احتفالا بالذكرى الثامنة والثلاثين .. حول تقديم الحزب د. النعيم كمحتفل (6)

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم
" اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ "
صدق الله العظيم

القداسة والتفكيك

1. يقول د. النعيم: "أنا في سبيل رفع القداسة عن أي فكر أو عمل بشري، وخصوصاً عندما يدّعي له أصحابه قداسة الدين باسم الدولة الإسلامية".1

2. ويقول: "ووجهة نظري في ذلك هي أن الشريعة وجهة نظر إنسانية.. وبعبارة أخرى، الشريعة علمانية. وأحد المواقف التي أحاول أن أدعمها هو رفع القداسة عن مفهوم الشريعة، واعتبارها نتاجا للتطور التاريخي والتجربة التاريخية. إن الشريعة ليست مقدسة.. إننا نتحدث عن الدين كشيء مقدس، ولكن المقدس عندما يدخل في العقل البشري، ما عاد مقدسا".2

3. ويقول: "ليس هناك نص مقدس، نحن نتكلم عن القدسية، وعن القرآن منزل، ولكن عندما يدخل القرآن العقل والتجربة البشرية ما عاد نص مقدس)3..

لقد تحدثنا عن هذه النقطة وقلنا أن القرآن هو القرآن في جميع الحالات، وأنه في الصدور أكمل منه في السطور.. إن غرض النعيم، بحديثه عن رفع القداسة، محاربة الدين.. وهو قد ذكر أن النص الديني مثله مثل أي نص آخر.. وحديثه عن رفع القداسة ليس أكثر من نقل عن كُتَّاب ما بعد الحداثة الذين يحاربون الدين.. وفي هذا الصدد ننقل قول رورتي، الذي جاء فيه: "كان التحديث هو مشروع نزع الألوهية عن العالم.. وهو يعني ألا ينسب الإنسان صفة القداسة لأي شيء في الكون، وأنه لا حاجة لتجاوز المعطى المادي.. فالإنسان موجود في العالم المادي، لا يتجاوزه، والعالم المادي (الزماني المكاني) هو مستقَر كل القوانين التي يحتاجها الإنسان.. ويذهب إلى القول: إن الحضارة العلمانية الحديثة لن تكتفي باستبعاد فكرة المقدس أو بإعادة تفسيرها بشكل جذري، وإنما ستهاجم الذات الإنسانية نفسها كمصدر للحقيقة، فهي ستهاجم فكرة (تكريس الذات للحق..[الحقيقة])" .

إن أسوأ ما نقله د. النعيم عن ما بعد الحداثة، موضوع (التفكيك).. فقد أخذ الموضوع وطبَّقه على الفكرة، وعلى الدين – وقد أشار إلى ذلك الأخ أحمد مصطفى حسين والأخ خالد محمد الحسن وآخرون.. ومن أهم مبادئ التفكيك موت المؤلف، وغياب المركزية، جاء في هذا الصدد: "إن المعرفة في حد ذاتها كيان متغير، ودائم التحول، لأن العالم الخارجي، الذي يرتبط به الوجود، في حالة تحول، وتغير، مستمرة. لكن تحقيق المعرفة بهذا العالم المتحول والمتغير يفترض، فلسفياً، وجود مركز ثابت، يرى دريدا أن له أسماء مختلفة، عبر تاريخ المعرفة الإنسانية مثل المركز الثابت.. مركز الوجود، الجوهر، الكينونة، الحقيقة، الوعي، الله، الإنسان.. وهي تسميات تشير في رأي دريدا إلى (المدلولات العليا)، التي تمثل أرضية ثابتة تقف فوقها متغيرات العالم الخارجي الذي يمدنا بالمعرفة.. وهذا المركز الثابت، هو ما يرفض المشروع التفكيكي الاعتراف بوجوده". 1 ص 301..
يقول دريدا: "في عصر خيَّم عليه الشك، تفقد المراكز المرجعية، كالعقل، والإنسان، والوجود، والله، قيمتها التقليدية.. والنتيجة؟ دلالة لانهائية، ومعنى مراوغ، وحضور في غياب وغياب في حضور، وتكسر الوحدة، والتشرذم، والانتشار". 1ص 345
يمكن مراجعة موت المؤلف عند د. النعيم، في إبعاد فاعلية الله.. والنسبوية التي تبعد ما هو كلي ومشترك، وتبعد المركز، كما تبعد العقل الموضوعي كمرجع ثابت، وبصورة خاصة إبعاد الأستاذ محمود كمؤلف، من أن يكون المرجع لأفكاره، بالصورة التي تجعل هذه الأفكار مفتوحة لكل تفسير يمكن أن يخالف ما يقوله المؤلف الأساسي.

