اعلم أني تأخرت في أن أمضي بسيرتك بين الناس ناعيا لا لعجز في البيان او عى في اللسان او نضوب في إستجاشة الاحزان لكني استكثرت علي نفسي ان استبكي يراعي فلا يبكي لأن حزني عليك عصي علي التجاوز وجرحي غزير النزف عزيز علي البرء، و نعاك الناعون ممن يفضلونني في المعرفة والصدق والإخاء النادر فأحالوا ظلمة أحزاننا بفقدك الي سيرة عطرة من المناقب والمواقف والعرفان وأنت تمضي في طريق الصدق والتضحيات العظام.
وجاوزت قوافي الرثاء بفقدك طلول التحازن وبراعة النظم لترسم لنا في الفضاءات الممتدة بريقا حيّا من روحك التواقة الي الخلود، وكيف يؤاتي صديقه أمين صبرا من جموح البلاء وقروح الكبد وهو القائل في رثائه:
ولم أر مثلك للصديقِ مؤازراً وقد كان دأبُك للخصيمِ صفوحُ
ولم أر مثلك صادقاً ومصدقاً وقد كان حالُك ناصحٌ وصريحُ
ولم أر مثل الموتِ نقاد أنفسٍ اذا أستُوفِيت بعد المُؤجلِ روحُ
عرفك الآخرون في دروب الصحبة الخيرة من أحبائك وأصدقائك في مدارج الصبا وفصول الدراسة وتحديات العمل العام ومعمعان السياسة ، لكني عرفتك لبرهة قصيرة في عمر الزمان وأنت طريح الفراش الأبيض في مستشفي شاريتيه ببرلين، وان كانت معرفة الرجال في الصحة وفوران الشباب ورغد العيش كنز فقد عرفتك مستشفيا تصارع المرض العضال تكتم آلامك وتستعلي بالصبر و الإيمان علي مكاره المرض ومكامن العلة. وهي ادق اللحظات التي تتكشف فيها معادن الرجال اذ لم أعرفك في زمن الصحة والوفرة وهفهفة الشباب ولكن عرفتك والعلة تأكل جسدك ومشارط الأطباء تنهش في منازع الصبر فيك والجراحات تمضي مغاورها في الكبد الفتيت فما وجدتك إلا متجملا بالصبر ومحتملا بالإيمان ومستعليا بالوعد الجميل من الله تعالي.
عندما رفض الجراح الألماني الشهير مستر نوي هاوس قبول علاجك بوحدته المتخصصة في مستشفي شاريتيه ببرلين لم تيأس وانا آحادثك عبر الهاتف وانت طريح الفراش بلندن، كنت اعجب من نفسي وانا استمع الي صوتك الهاديء المطمئن لأننا كنّا اكثر قلقا وأنت ارسخ ثباتا ووداعة واطمئنانا كأنك تذكر حديث العارف بالله الامام الغزالي وهو يقول نهرب من قدر الله الي قدر الله. لذا لم اعجب من قرارك الشجاع وتصميمك علي مقابلة الطبيب رغم رفضه قبول معالجة الحالة، وقد وجم مستر نوي هاوس وهو يتطلع إليك كأنك اصبته بسحر شخصيتك وحسن منطقك ورباطة جأشك، فقرر التصدي لمهمة الجراحة العاجلة دون إبطاء وهو من أعيا صهيل مراسلاتنا ورجاءاتنا بالرفض والتمنع.
