(وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)
صدق الله العظيم
فإذا صح ماذكرناه في المقال السابق، من أن قوامة الرجال على النساء ثابتة في الشريعة، بما لا يدع مجالاً للشك، فقد ترتب عليها أن تكون المرأة على الربع من الرجل في الزواج، وعلى النصف منه في الميراث، وعلى النصف منه في الشهادة في الأموال، إذ لا حق لها في أي شهادة لها أخرى !! وبناء على القوامة، حرمت المرأة من تولي خلافة المسلمين، ومن تولي منصب القضاء، أو أي منصب يجعل لها رئاسة على الرجال. كما أمرت بالبقاء في البيت، وضرب عليها الحجاب، ومنعت من الإختلاط بالرجال، وحرم عليها مصافحتهم .. وكل هذه الأوضاع، قامت على نصوص من القرآن ومن السنة،كما قامت عليها الممارسة العملية، في دولة المدينة، التي كانت تحت رعاية النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا اراد السيد الصادق المهدي، مناصرة المرأة حقاً، فليس له من سبيل،سوى الإيمان بتطوير التشريع الإسلامي، والدعوة إليه .. والتطوير ليس مجازفة بالرأي الفطير، ولا هو إنكار للأحاديث النبوية، وإنما هو إنتقال من نص فرعي، خدم غرضه في الماضي، خدمة تامة، حتى استنفده، إلى نصأصلي، لم يطبق في الدولة الإسلامية في العهد الأول، لأنه كان فوق طاقة وحاجة المجتمع، في القرن السابع الميلادي. وفي ما نحن بصدده من قضية المرأة، فإنه يجب الإنتقال من آية قوامة الرجال على النساء، الى آية المساواة التامة بينهم، في الحقوق والواجبات .. وهي قوله تعالى (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ومعنى الآية أن للنساء من الحقوق، مثل ما عليهن من الواجبات، حسب العرف السائد. فإذا قامت المرأة بآداء واجب التعلم، حتى درست القانون، وأصبحت قاضية، فمن حقها علينا،أن تكون شهادتها مساوية لشهادة الرجل، وهكذا في سائر الحقوق .. ومعلوم أن العرف دين، ما لم يخل بغرض من أغراض الدين، وخلاصة أغراض الدين،تحقيق كرامة الإنسان.. جاء في الحديث ( أدبني ربي فأحسن تأديبي ثم قال: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين). أما قوله تعالى( وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ)، فهي لا تعني القوامة، كما قال بعض المفسرين، لأنها لو كانت كذلك، لأصبحت الآية متناقضة .. ولكنها تعني أن على قمة هرم الكمال البشري رجل، هو الحقيقة المحمدية، وهو الذي جعل لجنس الرجال هذه الدرجة على جنس النساء، وهذا أمر متعلق بأصل الخلق، ولا أثر له في القانون .. ودون تلك القمة الشماء، فإن المرأة المسلمة أفضل من الرجل الكافر، والمرأة الصالحة أفضل من الرجل الفاسق، والسيدة عائشة رضي الله عنها كانت أفضل من كثير من الأصحاب رضوان الله عليهم.
