احتفالاً بالذكرى الثامنة والثلاثين: حول تقديم الحزب د. النعيم كمحتفل (18)

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم
"إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ"
صدق الله العظيم

حقوق الإنسان –
المثلية والبطل

(أ) حقوق الإنسان
مدخل:

حقوق الإنسان من أعظم إنجازات الحضارة الغربية في المجال النظري، رغم كلما فيها من تخليط.. أما في جانب التطبيق، فهي تُستغَل من قبل الدول القوية ضد الدول الضعيفة..

وحقوق الإنسان الأساسية، هي حق الحياة وحق الحرية، وما يتفرع عليهما من ما هو مكمل لهما.. وتصور الحضارة الغربية للحياة وللحرية، تصور قاصر جدّاً، بل إنّ تصورها للحرية، هو تصور خاطئ وضار.. تصور الحرية في الحضارة الغربية لا يتعدى تصور الحرية في المجتمع، أمّا الحرية الأساسية، حرية الوجود، فهي غائبة تماماً، ولا يمكن تحقيقها في إطار العلمانية.. الحرية بطبيعتها واحدة.. لكن هذه الحرية الواحدة تقع في مستويين أساسيين: الحرية الأولى والأساسية هي حرية الإنسان في الطبيعة – الحرية الفردية.. هل الإنسان في هذا الكون حر أو صاحب إرادة حرة، تتصرف من ذاتها، دون إملاء من أيِّ جهة خارجية أو داخلية؟.. وهل هنالك إمكانية ليكون حراً بهذا المعنى؟.

تقول د. يُمنَى طريف الخولي عن هذه الحرية: " المستوى الأول هو حرية الإنسان بوصفه كائناً في هذا الكون ذي البنية المعينة أزلاً وأبداً، وتلك هي حرية الإنسان في الطبيعة، أو الطبيعة التي هي ذاتها حرية.. إنها الحرية الانطولوجية أو الميتافيزيقية بقدر ما هي الحرية الطبيعية".. الحرية بهذا المعنى هي الأساس لكل حرية أخرى، وهي ما نعنيه عندما نتحدث عن الحرية.. وقضية الحرية هذه في هذا المستوى، مواجهة بعدة مشاكل خطيرة.. وأهم وأكبر هذه المشاكل، هي الحتمية الكونية.. فمعظم المفكرين يرى أنّ الحتمية الكونية تلغي الحرية.. وهذه هي المشكلة التي واجهت الفكر الغربي، مع العلم الكلاسيكي –علم نيوتن– الذي ظل قائماً حتى بداية القرن العشرين.. فهذا العلم يقوم على الحتمية الطبيعية بصورة حاسمة.. تقول د. يُمنَى: "إنّ مشكلة الحرية في هذا المستوى الأول، أي الحرية في الطبيعة لا تتأتّى إلا من افتراض مثل تلك الحتمية التي تلغيها، سواء أكانت دينية أم فلسفية أم علمية.. الخاصية المشتركة بين هذه الصور جميعاً للحتمية هي أنّ حرية الفرد في الاختيار، وهم قائم على الجهل بالحقائق".

أمّا الحرية في المستوى الثاني، وهي الحرية في المجتمع، فهي في الواقع عدة حريّات، تقول د. يُمنَى: "للحرية في المستوى الثاني صور عديدة وعوائق شتى، حسب المنظور والمنطلق، إنها حريات بعدية، عينية، تعددية نسبية تطورية جزئية، كالحريات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والشخصية والدينية والفنية والعلمية والفكرية والأكاديمية والاعلامية"..
إنها الحريات التي يتيحها المجتمع لنشاط أفراده، في المجالات المذكورة.. فالمجتمعات تتفاوت في إتاحة هذه الحريات وعدم إتاحتها.

باختصار الحرية، هي حرية الإرادة البشرية والفكر البشري، من كلما يقيدهما، أو يربطهما بالحاجة إليه، سواء أن كان هذا القيد يأتي من الداخل –من النفس البشرية– أو من الخارج.. فالحر في هذا المستوى هو الإنسان الذي تحرر من استعباد الأشياء له.. وبهذا التحرر يحقق الإنسان فرديته.. ويكون صاحب إرادة نافذة، ما يريده يكون، يقول تعالى في الحديث القدسي: "فإن سلمت لما أريد كفيتك ما تريد".. ويقول في القرآن: "لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ".

