“اتفاقية سلام جوبا” وضياع فرصة تحقيق شعارات ثورة ديسمبر المجيدة: “حرية سلام وعدالة”   

 


 

 

(1 من 2)

رغم أن أتفاقية السلام التي تم توقيعها قبل عاماً ونصف في جوبا، في الثالث من أكتوبر 2020، بين مكونات "الجبهة الثورية السودانية" برئاسة د. الهادي إدريس والجبهة الثورية الأخرى بقيادة اركو مناوي، وحركات مسلحة أخري وحكومة الفترة الانتقالية الأولي لم تاتي بالسلام الشامل لعدم مشاركة  "الحركة الشعبية لتحرير السودان – قطاع الشمال"/فصيل عبد العزيز الحلو و"حركة تحرير السودان"/جناح عبد الواحد محمد نور، -ذات الثقل الجماهيري والعسكري-، ورغم عدم إشراك "أصحاب المصلحة" من النازحين والاجيئين الذين يعيشون في المعسكرات داخل وخارج البلاد في، ورغم اعتماد "المسارات الجهوية" النابعة من ظاهرة "سياسة الهوية الجماعية الاثنية والجهوية" كأطراف للاتفاقية، ورغم مخرجاتها المرتبطة بالمحصصات الوظائفية لقادة الحركات المسلحة، تفائل الشعب السوداني والعالم أجمع بانهاء ما يقارب الثلاثة عقود من الحرب الأهلية، وانطلاق عهد جديد لدولة سودانية ديموقراطية مدنية قائمة علي المواطنة والمساواة والحرية والعدالة الاجتماعية والقانونية. حيث عقد الشعب السوداني والعالم الخارجي آمال عريضة على تحقيق السلام واقتسام السلطة مع مكونات الجبهة الثورية: في إنهاء الحرب التي اندلعت في دارفور عام 2003 وراح ضحيتها ما يقارب 300 الف، وتشرد ما يقارب 2,5 مليون مواطن من دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق، وفي إرساء السلام وإستباب الأمن في مناطق الحرب، ورجوع النازحين واللاجئين من خارج وداخل البلاد إلى مواطنهم، وإنهاء إهدار ثروات البلاد الاقتصادية والبشرية في "الحروب الأهلية" وتوجيهها نحو تنمية الاقتصاد والمجتمع. وتفائل المجتمع السوداني والعالمي بأن تلتحق الحركتين الغير منضويتين تحت الاتفاقية ب"قافلة السلام" لاحقاً.

علي هذا السياق وضع الشارع السياسي آمالاً عريضة في مكونات الجبهة الثورية الموقعة علي اتفاقية السلام علي أن تصير جزءاً من قوي الثورة والتغيير الديموقراطي، وتلعب بذلك دوراً فعالاً في مسيرة ثورة ديسمبر المجيدة من أجل: تحقيق "الحرية والسلام والعدالة" في ظل دولة مدنية ديمقراطية موحدة. وتمثلت هذه الآمال في أن تشرع حكومة ثورية بمشاركة الجبهة الثورية السودانية في تحقيق العدالة الانتقالية في الجرائم التي ارتكبت ضد الإنسانية في دارفور، وفي جبال النوبة والنيل الأزرق بتسليم مطلوبي "محكمة الجنايات الدولية" من قادة النظام الساقط، وفي تحقيق السلام الشامل المستدام. وبنيت هذه الآمال علي الوضع المثالي المتمثل في شراكة الجبهة الثورية السودانية في تحالف "إعلان قوي الحرية والتغيير"، والذي كان بمثابة الحاضنة السياسية لحكومة الفترة الانتقالية بموجب وثيقتي "الإعلان الدستوري" و"الإعلان السياسي"، والتي وقع عليهما في أغسطس 2019، مع المجلس العسكري (المحلول). وجاءت جولات رئيس الجبهة الثورية الهادي إدريس في "رحلة التبشير بالسلام" ليس فقط الي المناطق المتاثرة بالحروب في دارفور، بل أيضاً الي ولاية النيل والشمالية والشرق، وإعلانه "لتحمله المسؤولية الكاملة مع رفاقة من شركاء الحكم في البلاد لإخراج البلاد من الأزمات التي تحيق به..." لتذيد من الأمل في الدور الإيجابي للحركات المسلحة في مسيرة ثورة ديسمبر المجيدة.

