احداث 1924هل هي محاولة لانتفاضة شعبية محمية بالسلاح؟ أم هي حركة كفاح مسلح قادها أبناء الهامش.

 


 

 

(مرورمئة عام على احداثها )
إعداد: ا.د عادل علي وداعه (جامعة سنار)
تتعدد وتتنوع وسائل واليات التغيير السياسي فمنها الانتفاضة الشعبية المحمية بالسلاح، والانتفاضة الشعبية السلمية، والكفاح المسلح المباشر، والحل السياسي عبر الحوار والتفاوض، مع الأخذ في الاعتبار أن آلية التغييرتخضع لطبيعة الصراع السياسي والاجتماعي وتقديرات القوى التي تتبناه في الظرف التاريخي المعين. فالانتفاضة الشعبية المحمية بالسلاح لها شروطها الضرورية التي تكمن في تكامل العمل الشعبي والجماهيري مع العمل المسلح، فهي عمل جماهيري ثوري مسلح أو له فصيل مسلح يهدف إلى تفتيت واضعاف قدرات النظام والاجهاز عليه وإقامة البديل الجديد.
وفي السودان تمكنت الادارة البريطانية الإستعمارية من قمع الحركات المناهضة لها والتي اندلعت في الفترة 1900-1920متخذة الطابع الديني والقبلي لكونها حركات متفرقة لم يكن بينها تنسيق ولم تكن مؤهلة سياسيا وعسكريا لاسقاط الاحتلال، لافتقادها للبرنامج الوطني الذي يلبي طموحات الجماهير، واستنادها على شريحة اجتماعية ضعيفة أدت دورها في ظروف تاريخية مغايرة وهذا ما سهل على الحكومة مهمة القضاء عليها بسهولة ويسر.
وفي إطار سعيها لبناء الدولة السودانية الحديثة اتخذت الادارة البريطانية جملة من السياسات الاقتصادية والتعليمية كان لها الأثر البالغ في رفع الوعي الاجتماعي، وذلك بافتتاح عدد من المدارس والمعاهد وتأسيس كلية جامعية في الخرطوم الأمر الذي أدى إلى شيوع التعليم الحديث والذي شكلت مخرجاته البشرية قاعدة متينة لمقاومة الاستعمار ،فضلا عن السياسات الاقتصادية المتمثلة في إنشاء مشروع زراعي في أرض الجزيرة ونهوض الحركة التجارية واتصالها بالأسواق العالمية، وربط البلاد بشبكة خطوط للسكك الحديدية وتشييد ميناء بورتسودان في عام 1909،فكان لهذه السياسات الدور المحوري في نمو وتطور الحركة الوطنية في السودان.
ومما لا شك فيه ان للحرب العالمية الأولى آثارها على حركات التحرر الوطني في بلدان العالم الثالث، فنقاط الرئيس الأمريكي ولسون التي بشر فيها شعوب المستعمرات منحها حق تقرير المصير، وقيام الثورة العربية المسلحة في عام 1916 بقيادة الشريف حسين بن علي والتي أدت إلى تزايد الشعور القومي لدى العرب ومطالبتهم بالاستقلال، وانتصار الثورة الاشتراكية في روسيا في أكتوبر 1917،إضافة إلى تصاعد الحركة الوطنية المصرية وانطلاق ثورة 1919 بقيادة سعد زغلول، كلها تطورات ألقت بظلالها الإيجابية على سير الأحداث في السودان فنشات الجمعيات السرية نتاجا لواقع سياسي جديد يقترن بالاوضاع السائدة والتي تحتاج إلى دقة في التنظيم والترتيب، وأهم هذه الجمعيات وابقاها أثرا جمعيتا الاتحاد السوداني واللواء الأبيض.
جمعية الاتحاد السوداني:
تأسست في ام درمان في عام 1920 بواسطة عبيد حاج الأمين وتوفيق صالح جبريل وسليمان كشة وابراهيم بدري ومحي الدين جمال ابوسيف، وجميعهم أعضاء في نادي الخريجين بأم درمان والذي شيد في عام 1918،وانضم إلى الجمعية في بواكير عهدها كل من عبدالله خليل وخلف الله خالد ومحمد صالح الشنقيطي وخليل فرح وتوفيق البكري وآخرين، وجمع بين هؤلاء واولئك هواية قراءة الأدب والنقد والصحف والمجلات المصرية والاستماع للشعر والموسيقى وانحصرت اهداف ومبادىء الجمعية في نقدها للسياسة البريطانية في السودان والدعوة لوحدة وادي النيل شماله وجنوبه،وقام نشاطها على السرية المطلقة معتمدة على نظام الخلايا الحزبية صعودا إلى اللجنة المركزية والتي اصبح عبيد حاج الأمين قائدها ومفكرها الأول.