فلسفة الحرية في الحضارة الغربية هي الليبرالية.. وهذا في مجال التنظير، ومجال التطبيق.. وبالطبع الليبرالية فلسفة عَلمانية.. الليبرالية لا تتحدث عن الحرية الأولى –الحرية في الطبيعة، وانما هي فقط تتحدث عن الحرية الثانية –الحرية في المجتمع.

والليبرالية تقوم على مبدأين: المبدأ الأول والأساسي هو الفردية، وهي تعني أنّ الفرد مالك لذاته.. والمبدأ الثاني الحرية.. يقول لوك: كل إنسان بصفة طبيعية مالك وحيد لقدراته الخاصة وشخصه –مالك مطلق، لا يدين للمجتمع بشيء– خاصة أنه مالك وحيد لقدرته على العمل.. واضح جداً أنّ الملكية هي جوهر الفردية عندهم.. وللملكية أهمية خاصة جداً في الليبرالية، خصوصاً بالنسبة للإقتصاد الليبرالي.. فما يحرك الفرد للعمل، إنما هو مصلحته الخاصة، هذا بصورة عامة، وهو أوكد في النظام الإقتصادي الليبرالي الذي يقوم على المنافسة.. يقول هوبز: البشر أساساً آلات تقوم بعملية طرح لمقدرات الألم الممكن من الفائدة الممكنة.. فالسلوك الإنساني، على سبيل المثال يهدف إمّا إلى الكسب أو إلى المجد، أي أنّ الدافع وراء سلوكنا ليست محبة رفاقنا، بقدر ما هو حبنا لأنفسنا.. المنفعة الخاصة، هي القيمة الأساسية في الفلسفة الليبرالية، وهي وحدها التي من أجلها يعمل الإنسان.. وهذا عندهم مرتبط بالطبيعة البشرية.. ولما كانت موارد الطبيعة محدودة، ولا تكفي للجميع، أصبحت المنافسة لازمة، وهي لمصلحة الفرد، وعندهم هي بصورة غير مباشرة لمصلحة الجماعة.. يقول د. ياسر قنصوة عن ارتباط الحرية بالفردية في الفكر الليبرالي: "الإنسان هو مالك نفسه، إنما يملكه هو إياه وإنّ جوهر الإنسان هو حريته في التصرف كما يشاء في ما يملك.. وهي حرية لا تقيدها إلا تلك القواعد اللازمة لضمان الحرية نفسها للآخرين".. في نفس المعنى يقول جون ستيوارت ميل في كتابه (عن الحرية) ما نصه: "فسلطة المجتمع التي يمثلها سيادة العرف، وسلطة الحكومة التي يمثلها القانون هما ما يحملاننا على تقرير مبدأ واضح وبسيط، وهو: لا يجوز التعرّض لحرية الفرد إلا لحماية الغير منه، أو منعه من الإضرار بغيره، فهو الغاية الوحيدة التي تبرر السلطة التي تحكمها، وتنتفي دونها كل غاية وإن كانت لحماية الذات، فلا يجوز إرغام الفرد على انتهاك سلوك معين بحجة حمايته من الإضرار بنفسه أو ماله".

إنّ مفاهيم الفردية، والحرية الفردية، وحتى الفرد في نفسه، ومفهوم الأنا والمنفعة، هي السبب الأساسي، في جميع الإنحرافات الخطيرة جداً في الحضارة الغربية.. ويرتبط بمفهوم الحرية الفردية والملكية مفهوم حرية الجسد.. فعندهم جسدي هو ملكي أتصرف فيه كما أشاء، ولا يحق لأحد أن يعترض على تصرفي.. من هنا جاءت كل الإنحرافات في السلوك الجنسي – للتفاصيل يمكن مراجعة كتاب (الحرية: بين الإسلام والحضارة الغربية)..