كنت اثبت الناس في مواجهة المرض والصبر علي أدوائه وكان اخوانك الأطباء المتمرسين في معالجة الأمراض المستعصية يشرقون بالدمع وراء حجاب وكنت تسعي مبتسما هازئا من كل الاحتمالات المتوقعة لأنك كنت مشبعا بالإيمان والتقوي ووعد الحق. كان حجر التيمم لا يفارق سريرك الطبي لأنك كنت دائم الحضور ومستغرق الوعي والحس في صلاة وذكر دائمين
كانت الابتسامة المشرقة لا تفارقك وأنت تخرج للتو من العناية المكثفة بعد الجراحة لأنك مستعصم بالله من أسباب الطب وكسوب البشر ، وما ان بدأت العافية تسري في جسدك حتى اخرجت ملفات العمل تقرأ وتكتب وأنت طريح الفراش والكبد الهشيم يسقي بنزفه الانبوب فيحيله الي لون من اشجان الحياة . وكان الانس يسري بين الناس وهم يعودونك للاطمئنان فإذا انت من تخفف عنهم غلواء الاحزان وتحدثهم حديث المؤمن الصابر المحتسب فيخرجون منك وهم اكثر يقينا بأن الله هو الشافي من كل سقم. وكنت انظر إليك وأنت تهش في وجوه الناس وقضايا السودان تحتوش هموم الزائرين والعائدين ويحتد النقاش مع شقيقك النطاسي الاخر وهو يرش علي الإنقاذ رغوة من نقده الحامي فتبتسم وتقر بالأخطاء وتنادي بالإصلاح وكنت اعجب وأنت تعطي ابنك البكر مندور الثقة في ان يقول وينتقد ويحتج فتنصحه بأبوة حانية عن الصدق والإيمان والعمل الخالص لله دون ان تحدد وجهته او تصادر خياراته الشخصية.
زارك كثير من السياسيين جاءوا في مهام عابرة الي برلين منهم النائب الاول السابق علي عثمان محمد طه وجاءك علي الحاج من بون وبينكما سنوات شواسع في كلية الطب والعمل العام، لكن توطدت علاقتك بنخبة صغيرة من اهل برلين لم يعرفوك من قبل ولكن تعرفوا عليك فقط وأنت طريح الفراش فغمرتهم بروحك الانسانية الشفافة وظلوا يسألون عنك حتى قضي الله أمره فرفعوا اكفهم بالدعاء لرجل جاءهم عابرا مثل خاطر المساء فترك فيهم بصمة من روحه الشفافة ومضي في طريق الله. كنت تقول لنا والحديث يتشعب وأنا أتأمل فيك طينة هذا الصبر ومعدن التجاوز وجوهر العرفان بان أبناء كبار الموظفين في السودان لا يتهافتون لمغنم عابر ولا ينكسرون لمغرم مبدد ، كيف لا والطيب صالح وصف والدك بأنه من خيرة التربويين في السودان حيث القي عليهم الدرس في المدارس الثانوية ثم التحق بهم ليدرس معهم الكلية الجامعية وخط بعدها سيرة في البذل والعطاء تتجاوز المألوف في سجلات الخدمة العامة.
يحفظ التاريخ لك انك اول من ناديت بالإصلاح والكلمة كانت تبدو حينها في مطلع التسعين من القرن الماضي كأنها توليا يوم الزحف فما تراجعت عنها وصدعت بها ودفعت ثمن موقفك الباكر منفيا في منصب سياسي في بحر الغزال لأن وجودك في الخرطوم كان يشعل الوعي بحقيقة الانحرافات الباكرة فلم تتأخر او تلتمس الاعذار والتأجيل ، وبعد سنوات من العطاء في بحر الغزال عدت الي الخرطوم وتنقلت في سنار ومدني تخدم قضايا الغبش وأهل المسغبة ببسط الخدمات ، وتقديم الرعاية الأساسية، وبذلت فترة توليك الإمدادات الطبية جهدا وافرا لتوفير الدواء للفقراء.
والمحتاجين وتقديم الأدوية المنقذة للحياة مجانا. وعندما اتهمك صحفي أغراه جهله بكنز الأموال والعقارات قمت بكشف إقرار الذمة بجميع ممتلكات الاسرة ليكتشف الجميع انك لا تملك منزلا بل تسكن في منزل الآباء والأجداد فأنزوى مكشوفا بجهله وغرضه. وعندما توليت مهام الحزب الحاكم بولاية الخرطوم كان جل همك محصور في مكافحة الفساد وفعالية الأداء والرقابة وقدمت نموذجا متميزا للسياسي الحكيم نظيف اليد عفيف اللسان فلم يسمع منك احد بهتان او اتهام او بذاءة او تعدي في القول بل حسنا في الحديث وتجملا في مقتضيات الكلام.
