إلى المؤرخين وأساتذة التاريخ (1): بين الفكر والتاريخ .. هل التاريخ صدىً للفكر أم الفكر صدى للتاريخ؟
د. علي أحمد إبراهيم، جامعة/ الدمازين
10 June, 2022
10 June, 2022
(َٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ ءَاذَوْاْ مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْ ۚ وَكَانَ عِندَ ٱللَّهِ وَجِيهًا)- (الأحزاب: 69)
دكتور علي أحمد إبراهيم، جامعة الدمازين، السودان
الخميس 9 يونيو 2022
هل التاريخ صدىً للفكر أم الفكر صدى للتاريخ؟
قبل الإجابة على هذا السؤال سأقدم مقدمة، أرى أنها ضرورية، عن تاريخ الأستاذ محمود محمد طه.
تابعت بمزيد من الأسى والحزن، ما مورس من اقصاء، ضد الدكتور عبد الله الفكي البشير.. من مجموعة دراسات وبحوث دول حوض البحر الأحمر (نحو 150 أستاذ وأستاذة).. وضيق وتبرم من بعض مؤرخى الجمعية التاريخية، (نحو 150 أستاذ وأستاذة)، بسبب مقالات كتبها د. عبد الله بعضها عن تاريخ الأستاذ محمود محمد طه الذي تجاهله المؤرخون عمداً، وبعضها تصحيح لما لحق دعوته من تشويه متعمد ومقصود، وبعضها الآخر تحرير بالأدوات العلمية لعطائه الوطني في مواجهة الاستعمار من سجن المؤرخ، والدارسين للحركة الوطنية السودانية.
إن حزني ليس على إقصاء د. عبد الله وإنما حزني على العلماء الذين اقصوه من مجموعة البحر الأحمر والذين يحاولون أن يقصوه من مجموعة الجمعية التاريخية السودانية.
في الظاهر أن المتضرر من الإقصاء هو الدكتور عبد الله الفكي البشير، ولكن في الحقيقة أن المتضرر هم الذين أقصوه (كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل)
لقد أصبح د. عبد الله مؤرخاً يشار له بالبنان، على نطاق العالم العربي والإسلامي، بله السوداني، ففي كل صباح جديد له كتاب أو مقال منشور أو محاضرة أو مشاركة في ندوة..
وبفضل الله عليه، أعطاه الله من دقة الفكر ومن الصبر والمصابرة ما جعله ينقب في التراث البشرى والفكر المعاصر بجدٍ وبمثابرة، رغم صغر سنه فهداه ذلك البحث للدعوة الإسلامية الجديدة (الفكر الجمهوري)، فسرعان ما وقف على الضيم الذي وقع على صاحبها من ظلم ذوي القربى من رجال الدين والسياسيين والمثقفين.
وها أنذا بصدد ظلم شريحة المؤرخين.. الأكاديميين الذين يزعمون أنهم يتناولون البحث العلمي بحياد وما هم كذلك لقد قاموا بحجب تاريخ الأستاذ محمود محمد طه عمداً، بل مع سبق الإصرار والترصد عن المناهج والأبحاث فحرموا طلابهم عن التعرف على أهم قامة انسانية فى تاريخ السودان، وأفريقيا والوطن العربي ألا وهو الاستاذ محمود محمد طه.. فالأستاذ محمود أصلب من قاوم الاستعمار الإنجليزي في الحركة الوطنية السودانية، بلا منازع. هذا من حيث النضال، أما من حيث الإنتاج والتجديد في الفكر الإنساني بصفة عامة، والإسلامي بصفة خاصة، فهو رائده بلا منافس الأمر الذي أثار ضده سخط وحقد رجال الدين والسياسيين فتآمروا على حياته فظنوا أنهم قتلوه وما علموا أنهم أحيوه (فالموت فيه حياتي وفى حياتي قتلى)
لقد أعتلى الأستاذ محمود منصة الإعدام مبتسماً، مجسداً قوله صلى الله عليه وسلم (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه) لقد مات ميتة أحيته في قلوب وعقول محبيه فاشتاقوه، كما احيته في عقول خصومه فارتعبوا من فكره. بل من اسمه أيما رعب. لقد استدعى الأستاذ محمود التاريخ، تاريخا كنا نظنه من أساطير الأولين مثل تجرع سقراط السم طائعاً مختاراً، ومواجهة الحسين بن على لجيش يزيد فى معركة غير متكافئة.. ووقفة عمر المختار في مواجهة المستعمر الإيطالي، أما وقفة الأستاذ محمود وابتسامته على منصة المشنقة، فلقد جسدت كل تلك المواقف عياناً بياناً!
