إلى المدرسة الأولية
عبد الله الشقليني
7 September, 2014
7 September, 2014
الخوف والدهشة والفرح اجتمعوا جميعاً في قمة رأسي منذ المساء .
- بلغت الآن يا (نجم الدين ) مرحلة النضج . آن لك أن تستبدل وإلى الأبد الجلوس على الرمل الخشِن أرضاً بالجلوس على المقاعد الخشبية كالسادة وكِبار السِن .
هكذا قلت لنفسي .
*
ودّعت وإلى الأبد ألواح ( الأردواز ) للكتابة وجاءت مرحلة الكراسات وأقلام الرصاص و الريشة والحِبر ، فقد كبرنا على خلوة عمنا الشيخ "عبد الرحيم". السابعة من العُمر كان في ذهني هو موعد النُضج والانعطاف الكبير ، وآن الأوان أن أذهب برفقة أخي عثمان وابن عمي كمال الدين إلى المدرسة . سيقبلونني قسراً بينهم رفيقاً و مُسامراً . لن يتهكم أحد فلم أعد صغيراً ، فمنذ اليوم سوف أصبح مثلهم . قامتي تعدت المِتر قبل زمان، كنت أحسبها في ذلك الزمان عنفواناً ورجولة وقوة .
*
صحوت مُبكراً على غير العادة ، فالأفراح القادمة مع الخوف والقلق تُخلخل المنام . الجلباب الأبيض وغطاء الرأس وحذاء القماش ، هي اللباس الجديد . حلاقة الرأس كانت قبل يومين تحت ( راكوبة ) الحاج محمد في سوق الموردة ، ومنها بدأ العد التنازلي للذهاب إلى المدرسة .
*
أعدت والدتي كل شيء منذ الصباح الباكر . وكان عليَّ الإسراع لحمام الصباح والسواك . رغم أنني لا أحبهما ولكنني اعتدت على قبولهما فهي طقس من طقوس الكِبار ، يمارسونها بلا تردد ، أياً كان الماء بارداً أم دافئاً . للنضج مخاطر وقساوة لابُد من التعود عليها .
شاي الحليب مع (الِلقيمات ) تناولته مثل الجميع ،ثم أخذت الزاد اليومي ( قرشان ) للإفطار وهو في زمان الخمسينات من القرن الماضي مال يمكن للمُدبر أن يوفر ربعه ، أو نصفه إن كان مُقتِّـراً . التنبيه والتشديد على تفقد "المال" من الضياع عند كل حين كانت هي الوصية ، فالجري والقفز واللعب تُضيّع النقود ، لذا كان الحذر من الواجبات .
*
تحدد مُسبقاً تاريخ اليوم موعداً للذهاب للمدرسة . يقولون إن الشيخ "عبد الرحيم" قد حمل القائمة بأسماء التلاميذ الجدد ومعها وثائق الميلاد للمدرسة الأولية قبل أيام . تبعد المدرسة الأولية فرسخاً ونصف الفرسخ عن مسكننا . حضر ابن عمي كمال إلى مسكننا في موعده اليومي ، فمسكننا يقع على طريق مسيرته إلى المدرسة . من المُعتاد أن يغشى أخي عثمان ويذهبان سوياً . الحقيبة القماشية على الكتِف تبدو لي اليوم جميلة ورائعة ، حتى ولو كانت فارغة . الطريق الترابي كنت أراه ضخماً فخماً هادئاً في الصباح . شمس الصباح رائعة . المذياع تُجمله أغنية في الطريق :
الزهور صاحية وإنتَ نايم
داعَبت شَعرك النسائم
. . . . . . . . .
لم أكن حينها أعرف أن شاعرها هو العملاق عبد الرحمن الريَّح ، أو أن الصوت الرخيم هو للفنان الرائع رمضان حسن .
*
النظرة المُستبشِرة و التحية من الجيران والعابرين ، فثلاثتنا الآن في طريقنا للمدرسة ، أنا وكمال الدين و أخي عثمان. كمال الدين في السنة الرابعة والأخيرة في المدرسة الأولية ، وعثمان في الثالثة وأنا سوف أصبح في الأولى . وأدركت أول ما أدركت و منذ خروجنا من مسكننا ، أن الجَدة (نفيسة ) كانت صادقة عندما قلبت أصداف ( الوَدِع ) الصغيرة أمامي ذات مرة و كان تقول :-
- الدار الكبيرة مُحَمِدَاك يا نجم الدين .
*
كان للذهاب المُبكر للمدرسة مَيزّة تعرفك على معالم المدرسة وفق ما يرى أخي عثمان . على جانب الطريق أشجار ( النيم ) متفرقة بلا انتظام على الطريق . ينضم إلينا في الطريق مبارك و محمد من أبناء عمومتي ، جميعهم يتسامرون وأنا أستمع . للمدرسة سور ضخم متصل تراه أنت من البعيد ، هو من الطين وطرفه الأعلى من الطوب الأحمر ، بعرض 30 سنتمتر ، تسمح للجميع الطواف عليه وقت اللعب. الأغصان الباسقة تغطي الأسقف الهرمية الشكل . إنها لا تشبه مساكننا ، ترتفع أكثر مما يجب . إن رأيتها وأنت داخل القاعة الدراسية ، ترى أخشاب التيك داكنة اللون تتقاطع مع بعضها لتُمسِك سقف الزنك أعلى قاعة الفصل والقاعات المجاورة كذلك . الحوائط بُنيت من الطوب الأحمر والنوافذ من ألواح خشبية تفتح علىالفرندة الممتدة جنوباً ، أما شمالاً فتظلل النوافذ أفرع أشجار ( اليارنج ) . ثمارها الخضراء الحامضة الطعم، صرنا نحن بعد تعوُدنا نتبارى في تحمل حموضتها .