تعدد الزوجات:
لقد كانت شريعة تعدد الزوجات، شريعة حكيمة، غاية الحكمة في وقتها.. فلقد وجد الإسلام الرجل في الجاهلية، يتزوج العشرة والعشرين، إذ أن المرأة لم يكن لها قيمة، بل أنه ليدفنها حيّة، خوف العار، وخوف الجوع، وليوفر ما يملك للإبن الذكر، الذي يقاتل معه،حين تغير عليه القبائل، أو صعاليكها .. وفي تدريج المجتمع على مكث، وتبصر، أمرت الشريعة بالغاء الزواج التعددي الجاهلي،وحصرته في أربعة، فقال تعالى من قائل (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا). ولقد هدفت حكمة الشريعة،الى تحقيق كرامة المرأة في ذلك المجتمع القاسي، فنسبتها الى الرجل فلأن يكون لها ربع رجل، تكون به موفورة الكرامة، لأنها تضمن قوتها، وحفظها من السبي والعار، أفضل من أن تعيش وحدها، لا عائل يعولها، ولا حامي يحميها، حين تسبى الحرائر، في غارات القبائل، التي ما كانت لتهدأ، إلا لتبدأ من جديد. وكانت هذه الحروب الكثيرة، تهلك الرجال دون النساء، حتى إختل التوازن السكاني، وتهدد جنس الذكور بالفناء .. فكان لا بد من التعدد،ليتواصل التوالد، وتتوازن الصورة .. على أن الشريعة، وهي تسير نحو كمال الدين، وتستصحب كرامة المرأة، قيدت التعدد بالعدل، في قوله تعالى (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً)، ثم قرر الله تعالى رغم إباحته التعدد، أن العدل غير مستطاع، فقال تعالى (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا)، ففهم الفقهاء أن العدل غير المستطاع، هو الحب، إذ لا يمكن لمحب صادق، أن يكون له حبيبان .. ولكن العدل المستطاع، هو في المسائل المادية،وفي المعاشرة الجنسية، وخلصوا أن من يعدل في المسائل المادية، والمعاشرة،مسامح في ميل قلبه، لواحدة من نسائه دون الأخريات .. وهذا الفهم صحيح،إذا كانت الشريعة، هي الكلمة الأخيرة في الإسلام، ولكن الحق خلاف ذلك !! الشريعة مرحلة نحو حقيقة الإسلام، وفي جوهر الإسلام، لا يقبل إلا العدل التام، لأن بعض الميل الذي سمحت به الشريعة، في قوله تعالى (فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) هو ظلم، لم يقبل إلا لضرورة الحاجة الى التعدد، في ذلك الوقت، لأنه كان متعلق كرامة المرأة .. أما اليوم فإن المرأة غير محتاجة لحماية الرجل، لأن القانون يحميهما معاً، ولم تعد الحروب الحديثة، تقتل الرجال دون النساء،مما جعل التوازن السكاني أمر طبيعي، في معظم البلدان، ويمكن للمرأة المتعلمة اليوم، أن تكسب قوتها، وتنفق على عدد من إخوانها الذكور .. فهي فقد أصبحت مساوية للرجل، في نفسها كإنسان، وفي المجتمع كمواطنة. لهذا فإن التعدد لا يحقق كرامة المرأة اليوم، بل يؤكد إهانتها، ومن هنا يجب أن يلغى، ويقوم الزواج على أن المرأة الواحدة للرجل الواحد، فهو كله لزوجته،كما هي كلها له، دون أن يدفع أحدهما للآخر مالاً، ثمناً لقيام هذه الشراكة المتساوية. على أن هذا لن يتم، إلا بما دعا إليه الأستاذ محمود محمد طه،من تطوير الشريعة الإسلامية، من فروع القرآن حيث عدم المساواة بين الرجال والنساء، الى أصول القرآن حيث المساواة التامة بينهم .. إقرأ إن شئت قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).
يقول السيد الصادق المهدي (حق الزوج بأربعة ليس مطلقاً وشرطه العدل المستحيل بنص القرآن. وللمرأة أن تشترط في عقد الزواج عدم الزواج عليها. وعلى أية حال يجب أن يكون إن لزم بعلمها. التعسف في استخدام الحق يوجب قيده. للمرأة أن تطلب أن تكون العصمة مشتركة: أن تطلق أو أن تطلق. والطلاق كالزواج، ومن الأحكام ما يمنع الاستهتار به كما يحدث الآن: "فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِۚ"). وإذا كان التعدد في الشريعة مشروط بالعدل،والعدل مستحيل كما يرى السيد الصادق، يصبح التعدد باطل،لأن شرطه غير ممكن التطبيق!! وهذا غير صحيح، لأن العدل المقبول في الشريعة، هو العدل في المسائل المادية، لا ميل القلوب.. وهذا ممكن، وعلى أساسه مارس النبي صلى الله عليه وسلم،والأصحاب رضوان الله عليهم التعدد.. ولكن مفهوم العدل المناسب لوقتنا، هو العدل التام، الذي لا يتحقق إلا بالزواج من واحدة، لأن الحب فيه هو الاساس، والمحب الصادق لا يمكن أن يحب إمرأتين. وحسب مفهوم هذا العدل، فإن التعدد اليوم باطل، وإن جاءت به الشريعة في الماضي لظروف المجتمع. وما دام السيد الصادق يعتبر التعدد ظلم، فلماذا مارسه وعدد على زوجته الفاضلة ؟! ألا يخشى أن يصيبه المقت الإلهي، الوارد في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) ؟!