ولكن، وبعد مرور عاماً ونصف من التوقيع علي اتفاقية السلام، ومرور أكثر من عاماً علي مشاركة قادة الجبهة الثورية في السلطة السيادية والتنفيذية الاتحادية والإقليمية في دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة، وبسبب بقاءها مشاركة في سلطة أنقلاب 25 أكتوبر العسكري خابت الآمال وتلاشت التفاؤلات المعقودة علي اتفاقية جوبا لتحقيق السلام وعلي دور مكونات الجبهة الثورية في دعم مسار الثورة:

وذلك رغم أن الجبهة الثورية، التي تضم خمسة حركات مسلحة وأربعة مجموعات سياسية مدنية قد خلقت مع مكونات قوي الحرية والتغيير الأخري المتمثلة في الأحزاب السياسية و"تجمع المهنين" و"اتحاد منظمات المجتمع المدني" حاضنة سياسية عريضة لحكومة الفترة الانتقالية الثانية، تميزت العلاقة بين بعض مكونات الجبهة الثورية ومكونات إعلان الحرية والتغيير الأخري بعدم توافق علي طريقة معالجة القضايا التي تخص التعامل مع "إزالة التمكين للنظام الساقط" والتعامل السياسي مع فلوله ومع الأحزاب السياسية التي شاركت معه الي حين سقوطه، وبالصراع علي السلطة، وعدم الثقة في النواية السياسية للآخر. ولم تتسم العلاقة فقط بعدم التوافق السياسي، والصراع علي السلطة، وعدم الثقة في النواية السياسية، بل أيضاً ب"الخصومة" السياسية، التي تمثلت في الموقف الرافض لحركة العدل والمساواة بقيادة د. جبريل إبراهيم وحركة تحرير السودان بقيادة اركو مناوي لتوجهات قوي الثورة الرافضة للتصالح مع فلول ومساندي النظام الساقط، ولعمل "لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989 وإسترداد الأموال العامة في السودان" وإثارة الشكوك حول إجراءاتها. وذلك رغم أن اللجنة قد تما تكوينها بموجب قرار من المجلس السيادي في ديسمبر 2019. وبجانب عوامل أخرى أثرت هذه العلاقة الخصومية سلبياً علي أداء حكومة الفترة الانتقالية الثانية، ومثلت حاجزاً للوصول الي توافق حول إستراتيجية لتخفيف الضائقة المعيشة، ومحاربة الفساد وإصلاح مؤسسات الدولة، وتحقيق العدالة الانتقالية لضحايا الجرائم ضد الإنسانية.

وارتطبتت العلاقة الخصومية بين بعض مكونات الجبهة الثورية وقوي الحرية والتغيير بالوضع المهيمن للمكون العسكري في إدارة الدولة سياسياً واقتصادياً، وتوسعه بموجب هذه الهيمنة في سياسة الاستقطاب السياسي بين المجموعات المسلحة المنضوية تحت "إتفاقية سلام جوبا، وبفقدان المكون المدني لإمكانيات وآليات ضغط عبر المؤسسات الأمنية والدستورية والإدارية للحد من هذه الهيمنة في إدارة الفترة الانتقالية. ومن المراقب أيضاً في الموقف المقرب من المكون العسكري لبعض هذه الحركات، ممارستها لخطاب "التشوية السياسي" لأحزاب منضويه معها تحت "تحالف قوي الحرية والتغيير" ومشاركة معها في السلطة التنفيذية وفي مجلس السيادة، واتهامها بالسيطرة والتمكين السياسي. وذلك رغم تمثيل الحركات المسلحة وصل إلى نسبة 24% في السلطة التنفيذية، وإلى 21,42% في المجلس السيادي، حسب توثيق د. فخر الدين عبد العال، السياسي والخبير الاقتصادي.