يقول حمودة: "إذا كان المؤلف في استراتيجية التفكيك قد اختفى بموته بمجرد انتاجه للنص، ومن ثم لا يستطيع تحقيق الدلالة في ضوء قصدية لا وجود لها، وإذا كان النص ليس مغلقاً أو نهائياً، بل مفتوح أمام القارئ يدخله من أي زاوية يشاء، فماذا يبقى من النص إذاً؟ لم يتبق لنا الكثير، بمعنى، وتبقى لنا كل شيء، بمعنى آخر، وهو اللغة ونظام العلامة على وجه التحديد".1 ص345
ولكن هل اللغة تحدد المعنى، عند التفكيكيين؟! الإجابة الواضحة، والمختصرة، لا!! يقول هيليس ميللر أحد أقطاب التفكيك: "إن فكرة الاستخدام الإحالي الحرفي للغة referential مجرد وهم نشأ عن نسياننا للجذور المجازية للغة. إن اللغة منذ البداية أكذوبة". 1 ص 345

إن الخطاب التفكيكي، يقوم على عدم الإنتظام، والتقطيع وعدم الإتصال، ورفض النظرة الكلية، ورفض وجود مركز، ورفض وجود ثابت حتى بالنسبة للمعنى، أفضل تعبير عنه هو قول إمام التفكيك دريدا، أنه كولاج/ مونتاج يعني جبة درويش مرقعة، فيها الرقع مختلفة الأشكال والأحجام، كما أنها مختلفة الألوان، دون تنسيق، فدريدا يرى أن الكولاج /مونتاج هو الشكل الأساسي في الخطاب ما بعد الحداثي، "والتنافر الداخلي في ذلك الخطاب (أكان في الرسم التشكيلي، أو في الكتابة، أو في العمارة) يمنحنا، نحن متلقي النص أو الصورة، الحافز (لإنتاج دلالة لا تكون أحادية ولا مستقرة).. ومنتجو النصوص (الأعمال الثقافية)، ومستهلكوها يتشاركون معاً في انتاج الدلالات والمعاني". 2!! ص 73..

يشبهون ذلك بالإنتاج والإستهلاك.. فالمنتج إنما ينتج المواد الخام، تاركاً كل العمل مفتوح للمستهلكين لإعادة جمع هذه العناصر بالطريقة التي يرغبون فيها.. أما تأثير ذلك فهو كسر سلطة المؤلف في تحديد المعاني.. مفكرو ما بعد الحداثة عموما، ضد أي نظرة موحدة للعالم، أو أي نظرة كلية، وهم يتساءلون: "طالما أننا لا نستطيع، كما يشدد مفكرو ما بعد الحداثة، أن نطمح إلى أي تمثيل موحد للعالم، ولا تصويره كلاً مشتملاً على روابط وتمايزات وليس مجرد شظايا في حالة تغير مستمر، فكيف يمكننا إذاً أن نطمح إلى العمل بصورة متسقة إزاء العالم؟ الإجابة ما بعد الحداثية ببساطة، هي أنه طالما أن كل صورة متجانسة إما قمعية أو وهمية، (ومحكوم عليها بالتالي أن تتبعثر وتنكسر)، فعلينا بالتالي ألا نحاول الإرتباط بأي مشروع له طابع كلي. وهكذا تغدو الذرائعية (كما تمثلها البراغماتية)، هي الفلسفة الوحيدة الممكنة للسلوك". 2 ص 75.. علينا أن نتذكر قول د. النعيم: "لا أنا (متفائل براغماتي).. أنا مفتوح العينين، وعارف بمكامن السلطة والجشع في الطبيعة البشرية. إن لم أكن متفائلا، فمعنى ذلك أني أستسلم للجزء المتسفل من الطبيعة البشرية".4

إن أكثر ما يهمنا في تفكيك د. النعيم هو موت الكاتب، وإطلاق يد القاريء، يفسر النص كما يشاء، مع الإبعاد الكلي للمعنى الذي يريده الكاتب وقصديته.. وهم يسمون ذلك (اللعب الحر) حر من أي قيد، بما في ذلك لغة النص .