*
المدخل الرئيس عند بوابة المدرسة بعرض أربعة أمتار ، وأعلاه لافتة المدرسة :
( مدرسة أبو عنجة الأولية للبنين ) . بعد زمان من ذلك التاريخ أدركت أن المدرسة تحمل ذكرى البطل حمدان أبو عنجة ، حامل أحد ألوية المهدية و بطل من أبطالها ، وأدركت لاحقاً أن البنين تختلف عن البنات في الكتابة كما في الطبيعة ! . تجد الطريق أمامك عند مدخل المدرسة يفترِشه البحص والرمل . على اليمين وعلى اليسار حديقتان ، تحُف من حولهما مجموعة من أشجار ( البان ) و( التمر هندي ) . إن خطوت خمسة عشر خطوة تجد على اليمين مظلة مبردات المياه الفخارية . مجموعة من الجرار تجلس على فتحات صنعت في بسطة خرسانية بارتفاع أقل من المتر . على رؤوسها أغطية خشبية بمقابِض ، وعليها أكواب صنعت من الألمنيوم كبيرة الحجم ربطت بحبال من نبات الكِناف ، تمنع الكوب أن يتجول بعيداً . عدة أمتار أخرى وإلى اليمين ملعباً صغيراً للكرة الطائرة اصطلاحاً ، فهو باحة وقائمين وشبكة . عشرة أمتار أخرى وتبدأ مباني قاعات الدرس ( الفصول ) . المباني أقامتها وزارة الأشغال منذ مطلع الخمسينات . تبتني هي أنموذجاً لمدرسة ، ويتم تنفيذها في كل مدن السودان وضواحيه والأرياف، وفق ما يتيسر . يقوم البناء على شكل هرمي . عِقد واسطته مكتب لمدير المدرسة و آخر للمدرسين . وعل الطرفين( فصلين ) على اليمين وعلى اليسار .
*
للسنوات الأولى والثانية من جهة ، وللسنوات الثالثة والرابعة من الجهة الأخرى . على طرف قصي مخزن و غرفة الحارس عمنا ( محمد الفرَّاش ) ، بها أيضاً مطبخه. لاحقاً بعد أن تعرفنا عليه ، تذوقت عنده لأول مرّة " قراصة " القمح مع طبيخ اللحم عصراً .
من الجهة الشرقية و على يُسراكَ وأن تدخل البوابة ، هنا يجلس ثلاثة من النسوة ، حولهم آنية وصحائف تجهيز الإفطار للتلاميذ ( في فُسحة الفطور ) : العَمة ( الحاجة ) ، ثم العمة( زينب ) ثم العَمة ( حليمة ) . من الجهة الغربية باحة كُبرى لطابور الصباح اليومي . في الوسط توجد مساحة لمزارع التلاميذ التعليمية . الخضروات والمحاصيل ، وقد تقلصت لأحواض يتراوح أطوالها بين المتر والمترين ، تربط بعضها قنوات الري ، تُقرِّب لنا في ذلك الزمان المزرعة في زمن نأت المزارع بعيداً إلى أطراف النيل. ثلاثة فراسِخ شرق المدرسة الأولية و تحت جسر النيل الأبيض يوجد اليسير مما تبقى من مزارع الخُضر . فقد تمَدينت أم درمان وأخذت بأسباب التجارة والمهن الحرفية ، بعُدت قليلاً عن حياة الريف ، وبقي أهلها ريفيون ولكنهم يلبسون قشور الحواضِر .
*
عندما تقاطر التلاميذ ، أخذني شقيقي إلى عمنا الشيخ "عبد الرحيم "، وأمسك الأخير بيدي . انتظرنا في الباحة بعد أن رأينا طابور الصباح ، وكيف ينتظم الجميع في سكون وأدب . يصطف الجميع ، يتفقد المعلمون الصفوف . كل مرحلة على جانب من الباحة ، قبل النشيد اليومي . ثم المغادرة إلى قاعة الدرس .
*
انتهت قراءة الأسماء المُعتمدة وتمَّ التسجيل للسنة الأولى. تفقد الشيخ "عبد الرحيم" الجميع و اطمأن على قبولهم . نبهنا بضرورة الالتزام بالآداب التي تربينا عليها في ( الخلوة ) . أوضح أن المخالفين سيقدمون إليه ليوقع العقوبة عليهم وفق النظام القديم ، إضافة لعقوبة أولياء الأمور . تحرك الموكب إلى داخل القاعة المخصصة لتلاميذ السنة الأولى . على باب القاعة وقف مُرشد الفصل المعلم ( مصطفى أحمد سالِم ) ، في يده اليُسرى سوطاً قصيراً ، ويده اليمنى مرفوعة توجه الداخلين .
*
يوليو هو شهر الصيف ، الحرّ والأتربة ثم الأمطار حين يبدأ العام الدراسي . بدأ المعلم " مصطفى "التعريف بالمدرسة ونظمها والقائمين عليها ، ثم بدأ قراءة قصة قصيرة مشوقة من قصص " كامل كيلاني " كي نتقرب إلى المدرسة عن طريق القص، وتلك بداية الطريق.
عبد الله الشقليني
21أبريل 2005
abdallashiglini@hotmail.com