وقبل تفيذ الانقلاب العسكري في 25 أكتوبر انتهت الخصومة السياسية بين "حلفاء الأمس" في تحالف قوى الحرية والتغيير بأنشقاقها: بخروج "حركة تحرير السودان" بقيادة مناوي، و"حركة العدل والمساواة" بقيادة د. جبريل إبراهيم، وبعض الأحزاب السياسية الصغيرة من التحالف وتكوين ما يسمي "قوي الحرية والتغيير – الميثاق الوطني". وتسبب هذا الإنشقاق في أضعاف الحاضنة السياسية لحكومة الفترة الانتقالية، ومهد للانقلاب العسكري في 25 أكتوبر 2021 على السلطة التنفيذية والسيادية وتقويض دستور الفترة الانتقالية. ورغم حل الحكومة الانتقالية، وتعطيل العمل بالدستور، وأبعاد الممثلين المدنين لقوي الحرية والتغيير من السلطة التنفيذية والسيادية، وإعلان حالة الطوارئ، ومنح صلاحيات واسعة لجهاز المخابرات لتعقب واعتقال الناشطين السياسيين لاتزال مكونات الجبهة الثورية السودانية مشاركة في السلطة الانقلابية علي كل مستويات الحكم الإتحادي والاقليمي.

وذلك في حين أن رئيس حركة تحرير السودان اركو مناوي ورئيس حركة العدل والمساواة، د. جبريل إبراهيم يدعمون الإنقلاب العسكري، ولا يسمونه انقلبا، بل "اجراءا تصحيحيا" لإنهاء "هيمنة قلة من الأحزاب" علي أدارة الفترة الانتقالية، حسب تقديرهم، ويرفضه ويسميه أنقلاب عسكري كل من رئيس "الحركة الشعبية لتحرير السودان/قطاع الشمال" مالك عقار، و"حركة تحرير السودان المجلس الانتقالي"، د. الهادي إدريس، و"تجمع قوى التحرير السودان"، الطاهر حجر. وعلل مسؤول في الحركة الشعبية، جناح عقار، الرافضة للانقلاب ان استمراريتهم في المشاركه في السلطة التنفيذية والسيادية، تحكمه ضرورة وجودهم لتنفيذ الترتيبات الأمنية وتنفيذ أتفاق السلام وإرجاع المواطنين الي مناطقهم. ويتفق في هذا الفهم والموقف أيضاً مكونات أخرى للجبهة الثورية، متمثلة في "حركة تحرير السودان المجلس الانتقالي" بقيادة الهادي إدريس "تجمع قوى التحرير" بقيادة الطاهر حجر، وذلك رغم رفضهم للانتقلاب.

وتحت سلطة الإنقلاب التي تشارك فيها مكونات الجبهة الثورية برئاسة الهادي إدريس والأخرى بقيادة اركو مناوي يتسم الوضع منذ الإنقلاب في البلاد بتوقف شبه كامل لدولاب الدولة علي المستوي السياسي والاقتصادي، وتدهور مريع في عمل الأجهزة الأمنية والعسكرية والقانونية والرقابية، وتعثر لانفاذ الإجراءات الأمنية المرتبطة بدمج قوات الحركات المسلحة في المؤسسات العسكرية والأمنية، وتوقف كامل في عملية تحقيق السلام، وفي إتمام عملية السلام مع الحركات المسلحة الغير موقعة علي اتفاقية سلام جوبا. وحتي قرار إنشاء "القوة المشتركة" لحفظ الأمن الذي أتخذ في نهاية 2021 بموجب اتفاقية السلام لم يتم تنفيذه الي اليوم. ورغم أنتهاء الفترة التي حددها رئيس "مجلس الدفاع " ومجلس السيادة لخروج قوات الحركات المسلحة من المدن، بما فيهم العاصمة القومية لم تصدر أي معلومات عن خروج لتلك القوات، أو تواجدها فيها.

إرتباطاً بفشل سلطة الإنقلاب تحقيق أي خطوات في إنزال اتفاقية السلام علي أرض الواقع، بالوضع الأمني المتدهور في دارفور قدم فريق "لجنة الخبراء المعنية بعقوبات السودان"، والتي تكونت في 29 مارس 2005 وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم 1591 تقريراً عن الوضع في دارفور أمام مجلس الأمن في 23 ديسمبر 2021. حيث وصف التقرير الوضع الأمني في دارفور بالهشاشة، وأوضح أن "العديد من المناطق شهدت عنفاً طائفياً واسع النطاق، وتدهوراً أمنياً، وتورط أطراف النزاع في الإقليم في إرتكاب حوادث أعتداء جنسي واغتصاب للنساء والفتيات". وأشار التقرير أيضاً الي "بطء تنفيذ اتفاق جوبا للسلام، خاصة فيما يتعلق بأوضاع النازحين واللاجئين والبدو، وملفات تحقيق العدالة والمسألة". إرتباطاً بهذا الوضع مدد مجلس الأمن في 15.02.2022 عمل فريق الخبراء المعني بعقوبات السودان، بموجب القرار رقم 1951 الذي يخص الحظر علي بيع الاسلحة للسودان وحظر السفر وتجميد الأصول المالية للأشخاص المتورطين في الحرب الأهلية في دارفور. بذلك يستمر وضع الرعاية والوصاية العالمية علي الدولة السودانية التي كانت مفروضة في إقليم دارفور لفترة 13 عاماً -من ديسمبر 2007 الي ديسمبر 2020- بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1769 تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