مددت يدك لجميع المناوئين بعد انتخابات ٢٠١٠ وبسطت يدك للأمام الصادق المهدي ومحمد عثمان الميرغني والشيوعيين والبعثيين وغيرهم وقلت لهم لقد فاز الموتمر الوطني لكنه لا يستطيع ان ينزع صكوك الوطنية عنكم لذا فالتعاون من اجل الوطن هو الأدعي والأولي حتي غضب منك أركان الحزب لأنك تريد ان تحتفي بالمعارضين يوم عرسهم لكنك كنت بعيد النظر تري بعين الحكمة وتداوي بالرشد والفطنة ركام السحب التي كانت تعتكر في سماء الوطن.
عجبت ايضا وأنت ترد بأنفة وإلفة تبرعات الأصدقاء والأحباء ممن قدروا المساهمة في كلفة العلاج الباهظة التي تحملتها اسرتك الكبيرة ، وما ان أشتد عود الصحة بعض الشيء حتي تلمست الرأي تستنصح من حولك من المثقفين والمهتمين وأنت تقدم مقترحا حكيما للخروج من الأزمة السياسية بتدشين فترة انتقالية بقيادة السيد رئيس الجمهورية لحل المشاكل العالقة ومن ثم الدعوة لإنتخابات ديمقراطية حرة. لأن هم البلد والإصلاح لم يفارقك لحظات الصحو والغياب.
رأيتك تخرج من المستشفي عقب الجراحة وأنت مليء بالحيوية والتفاؤل والتصميم رغم اوجاع المرض الذي أخذ شيئا من ملامح الجسد العليل لكنه لم يَصْب روحك بثلمة او ينال من عزيمتك قطميرا من مخزون الصبر والتجمل واحتمال البلاء، وعدت الي اهلك في السودان وأنت تهفو ان يسعفك الجسد العليل لتقدم شيئا للبلاد والوطن ، لكن سرعان ما عاودتك الأعراض والوهن فطلب الجراح نوي هاوس ان تعود الي برلين للتو لجراحة عاجلة فعدت وأجريت الجراحة علي عجل لإزالة خلايا استعصت علي العلاج والإزالة واستمسكت بالكبد الرهيف، وكنا اكثر قلقا وأشد حزنا وكنت تدهشنا بالتجمل والصبر وتقذف في قلوبنا كلمات الاحتساب والإيمان، فقد كنت مطمئنا وهازئا بالمرض رغم احتواش الهموم و حدوث كل التقديرات المتوقعة.
حينها ادركت انك رجل استثنائي ليس في صبرك علي المرض ومشارط الأطباء تمضي في جسدك عشرات المرات وأنت تتكبد الانتقال من سرير ابيض الي آخر ولكن رغم هذا الرهق و النزف والجراحات ووهن الجسد لم يطفئ المرض بريق شخصيتك وحضورك البهي وتفكير عقلك الراجح وأنت تقترح الحلول للازمات المستفحلة.
عندما حملته الطائرة من برلين بعد الجراحة الثانية حدثتني نفسي كأنني أراه للمرة الاخيرة فزجرتها علي التشاؤم لكن ابتسامته وإيمانه وحضوره المعنوي الشاخص وهو يلوح في باب المغادرة كان لها اكثر من معني فقد انتبذ الدنيا بزخرفها وخيلها ورجلها وتعلق بالمدي ووعد الحق الذي لا ينقطع، لذا مضي بذات ابتسامته ويقينه وثقته في الله التي ما اهتزت يوما رغم الضيق والمرض والهموم ، لذا يقيني الجازم ان محمد مندور المهدي جاء الي دنيانا كطيف حلم عابر جملها بابتسامته وانسانيته الغامرة وحبه للناس وعمل الخير الذي زرعه أينما ذهب ما استطاع الي ذلك سبيلا ، لم يكن طعانا ولا لعّانا ولا يمضي بعواهن القول او يلقي فضول الكلام ولكنه كان يقول ما يغري في الخير و يجمل بفعله مواطيء مشيه وما تبلغه خاطرة احلامه وملافظ قوله ويسعي بين الناس بما يرجح ميزان الحسنات في الدنيا والآخرة.