هذا مدخل ضروري للحديث عن مفهوم حقوق الإنسان في الغرب التي يتبناها د. النعيم، خصوصاً في مجال السلوك الجنسي، وبصورة أخص في مجال المثلية.. فد. النعيم من المشاهير في مجال حقوق الإنسان وهو يقول: "كان لديّ أيضاً احساس بالصراع والتناقض الداخلي، بين انتمائي كمسلم وبين رغبتي في تحقيق أشياء أخرى في حياتي، كأن أكون ناشطاً وداعية حقوق إنسان.. وقد قادتني محاولة التوفيق في هذا الصراع إلى دراسة حقوق الإنسان، حيث كنت في البداية أفكر في كيفية تحقيق التوفيق بين الإسلام وحقوق الإنسان.. وفي مطلع الثمانينات من القرن الماضي انحزت إلى جانب حقوق الإنسان كمبدأ أولي، وثابت، ومسلم به.. كما ترون فإنّي أغير رأيي فعلا، وأعتقد أنّ هذا شيء صحي جداً لأن يفعله المرء".1..

تغيير الموقف يكون صحياً إذا تمَّ فيه الإنتقال إلى ما هو أصح وأكمل.. لكن الإنتقال من ما هو أكمل، إلى ما هو دونه فليس علامة صحة، وانما هو علامة مرض حقيقي.. لو حصرنا أنفسنا فقط في مجال حقوق الإنسان الحضارة الغربية لا يمكن أن تحقق حقوق الإنسان وذلك لإعتبارات أساسية أوّلاً: هي لا تعرف الإنسان، ولا تملك أن تعرفه.. فهي فقط تعرف البشر، وهم حسب الفكرة مرحلة دون الإنسان.. وحتى في إطار البشر هي لا تملك أن تحقق الإنسان، لأن الإنسان في هذا المستوى هو من يؤنسن حيوانه الداخلي عن طريق سيطرة الفكر على الشهوة.. والحضارة الغربية تعمل عكس ذلك تماماً، ففي مفهوم الليبرالية للحرية الإنسان يفعل ما يشاء طلباً لمنفعته الخاصة وهي دائماً منفعة مادية، فهنا العقل لا يسيطر على الشهوة وإنما العكس الشهوة تسيطر على العقل وتسيِّره لتحقيقها.. ثانياً: لا يوجد أي دافع غير الدافع المادي، يجعل الفرد يضحي بمصلحته المادية في سبيله.. وهذا يجعل الأفراد بصورة دائمة يعملون لمصلحتهم المادية.. وبذلك تنهزم القيم بصورة نهائية.. ثالثاً: الأخلاق في الحضارة الغربية لا يمكن أن تكون أخلاقاً موضوعية، بحكم إطار التوجيه.. فالأخلاق في الحضارة الغربية هي أخلاق ذاتية، كما سبق أن تحدثنا عن الموضوع.. فهي لا تقيد الشهوات والرغائب، وانما تُطلِق لها العنان..

فلهذه الإعتبارات لا يمكن في الحضارة الغربية الإنتقال من الأنانية السفلى الـ(أنا)، إلى الأنانية العليا الـ(أنت).. مفهوم الأنانية العليا هذا لا وجود له في الحضارة الغربية، وبه وحده تتحقق إنسانية الإنسان من خلال التسامي في القيم..

فد. النعيم ترك الإنسان وإنسانية الإنسان، وذهب يبحث عنهما في غير مظانّهما، وهيهات.. فلم يجد إلا التيه.. والإرتكاس نحو الحيوانية وأكبر مظهر لهذا الإرتكاس هو المثلية.

المثلية في الحضارة الغربية، المعاصرة هي حق من حقوق الإنسان!! وهذا خطأ شنيع، يرجع إلى مفهوم الملكية الفردية والحرية الليبرالية.. بل كل صور الملكية معوقة لإنسانية الإنسان وأكبر هذه الصور وأخطرها هو ما في الإقتصاد.. فالإقتصاد الليبرالي، هو ما تقوم عليه الرأسمالية.. وأخطر إنحرافات الإنسان، التي تبعده عن إنسانيته ترجع إلى النظام الرأسمالي، الذي يجعل الأفراد، والجماعات، يكرسون حياتهم للجري خلف الملكية الفردية والتوسع فيها، والإنشغال الدائم بها، وهذا ما يصرفهم تماماً عن الإنشغال بإنسانيتهم، التي تقتضي فيما تقتضي التحرر من الملكية والتحرر من الأشياء المادية التي تسيطر علينا، وهذا من المستحيل أن يتم إلا عن طريق العبودية لله التي فيها يتخلص الفرد من رقّ الأشياء.. ومنهج العبودية هو (طريق محمد) صلى الله عليه وسلم، وهو المنهج الذي لا منهج غيره لتحقيق إنسانية الإنسان..