وفي ظل تدهور الأوضاع الأمنية في دارفور تعرضت مخازن تابعة ل"برنامج الأغذية العالمي" بمدينة الفاشر للنهب من مجموعات مسلحة في ديسمبر 2021، ولمقر "البعثة الأممية" في يناير، ولمقر "البعثة المشتركة للأمم المتحدة والإتحاد الإفريقي، (يوناميد)" في فبراير من نفس العام. وتهدد تفلتات منتسبي الحركات المسلحة باستمرار حياة المواطنين العزل في المدن والقري ومعسكرات النازحين واللاجئين، والعاملين في مجال الإغاثة العالمية. وتزايدت السيولة الأمنية منذ الانقلاب العسكري في 25 أكتوبر، حيث لا يمر يوماً في دارفور من غير أن يفقد عشرات المواطنين أرواحهم أو موطنهم أو ممتلكاتهم علي أيدي أفراد ينتمون إلى الحركات المسلحة المنضوية تحت سلام جوبا، وعلي أيدى مليشيات قبلية مسلحة، وعصابات نهب مسلحة، كما جري في نوفمبر العام الماضي وفي مارس وأبريل هذا العام في جبل مون بين مسلحين من القبائل العربية وقبيلة المسيرية وفي ولاية جنوب وغرب دارفور، في محلية سيربا وكرينك بين قبيلة المساليت والرزيقات العربية من جانب وبين فصائل مسلحة وقوات نظامية من جانبا آخر، وبمشاركة مليشيات عسكرية مدعومة من الدعم السريع - حسب تصريحات مراقبين. وحسب "لجنة أطباء السودان المركزية" أود النزاع المسلح في محلية كرينك الذي اندلع في 22 أبريل -من غير الذين لم يتم حصرهم- بحياة 200 وجرح 220 مواطناً ومواطنة خلال ثلاثة أيام، من بينهم 21 طفلاً، و6 معلمين، وجرح المئات، وفي إحصائية أولية ل"مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية" بالخرطوم ونزح ما بين 85 الي 115 الف شخص، وتوقفت  المرافق الصحية في مناطق النزاع في تقديم العلاج للمصابين والمرضي بسبب انعدام الأمن للكوادر الصحية، ولجاء المواطنين لمعسكرات القوات التشادية المشاركة في عملية تحقيق السلام.

إرتباطاً بالأحداث الدموية في محلية كرينك والجنينه اتهم حاكم دارفور، اركو مناوي السلطات الأمنية بالتقاسع عن حماية المواطنين والتواطؤ مع المعتدين، ووصف ما يجري  ب"المؤامرة". وقال والي الولاية خميس عبد الله أبكر "إن المشكلة ليست بين القبائل، إنها مشكلة سياسية أمنية". وصرح د.  الهادي إدريس رئيس الجبهة الثورية السودانية وعضو المجلس السيادي للسلطة الانقلابية عن تلقيمهم "تقارير أولية" لضلوع قوات الدعم السريع في الأحداث الدموية هناك، وأنهم في صدد التحقيق في ذلك. وقال المتحدث بأسم القبائل العربية، مسار عبد الرحمن عسيل في مؤتمر صحفي في الجنينه ان الصراع الدائر في المنطقة "ليس بين القبائل العربية والمساليت بل صراع بين التحالف السوداني والقبائل العربية". مع العلم أن التحالف السوداني، الذي يتكون من 15 فصيلاً مسلحاً، من الحركات المسلحة الموقعة علي اتفاقية سلام جوبا، ضمن "مسار إقليم دارفور". وتتداول مصادر إعلامية مختلفة في الأحداث الدموية هناك عن مشاركة ميليشيات من ولايات أخرى ومن خارج الحدود السودانية، الأمر الذي يشير إلى تفريض وتقاسع من السلطة الحاكمة في سيادة القانون ورغابة الدولة علي حدودها الإقليمية.

