“إنه التعليم .. ياغبي”..وإلا تتويج السيسي السوداني

 


 

 



alsawi99@hotmail.com
شعار الحزب الديموقراطي الامريكي الذي حمل بيل كلينتون الي سدة الرئاسة عام 92، " IT IS THE ECONOMY ,STUPID،   انه الاقتصاد .. ياغبي "،  ينطبق عندنا إذا استبدلنا الاقتصاد بالتعليم، ربما أكثر من انطباقه علي الحالة الامريكية التي استدعته. نقطة القوة التعبوبةللشعارأمريكيا جاءت من تركيز الانتباه علي الحال المتدهورة للاقتصاد خلال حقبة رئاسة الحزب الجمهوريبينما تدهور التعليم عندنا يجعل وصف الحضيض قليلا عليه. والاسوأ إن طرفنا المعارض ابعد مايكون عن الانتباه إلي خصوصية مطلب الاصلاح التعليمي بما يدفعه لرفع ذلك الشعار نحو قمة سلم الاولويات. في ماعدا استثناء جزئي عند حزب الامه، الذي خطط لمؤتمر حول التعليم بقي مجرد خطه، يبقي المغزي الحقيقي للتعامل مع موضوع التعليم من قبل المعارضات جميعها، كبيرة وصغيره، قديمة وحديثه، هو مساواة اولويته مع اولويات القطاعات الاخري. 
الشاهد إنه بالغة مابلغت التنازلات التي سيقدم عليها المؤتمر الوطني الان او مستقبلا، فأن مثل هذه المساواة تعكس فهما أعرج لسر صعود الاسلاميين الي السلطه وانزياحها بالتدريج الي قبضة الجناح الاكثر تقليدية، يحصره في هيمنتهم علي أدوات السوق والاختراقات في اجهزة الدولة الامنية، بينما الهيمنة الحاسمة في هذا الصدد هي الهيمنة علي العقل. منذ اول مسمار دقته الشمولية المايوية في نعش النظام التعليميانبسط الطريق واسعا امام شمولية الشموليات  المتحكمة فينا الان، ببداية عملية إعادة هيكلة العقل السوداني عن طريق تجويف النظام التعليمي من ملكة النقد واستقلالية التفكير.
لو كنت في موقع قيادة حزب الامه، الشريك المحتمل الاكبر إذا صحت التخمينات الرائجة هذه الايام، لما ترددت في إبقاء كافة السلطات في يد المؤتمر الوطني إذا كان هذا هو الثمن الذي ستقتضيه موافقته علي تسليم الحزب حقيبة التربية والتعليم.بغير ذلك فأننا موعودون، إذا سقط النظام الحالي لاسباب تبدو غير منظورة حتي الان، بعملية تتويج لسيسي سوداني بناء علي طلب الجمهور ، جمهور لاتزالحتي كثير من نخبه القائدة تعشعش في أذهانها اسطورة المستبد العادل تحت تأثير ركام الفقهيات البالية التي تتغذي بها في المدرسة وخارجها.  هناك اكوام جبالية من التحديات التي ستتركها حقبة المؤتمر الوطني المتطاولة عمرا وتدميرا، ولن يستغرق الامر طويلا بعد إنقضائها حتي يضيق المزاج العام بهذه الديموقراطية التي لاتطعم خبزا ولاتوقف حربا فتتشكل خميرة الانقلاب القادم في الاذهان وتظل تكبر مع ازدياد درجة السخط حتي تصبح مطلبا لاراد لقضائه.
إلي حين انتباه المعارضات السياسية الي اولوية الاصلاح التعليمي فأن المجتمع المدني اللاسياسي هو الوسيلة الوحيدة لتحمل مسئولية هذه  المهمة التاريخية. من بين عدد من المبادرات في هذا الخصوص تجدر الاشارة الي اخرها وهو المؤتمر الذي نظمه " مركز مامون بحيري للدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية في افريقيا " خلال 15-16 ديسمبر 2013 ، بالتعاون مع مجموعة " الاسبقية للتعليم " ،  حول واقع التعليم العام في السودان و تحديات الإصلاح. يمكن الرجوع الي النص الكامل لبيان المؤتمر في موقع المركز. هنا بعض التعليقات حول هذا الموضوع ذو الاهمية المزدوجة بالنظر لصدوره عن هذاالمركز بالذات لكونه مؤسسة متكاملة ذات وزن محلي وإقليمي، ولكون اهمية التعليم تتجاوز كثيرا الفهم السائد في الوعي العام مساويا إياها بأهمية القطاعات الاخري .قدمت في المؤتمر (8) أوراق تضمنت محاور عديدة ناقشت مختلف قضايا التعليم، وتقديري ان الوثيقة الصادرة عنه تحلل بدقة عيوب النظام التعليمي الراهن وتحدد الخطوات المطلوبة للتخلص منها دون ان تغفل في هذا الصدد ارتباطها بالاوضاع العامة. علي ان للوثيقة اهمية إضافية وهي صدورها عن هيئة مجتمع مدني بما يشير الي ان المبادرة الطوعية للمواطنيين الي تبني قضية معينة هو اكثر الوسائل فعالية لتحقيق تقدم بشأنها. وهو امر مهمل في حياتنا العامة.