سجن الاستاذ محمود الأول عام 1946م
بدأ الأستاذ محمود محمد طه نضاله ضد الاستعمار منذ أن أسس الحزب الجمهوري في أكتوبر من عام 1945 مجموعة من الشرفاء، فكان أول سجناء الحركة الوطنية. لقد أوردت جريدة الرأي العام يوم 3 يونيو 1946 الخبر أدناه:
"مثل الأستاذ محمود محمد طه المهندس أمام قاضي الجنايات مكدوال متهما من بوليس الخرطوم تحت القانون الجنائي لتوزيعه منشورات سياسية من شأنها الإخلال بالأمن العام وقد أمره القاضي أن يوقع على صك بكفالة شخصية بمبلغ خمسين جنيها لمدة عام لا يشتغل خلاله بالسياسة ولا يوزع منشورات ويوضع فى السجن لمدة سنة إذآ رفض ذلك، ولكن الاستاذ محمود رفض التوقيع مفصلا السجن وقد اقتيد لتوه لسجن كوبر ولم تستغرق هذه الإجراءات كلها غير وقت يقل عن ساعة"
أما داخل السجن فلم يستسلم الأستاذ محمود ولم يستكين، بل استمر في مقامة المستعمر فعصى أوامر السجن، فلم يقف لمديره عند مروره فأودعوه فى زنزانة السجن الانفرادي.. فصام الصيام الصمدى. وهو صيام كان يصومه النبى صلى الله عليه وسلم، فيواصل الليل بالنهار فيفطر عند غياب شمس النهار الثالث.. وقد قلده فيه الصوفية. ومما يجدر ذكره أن الجمهوريين في الشارع كانوا يصورون صيامه الصمدي، إضرابا عن الطعام فيزداد الضغط على المستعمر.. مما اضطر الحاكم العام ان يستشير السيد الدرديرى محمد عثمان فقال له: إنه يعرف الأستاذ محمود منذ الصبا، فهو لا يتنازل عن رأي يراه حق لو أدى ذلك لموته.
في نفس الوقت اشتكى ضباط السجن، من ان المساجين بدأوا يتعاطفون مع الأستاذ محمود، وربما يتأثر بعضهم به فيتمردون فأصدر الحاكم العام قرارا بإطلاق سراح الاستاذ محمود دون قيد أو شرط بعد خمسين يوما فقط ولم يكمل العام.
لقد كان إخراج الأستاذ محمود محمد طه من السجن بهذه الكيفية صدىً واسعا على الحراك الوطني فتفاعل وتجاوب معه الشعب خاصة النشطاء.. فأرسلوا برقيات الإعجاب مهنئين الاستاذ محمود والجمهوريين أدناه طائفة منها.
نماذج من برقيات التهنئة والمؤآزرة التى وردت فى بريد الحزب الجمهورى يومئذ
إلى سكرتير الحزب الجمهوري ،أم درمان.
كان سجن الرئيس درسا وطنيا قيما لشباب الجيل في الإيمان والروح وقد سررنا إخراجه لا شفقة عليه
ولكن ليواصل الجهاد الوطنى
حسن بابكر، للقضارف،٢٤/٧/١٩٤٦
إلى محمود محمد طه،الحزب الجمهوري امدرمان:
تاكل النار الصدى واللمما**
وبها يسمحوا كريم الذهب
ويرىالحر العذاب المؤلما**
لذة فى الحق ياللعجب**
ياسجينا قدره قد عظما**
حتى جثة فوق السحب
احمد.محمد عثمان،عطبرة.
٢٩/٧/١٩٤٦
إلى محمود محمد طه، اأم درمان.
عرفنا فيك المثل الأعلى منذ عهد الطلب. فسرنا ان يعرف القاصة والثانى هذا القلب الكبير.
صديق الشيخ كوستى.
٣/٧/١٩٤٦
إلى محمود محمد طه ، أم درمان.
اوفيت كرامة السودان وإبائه حقهما، فالتعش رمزا صادقا للوطنية الخالصة، لك تقديرنا وإعجابنا.
اتحاد طلبة كردفان،الابيض.
٢٣/٧/١٩٤٦
إلى محمود محمد طه، أم درمان. لقد سجلت بعزمك القوى وإيمانا الصادق فخرا للأجيال.فالتعش مرفوع الرأس.لك منى التهانى.
الطيب حسن عطبرة.
٢٤/٧/١٩٤٦
هذه مجرد نماذج.. حينها كان تنظيم الإخوان المسلين جنينا يتخلق فى مصر.
نواصل..
abdalla.baboo@gmail.com