وحسب إعلان لجنة أطباء السودان المركزية وتقرير "مكتب الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة" سقطت في النزاعات القبلية في غرب دارفور ميئات من القتلا، وجرح أعداداً كبيرة، وحرقت قري بكاملها وأجبر الاف علي الهجرة والنزوح داخل وخارج البلاد. ويعاني من تدهور الأمن أيضاً الشريط الحدودي مع دولة الجنوب -مناطق في جنوب كردفان وأبيي- بسبب نزاعات مسلحة متكررة بين قبائل المسيرية ودينكا نقوك، وتورط قوات من الحركة الشعبية شمال" في صراع مسلح مع قبائل المسيرية الرعوية. وحسب مهتمين ومراقبين تمثل الصدامات القبلية ومشاركة الملشيات القبلية المسلحة فيها امتداداً لجرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي من أجل الاستيلاء علي الأراضي والثروة المعدنية في مناطق النزاعات. ومع عجز الدولة في تحقيق السلام والقيام بدورها في توفير الأمن للمواطنين وملاحقة الجناه يطالب الضحايا وزويهم من نازحين ولاجئين في المعسكرات وخارجها، ومنظمات سودانية وعالمية ودول أجنبية بتدخل المجتمع الدولي لوضع حداً للقتل والتهجير والاغتصاب الجماعي في دارفور. ووجهت سلطانية "دار المساليت" نداء الي الأمم المتحدة بوضع "دار مساليت" تحت الحماية الدولية وفق البند السابع لحمايتهم من "الإبادة الجماعية والتطهير العرقي"، وطالبوا بإبعاد قوات الدعم السريع من المنطقة، بعد اتهامهم لها بدعم المليشيات المسلحة في ارتكات جرائم والإبادة الجماعية، ولوحوا بالمطالبة بحقق تقرير المصير في حالة إستمرار الوضع الحالي.

وفي شرق البلاد تعاني محلية كسلا من انفلات أمني ونهب مسلح للمواطنين وتتعرض من وقت لاخر الي صدامات قبلية مسلحة متكررة بنتائج قتل وجرح ونهب لإعداد ليست قليلة من المواطنين. وعلي المستوي السياسي والمجتمعي يعاني الإقليم من أنشقاق بين مكوناته السياسية والقبلية المختلفة حول أحقية تمثيل الإقليم. ورغم محاولات الانقلابيين لاحتواء الصراع السياسي بين مكونات "مسار الشرق" المعتمد كطرف في اتفاقية سلام جوبا وبين "المجلس الأعلى لنظارات البجا" و"العموديات المستقلة" لازال الخلاف قائماً والمواقف متباعدة. حيث تطالب نظارات البجا والعمديات المستقلة بإلقاء مسار الشرق واعتمادهم طرفاً في "مشروع أتفاق حول الشرق"، وتلوح بالحكم الذاتي كورقة ضغط على السلطة المركزية لتحقيق أهدافها. وتزايد الاحتقان السياسي بين مكونات الشرق القبلية بعد تقديم "لجنة فنية عليا"، كونها قائد الدعم السريع، تصورات لتخطيط وتثبيت الحدود الإدارية للقبائل وتبعيتها للنظارات المعينه. وفي ظل الوضع السياسي والمجتمعي المتأذم يعتبر ترسيم الحدود علي أساس قبلي تكريساً رسمياً لسياسة الهوية القبلية الاثنية والجهوية الجماعية المتمثلة في الحشد السياسي لللمجموعات المختلفة لتحقيقق أهداف سياسية ومادية. ويحمل هذا الإجراء في طياته دينماكية خطيرة في تصعد النزاع حول الأراضي وحركة التنفل للرعاة والمواطنين في الإقليم.

وبسبب القتل اليومي، وحرق القري وإجبار المواطنين علي النزوح من أراضيهم جاء حصاد الموسم الزراعي للعام السابق في مناطق النزاعات المسلحة ضعيفاً. الأمر الذي دفع مدير وزارة الإنتاج والموارد الاقتصادية لولاية وسط دارفور الي الحديث عن إمكانية حدوث مجاعة حقيقية في الولاية بسب فشل الموسم الزراعي السابق. ويفاقم من الأزمة الغذائية القائمة والمتوقع تزايدها استضآفة السودان لاعداد كبيرة من اللاجئين والنازحين من دول الجوار الإفريقي بسبب الحروب الأهلية وعدم الإستقرار السياسي والجفاف. وحسب افادات "برنامج الغذاء العالمي" التابع للأمم المتحدة يتوقع أن يعاني ثلث سكان السودان من مجاعة حادة عند بداية شهر سبتمبر هذا العام. ولم يتضمن هذا التقدير نشوء الحرب في أوكرانيا، التي تسببت في أرتفاعاً هائلاً لأسعار القمح الذي يعتمد عليه السودان بقدر كبير في سد حاجته من الغذاء. وحسب مصادر يعتمد السودان في سد حاجته من القمح بقدر 87% علي الإنتاج من روسيا، وأوكرانيا.