تعرف الوثيقة مشكلة التعليم علي النحو التالي : " خضوع العملية التعليمية لاهواء النخب الحاكمة  التي قامت بأجراء تغييرات مستمرة في الأهداف التربوية والمناهج التعليمية والسلم التعليمي بدوافع سياسية في الغالب ، مما كان له بالغ الأثر في خلق بيئة تعليمية غير مواتية ومناهج تعليمية ضعيفة ومختلف حولها، وسلم تعليمي مختل وأهداف تربوية مضطربة أسهمت جميعها في تشكيل منتج تعليمي في غاية الضعف معرفيا مع عدم تلبيته لحاجات سوق العمل "، وتضيف ان " التعليم به قصور في العدالة جغرافيا واجتماعيا والمنهج وضع برؤية احادية وتم فرضه على كل مكونات المجتمع المتعدد عرقياً والمتنوع ثقافياً والذي تختلف حاجاته جغرافياً واجتماعيا ،كما ان التوزيع ليس عادلاً فالتعليم الجيد يتوفر في منطقة وينعدم في أخرى ". بعبارة اخري يمكن القول ان تشويهات النظام التعليمي هي بالاساس من صنع الانظمة الشمولية التي فرضت رؤيتها واغراضها الخاصة عليه، والاخطر من ذلك، انها عطلت قدرة المجتمع علي التدخل لتصحيح اوضاعه كما هو الحال بالنسبة لكافة قطاعات الحياة. وبهذا المعني فأن شكوي هذا المقال وسابقاته من تقصير المعارضة في أوللة قطاع التعليم ومن ثم تدني موقعه في سلم الوعي العام وتاليا في سياسات مابعد الانظمة الدكتاتورية، يمكن تفسيره الي حد او اخر بتدني اولويته في هذاالوعي العام نفسه تحت الالحاح الباهظ لمطالب المأكل والمأوي والملبس.
فيما يتعلق بفلسفة التعليمتوردوثيقة المركز عددا من البنود ربما كان اهمها البندان المتعلقان بالتعدد العرقي وتنمية روح الابداع،  وذلك علي النحو التالي : "  حسن ادارة التعدد العرقي والتنوع الثقافي للمجتمع " و "  غرس روح التغيير والابتكار في العمل لدى الطلاب ". علي سبيل التحاور مع هذه الرؤية ترد الفكرة التالية : بالرغم من ان ظروف الحرب وخصوصية المعاناة السودانية في جنوب النيل الازرق وكردفان ودار فور تضفي اولوية معينة علي هذا البند، إلا أن كون الحرب هنا، كما كانت في الجنوب، تجليا لازمة الحكم النابعة من الفشل في تأسيس نظام ديموقراطي، يسبغ اهمية استثنائية علي البدء بالمعالجة الجدية والحقيقية لهذه المعضلة وهذا  لاسبيل اليه إلا بتنمية العقلية الخلاقة والناقدة التي يدور حولها البند الثاني.نظرة واحدة الي العالم من حولنا تبين ان الدول التي انجزت مشروعها الديموقراطي هي التي لايشكل التعدد الثقافي او الاثني أزمة فيها بل مصدر غني وقوة. سويسرا، علي سبيل المثال، مكونة من ثلاث قوميات تتحدث لغات مختلفة الفرنسية والالمانية والايطاليه بينما دولة مثل الصومال آية في التماثل الديني والاثني تتفتت وتتحلل الي هويات تحت- قبلية والفرق بينهما هو موضوع الديموقراطية لكونها ايضا قرينة التنمية. فالانظمة الشمولية لاتنتج إلا تنمية اجهزة الامن والجيوش ورفيقهما الفساد فتتدحرج تنمية الاقتصاد والخدمات، انتاجا وعدلا، الي اسفل سلم الاولويات إن لم يكن خارجه تماما. يذهب الشق البشري في مفهوم التنمية البشرية ويبقي الشق المادي، سدودا وطرقا، شاهدا علي خراب الانسان مجردا من ملكة العقل متدحرجا الي مملكة الحيوان والقطعان.
(  27 يناير 2014 )
/////////////

 

آراء