحمد الجاز ، عبد الله حسن أحمد ، إبراهيم محمد السنوسي }.

عبدالله الشقليني
12فبراير 2018

 

آراء