ويرجع هذا التدهور المريع للأمن المجتمعي والغذائي والسلمي المجتمعي جراء العنف المسلح من قبل منسوبي الحركات المسلحة والملشيات القبلية، وبسبب فشل الأنظمة الأمنية في السيطرة على بسط سيادة الدولة، وتفاقم الظروف المعيشية الي أنقلاب 25 أكتوبر العسكري. حيث ركز الانقلابيون منذ اختطافهم الكامل للسلطة في البلاد كل جهدهم في تثبيت سلطة الإنقلاب، واغفلوا إدارة حكم البلاد، وانفاز بنود اتفاقية السلام المتمثلة في حل جيوش الحركات المسلحة بدمجها في المنظومة الأمنية والعسكرية الرسمية، وتأسيس جيش سوداني مهني موحد قائم علي العقيدة الوطنية، ونزع السلاح الغير مقنن من أيدي المليشيات القبلية، وتترتيب رجوع النازحين واللاجئين إلى مواطنهم الأصلية وتعويض المتضررين منهم، وتحقيق العدالة لضحايا الجرائم ضد الإنسانية.... الخ. ومن أجل تثبيت سلطة الإنقلاب سخر قادة الإنقلاب كل الموارد المالية والكوادر الإدارية المتواجدة في الخدمة المدنية الموالية لهم والمحسوبة علي النظام الساقط، ومؤسسات الدولة الأمنية ووالاقتصادية والإعلامية.

وصرح في هذا الصدد المتحدث الرسمي باسم "المنسقية العامة لمعسكرات النازحين واللاجئين في دارفور" ان "الذين يحكمون الآن إرتكبوا جرائم في دارفور في ظل البشير، لماذا سيحمون الناس الآن". حذلك صرح "الأمين العام للمجلس الاستشاري لقبيلة المسيرية" التي فقدت أعداد كبيرة من منتسبيها في مجازر وحرق لقراها في الفترة الأخيرة ان النزاع المسلح في جبل مون ممنهج لتنفذ أجندة لجهات معينة ولتحقيق أطماع دول أجنبية في المنطقة عبر تهجير المواطنين الأصليين من أجل نهب ثروات المنطقة وتوطين قبائل من دولة تشاد وأفريقية الوسطي والنيجر. وفي نفس المضمار اتهمت المنسقية العامة لمعسكرات النازحين واللاجئين في دارفور "الحكومة الانتقالية" بوقوفها خلف "الإنتهاكات والجرائم الفظيعة والمؤنبة للضمير الإنساني والأخلاقي".(صحيفة الراكوبة الإلكترونية، وقفة احتجاجية أمام القصر الجمهوري تندد بأحداث (جبل مون)، 14.03.2022)، (صحيفة التغيير الإلكترونية، منسقية النازحين:الوضع الأمني... ، 08.03.20221).

وتسبب إنقلاب 25 أكتوبر العسكري في إعادة الاقتصاد السوداني الي حالة العزلة العالمية التي عاشها أكثر من عقدين ونصف جراء حكم نظام المؤتمر الوطني الشمولي. وتتمثل العزلة الاقتصادية في توقف لكل العاملات العالمية البنكية والتموليه، وتوقف كامل للالتزامات المالية لتمويل خطوات السلام من قبل الدول التي دعمت ورعيت اتفاق سلام جوبا. وتكمن أسباب العزلة المالية العالمية للسلطة الانقلابية لما يرتبط بها من تقويض لدستور الفترة الانتقالية، وتعطيلها لمسار الانتقال المدني الديموقراطي المتعدد، وتعطيلها للإصلاح مؤسسات الدولة المالية والعدلية والإدارية لتحقيق الشفافية والحوكمة في عملها، وانتهاكها المروع لحقوق الإنسان ...الخ. في هذا المضمار اشترط مسؤولين من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في أثناء زيارة مشتركة إلى الخرطوم، نهاية شهر أبريل استئناف المساعدات والدعم االمالي وإعفاء الديون بإعادة مسار الانتقال السياسي بتكوين "حكومة ذات مصداقية"، واعربوا عن قلقهم لإعادة منتسبي النظام الساقط في أجهزة الدولة وما يرتبط به من "حدة التوترات في المجتمع السوداني وإعاقة الإصلاحات".