مشروع خطوة :
يقول السيد الصادق المهدي (تأسيساً على هذه الدونية فرضت وصاية ذكورية مطلقة على المرأة حتى حرمت من التصرف في نفسها خضوعاً لولي يباح له أن يزوجها بعبارة مجبرتي. ههنا مرافعة مشروعة هدفها أن المرأة من الناحية الإنسانية هي النصف الآخر من الإنسان: "بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ". إنها مؤنث الإنسان مثلما هو مذكر الإنسان. ومن الناحية الإيمانية "أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ". لذلك ينبغي أن تكون المرأة راشدة لتدخل في عقد الزواج وحرة. فإن أي عقد يفترض حرية صاحبه. وكنت أفضل لولا سلطان التقاليد أن يتفق الزوجان أمامنا ونشهد ونشاهد) والسيد الصادق يرى عدم التكافؤ في عقد الزواج، وكيف أن المرأة، التي يجب ان تكون وليّة أمر نفسها في العقد، ليس لها ذلك .. ومع أنه إمام لطائفة دينية، يخضع السيد الصادق المهدي،للتقاليد التي تظلم المرأة، ويقبل بالعقد الذي يحرمها المساواة،ويزوج بتلك المهانة، بناته، وبنات طائفته، وبنات حزبه، ثم يبرر هذا التخاذل عن نصرة الحق، بأنه لا بد أن يتبع التقاليد، التي يراها مفارقة للدين، فيقول (وكنت أفضل لولا سلطان التقاليد أن يتفق الزوجان أمامنا ونشهد ونشاهد) !!
لقد طرح الأستاذ محمود محمد طه، على المستوى النظري، في سائر كتبه، الفكر الديني الذي يحقق المساواة التامة بين الرجال والنساء، ويرفع عن كاهل المرأة، الحقوق المنقوصة، التي جاءت في الشريعة .. وبالإضافة الى ذلك، وإلى أن يتفهم الشعب السوداني، هذه الفكرة الرائدة، ويقيم عليها دولته، طرح الأستاذ محمود مشروع "خطوة نحو الزواج في الإسلام". وهو مشروع يقوم على الشريعة، ولكن في أفضل إجتهاداتها، التي جاء بها السادة الحنفية. في هذا المشروع، يتم الزواج بمهر رمزي واحد جنيه سوداني، وبلا حفلات، ولا أكل، ولا ملابس جديدة، فكل مراسيم الزواج هي العقد، الذي يبدأ بعد صلاة العصر، وينتهي بآذان المغرب !! ثم يكتب في وثيقة العقد، الذي تحضره الزوجة،وتوقع بنفسها عليها، شرط أنها شريكة في حق الطلاق، وأن الزوج ليس له الحق أن يعدد عليها .. وهذا مبدأ التفويض، وهو معروف شريعة وقضاء، وإن كان غير ممارس بسبب التقاليد. ولقد إلتزم الجهوريون، برعاية الأستاذ، الزواج بذلك المشروع، الذيطرحه للشعب السوداني، دون أن يلقي بالاً للتقاليد السائدة ..فكانت أول زيجة تمت على أساسه زيجة ( حسين وكوكب) في أمدرمان في عام 1970م، وآخر زيجة تمت على أساسه، زيجة ( نجم الدين وسجود) في أمدرمان في هذا الشهر من عام 2017م.
لقد قام بعض المدافعين عن السيد الصادق بشتمي، بأقذع الألفاظ، في الاسافير، بدلاً من الرد بموضوعية، على النقد الذي قدمته .. وأنا بطبيعة الحال، لا يمكن أن أجاريهم، لأن كل إنسان إنما ينفق مما عنده. ولا أريد أن ألوم كل أعضاء حزب الأمة، لأني أعلم أن بعض الإخوان المسلمين، المندسين في حزب الأمة، بغرض سوقه للخضوع لحكومتهم، هم الذين يقودون الدفاع المتطرف عن السيد الصادق، بغرض إيهامه بأن الآخرين أعداءه، فلا يستمع إلى نقدهم، ويستمر في تخبطه الفكري والسياسي، مما يضعف حزب الأمة. ومهما يكن من أمر، فإن ما قلته عن السيد الصادق، لا يزال قائماً، لأنه لم يجد رداً موضوعياً، لا من السيد الصادق، ولا من أتباعه .. وإن مثل هذا الدفاع عن السيد الصادق، لا يشرفه كزعيم ديني، أو زعيم سياسي يؤمن بالديمقراطية، التي تتقبل النقد، وتتجه الى مقارعة الحجة، بدلاً من الشتائم والسباب.
د. عمر القراي