فالمنهاج يقوم على التخلق بأخلاق الله الواردة في القرآن، عن طريق تقليد المعصوم الذي جسَّد هذه الأخلاق في حياته.. هذا هو السبيل الوحيد لتحقيق إنسانية الإنسان، وقد تحول النعيم منه إلى مجال يستحيل فيه تحقيق إنسانية الإنسان.
حقوق الإنسان في الحضارة الغربية، موضوع مسيَّس.. فالدول القوية تخرج عن مجال حقوق الإنسان حتى في مجال حق الحياة والحرية.. ولا يستطيع أحد أن يسألها.. فلا توجد أيّ جماعة حقوق إنسان استطاعت أن توقف غزو أمريكا للعراق، ولا حتى أن تدينها إدانة مؤثرة..

واليوم لم تفعل جماعات حقوق الإنسان أي شيء لوقف الغزو الروسي لأوكرانيا، وهي بالطبع لا تستطيع أن تفعل.. كل ما تركز عليه منظمات حقوق الإنسان هي المجالات الهامشية والدول الهامشية، ويحظى موضوع المثلية بأكبر نشاط بالنسبة لجماعات حقوق الإنسان، وبالنسبة للنعيم خاصة.. الدول الكبرى تعمل على فرض المثلية على كل المجتمعات على اعتبار أنها حق من حقوق الإنسان، وهذا يؤكد أنّ الغرب في الواقع يفرض ثقافته على الدول والشعوب الأخرى من خلال موضوع المثلية في حقوق الإنسان.. هم يتكلمون عن الحرية ويفرضون على الآخرين ما يعتبرونه أسوأ وأقبح الجرائم!! في الحصيلة النهائية، ومن الناحية العملية موضوع حقوق الإنسان القائم الآن لا علاقة له بالإنسان وحقوقه، وانما هو نشاط سياسي، يكرس هيمنة الأقوياء على الضعاف.

لا مجال لتحقيق حقوق الإنسان، إلا بعد مجيء الإنسان.. والإنسان في الدين هو غاية كل الأكوان، وهو خليفة الله في الأرض.. يقول تعالى: ((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)).. هذا الخليفة هو الإنسان، وهو في الملكوت، يقول تعالى: ((لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ فِيٓ أَحۡسَنِ تَقۡوِيمٖ * ثُمَّ رَدَدۡنَٰهُ أَسۡفَلَ سَٰفِلِينَ)).. ومن أسفل سافلين بدأت المسيرة منذ زمن طويل نحو (أحسن تقويم) – نحو الإنسان.. يقول تعالى: ((كَمَا بَدَأۡنَآ أَوَّلَ خَلۡقٖ نُّعِيدُهُۥۚ)).. وكان أول الخلق هو الإنسان في أحسن تقويم.. والإعادة هي الرجوع إلى تحقيق الإنسان في أحسن تقويم هنا في الأرض في الجسد، بعد أن كان في الملكوت في الروح.. هذا هو مجال تحقيق الإنسان وحقوق الإنسان، وهو ما تدعو له الفكرة الجمهورية، التي انصرف عنها د. النعيم إلى ما هو دونها بكثير جداً.

أرى أن هذا مدخلاً ضرورياً للحديث عن المثلية عند د. النعيم، وعلاقتها بحقوق الإنسان.

يتبع...

رفاعة
في3/3/2023م

المراجع:
1. من محاضرة للنعيم في أحد المؤتمرات منشورة، مع مداخلات المناقشين في موقع جامعة ايموري، تحت عنوان (حقوق الإنسان والدين وضرورة المشاريع العالمية) إصدار عبدالله أحمد النعيم. المحاضرة نشرت مبوبة على ثلاثة عناوين هي (مشكلة الشرعية الثقافية) و (السودان: دراسة حالة الصراع) و (إعادة تشكيل الدعم غير الغربي لحقوق الإنسان)

 

آراء