 وبسبب العزلة الدولية توقف الدعم المالي الخارجي علي مستوي تمويل العجز الميزاني والتنموي، الذي حدد ب1,4 مليار دولار من مانحين دوليين مخصصة لدعم الاقتصاد و"مشروع ثمرات" لدعم الأسر الفقيرة لتخفيف الضغط المالي عليها. وبغض النظر عن التداعيات الاقتصادية المتمثلة في العجز العالي في ميزانية الدولة، وتوقف انسياب العملات الصعبة عبر القنوات المصرفية الرسمية، والاحجام عن الاستثمار في البلاد وتوقف تحقيق مشاريع البنية التحتية من طاقة كهربائية وإمدادات لمياه الشرب وتشيد طرق مواصلات واتصالات، والاجتماعية المتمثلة في دعم الأسر الفقيرة، وتحقيق التعليم المدرسي المجاني، ودعم العلاج الصحي... الخ ادت هذه العزلة وتوقف الدعم العالمي عجز كامل للسلطة الانقلابية لتحقيق ترتيبات السلام الأمنية، التي تقدر تكاليفها ب4 مليارات دولار، بجانب تكاليف الترتيبات الاجتماعية والتنموية، والتي حددت بموجب الاستحقاقات المالية في أتفاقية السلام بمقدار 750 مليون دولار سنوياً، تدفع لفترة عشرة أعوام. وتأتي أهمية الدعم المالي الخارجي من خلفية ضمور الاقتصاد السوداني وانهياره التام، وما ترتب عليه من نقصاً حاداً للمصادر المالية وللعملة الصعبة.

وفي ظل الوضع الاقتصادي المنهار، والعزلة العالمية للاقتصاد السوداني، والتزايد السريع لحالة الفقر وفقدان الأمن المجتمعي والغذائي، وتكرار الصدامات القبلية الدموية في إقليم دارفور تعاني الحركات المسلحة جراء مواقف قياداتها الداعم أو المتهادن مع الإنقلاب العسكري، وبقاءها في سلطة الإنقلاب (بعد أن فقد كل مبرراته) من انتقادات حادة وتصدع لقواعدها وداعميها ليس فقط في المناطق المعنية باتفاقية السلام، بل أيضاً علي مستوي القطر. وبسبب الإنقلاب تزايدت الخلافات داخل الحركات المسلحة، والانتقادات للقاده لمشاركتهم في السلطة الانقلابية، وكذلك للاتفاقية برمتها داخل المجتمع السوداني، خصوصاً بين أصحاب المصلحة في مناطق النزاعات المسلحة وفي معسكرات النازحين واللاجئين. وتثبت الانطباع عند كثيراً من المواطنين بأن قادة الحركات المسلحة تهمهم المشاركة في السلطة أكثر من قضايا الوطن والمواطنين في مناطق نشوء حركاتهم. وتتزايد الاتهامات لقيادة الحركات المسلحة بعدم امتلاكهم لرؤية لتحقيق السلام، ولقناعة حقيقية بإرتباط السلام والعدالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية بالدولة المدنية الديمقراطية. وفي هذا السياق ارتفعت الأصوات المنادية بالغاء اتفاقية سلام جوبا أو تعديلها بحيث تنحصر علي مناطق الحرب، وتلبي احتياجات وطموحات أصحاب المصلحة في معسكرات النازحين واللاجئين في الداخل والخارج. ومن أهم المكونات السياسية والاجتماعية التي تطالب بإلقاء اتفاقية سلام جوبا: المنسقية العامة لمعسكرات النازحين واللاجئين في دارفور، الحركة الشعبية لتحرير السودان/قطاع عبد العزيز الحلو، وحركة تحرير السودان/جناح عبد الواحد محمد نور، وتجمع المهنيين السودانيين، والحزب الشيوعي.





shamis.khayal@gmail.com

 

آراء