أسوأ جوانب التفكيك التي أخذ بها د. عبدالله، تفكيك الأخلاق!! والتفكيكيون يسمونها أخلاق الصيرورة، وهي أخلاق ذاتية تقوم على رغبة صاحبها – سنرى ذلك عند د. النعيم.

لقد بدأت التفكيكية كنظرية نقدية، ثم أصبحت فلسفة عامة، وانتشرت انتشارا واسعا في الجامعات الأمريكية، واصبحت هي الموضة السائدة، وواكبها بعث جديد للبراغماتية، ولكن منذ بعض الوقت أصبحت التفكيكية في انحسار.

لقد تعرضت التفكيكية إلى نقد كبير.. وجاء النقد الأساسي من مدرسة فرانكفورت، وهو في مجمله يركز على الفوضى التي خلقها التفكيك، دون أن يقدم التفكيك أي بديل.. يقول د. حمودة:
لقد جاء التفكيك لينسف كل القواعد والقوانين ويعطي الدوال حرية اللعب الكامل منفصلاً عن الدال، ويصبح للقارئ الحق في أن يفسر العلامات بالمعنى الذي يشاء.

ويعلق اشتاينر على خطورة الاعتماد على تفسيرات القراء للنص بقوله: "إن ردود أفعالهم تتغير بتغير الثقافة، وكل قراءة جديدة في وسط ثقافي متغير، تنتج رؤية جديدة للعمل، ومن هنا فإن دراسة الأدب من وجهة نظر القارئ سوف تأخذ دارسي الأدب إلى نسبية تهدد هوية العمل ذاتها".1 ص 320
والتفكيكية، متهمة، بأنها نظرية تقوم على أيدولوجية تخدم الرأسمالية في طورها الأخير، الذي يقوم على حرية السوق، ونظرتها للإستهلاك كغاية في ذاته - النزعة الإستهلاكية.
وكما رأينا من أقوال د.النعيم، عمليا التفكيك لا ينحصر فقط في مجال النقد والفلسفة، وإنما يطال الدين نفسه.. فقد طبق د. النعيم منهج التفكيك، ليفكك عرى الإسلام، عروة عروة.. انطلق د. النعيم داخل الإسلام ليهدم كل مبادئه الأساسية، وقيمه الأساسية، وباسم الإسلام نفسه.
كما أن د.النعيم، في علمانيته، يطبق بعض مبادئ ما بعد الحداثة مثل: البراغماتية التي بعثت من جديد في إطار ما بعد حداثي.. والنسبوية في العلم والأخلاق، والذاتية والنقد النسبوي المتطرف، وأخلاق الصيرورة، وغياب المركز، والفردية المتطرفة التي تنكر وجود المجتمع.. وعدم اعتبار التاريخ، والمستقبل، وقبول الواقع كما هو، وجعله معياراً- المنظور التاريخي عند النعيم.. وتغييب المعايير الثابتة، وتغييب النظرة الكلية، والتفكير الشمولي.

الجزء السادس أعلاه عبارة عن مختصر لمقالة كتبتها ونشرتها بموقع سودانيز اونلاين بتاريخ 15/9/2012

مراجع أقوال د. النعيم:
1.صحيفة أجراس الحرية، لقاء أجرته لبنى عبدالله، 2008م.
2.من محاضرة عنوانه (من هو الإنسان في حقوق الإنسان) ألقاها النعيم في المؤتمر الذي انعقد في جامعة هارفارد بعنوان (Rethinking the Secular) في شهر أكتوبر 2007:
رابط المحاضرة:
Ref: http://www.hds.harvard.edu/cswr/resourc ... nnaim.html
3.ندوة أجراس الحرية بمركز الخاتم عدلان 2008م..
4.
Ref: http://www.thestar.com/News/Ideas/article/438947

A champion of secular Islam looks to harness 'heresy', Published On Sat Jun 7 2008, Lynda Hurst Feature writer
مراجع أخرى:
1.المرايا المحدبة: من البنيوية الى التفكيك، د. عبدالعزيز حمودة
حالة ما بعد الحداثة: 2.بحث في أصول التغيير الثقافي، ديفيد هارفي

يتبع...

رفاعة
في 3/2/2023م

 

آراء