وتتلخص أشكال العمل الجماهيري للجمعية في كتابة المنشورات السرية واتقان توزيعها، واقامة الندوات والمحاضرات الأدبية والمهرجانات الثقافية في نادي الخريجين واستغلال ذلك النشاط لابراز أهدافها السياسية، فكانت جمعية الاتحاد السوداني تنظيما سياسيا حديثا مثل تكوينها نقلة نوعية في ساحة العمل السياسي والوطني. وبعد مرورثلاث سنوات من العمل السري الشاق اندلع صراع في داخلها بين تيار ثوري يقوده عبيد حاج الأمين ويدعو للعمل الجماهيري العلني، وتيار آخر معتدل يعطي الأولوية للبناء التنظيمي والاستمرار في العمل السري والمثابرة عليه، وفي نهاية المطاف تمكنت المخابرات من اختراق الجمعية الأمر الذي أدى إلى حلها.
جمعية اللواء الأبيض:
تكونت في أواخر عام 1923 نتيجة للانقسام الذي وقع في جمعية الاتحاد السوداني، فخرج انصار التيار المتشدد واعلنوا عن تنظيم أنفسهم في جمعية جديدة قام هيكلها التنظيمي على نظام الخلايا، وكان عبيد حاج الأمين وعلي عبداللطيف من أبرز قادتها.
ولد علي عبداللطيف في وادي حلفا في عام 1896 عندما كان والده يعمل جنديا في الجيش المصري،وينحدر والده من جبال النوبة وتنتمي أمه إلى قبيلة الدينكا،وانتقلت الأسرة إلى الخرطوم حيث تلقى علي تعليمه فيها والتحق بالمدرسة الحربية وتخرج ضابطا برتبة ملازم في عام 1917،وتنقل في مراكز الجيش المختلفة فعمل نائبا للمامور في ودمدني، والتي أسس فيها سرا جمعية إتحاد القبائل السودانية ويعد هذا مؤشرا على نمو وعيه الوحدوي، وفي مايو 1922 كتب مقالا إلى جريدة حضارة السودان التي يرأس تحريرها حسين شريف بعنوان(مطالب الأمة السودانية )طالب فيه بمنح السودان حق تقرير مصيره وهاجم السياسة البريطانية متهما إياها بالسعي لفصل السودان عن مصر والانفراد بحكمه ،ووصف الذين وقعوا على عريضة الولاء للحكم البريطاني من الاعيان وزعماء القبائل بأنهم لا يمثلون الا أنفسهم. وأشار إلى فداحة الضرائب وثقلها على الأهالي، ودعا إلى التوسع في التعليم، وانتقد نزع الأراضي قسراوتسليمها إلى الشركة الانجليزية في الجزيرة، وعلى الرغم من أن المقال لم ينشر إلا أن محتوياته قد وصلت إلى المخابرات التي اعتقلت علي عبداللطيف وقدمته إلى المحاكمة في 14يونيو1922 بتهمة كتابة مقال يثير الكراهية ضد الدولة وعوقب بالسجن لمدة عام والفصل من الخدمة العسكرية.
وبعد خروجه من السجن في أبريل 1923 قام باتصالات اثمرت عن تكوين جمعية اللواء الأبيض برئاسته وعضوية عبيد حاج الأمين وحسن صالح المطبعجي وصالح عبدالقادر وحسن شريف وتعود أصول هؤلاء إلى قبائل واثنيات مختلفة ولهذا صارت قاعدة الجمعية أكثر شمولا من جمعية الاتحاد السوداني فضمت بين ظهرانيها الموظفين والعمال الحرفيين والمزارعين والطلاب والضباط الوطنيين والنساء، ومعلوم أن مشاركة المرأة السودانية في العمل الوطني قديمة فوعي المرأة باضطهادها سبق تعليمها ففي هذه الجمعية برز دور نفيسه سرور احمد والعازة محمد عبدالله وكانت لهن مساهمة كبيرة في العمل السري للجمعية وبتول محمد عيسى التي اعتقلت مع طلاب المدرسة الحربية بعد مظاهرتهم، وبهذا التكوين اضحت جمعية اللواء الأبيض تجمعا وطنيا عريضا قوي الارادة نافذ المفعول وتمددت الجمعية واسست لها فروعا في اقاليم السودان ومدنه المختلفة، بيد أن قوة الجمعية وثقلها ارتكز في الجيش وقطاع صغار الموظفين حيث حظي علي عبداللطيف بالاحترام والتقدير في صفوف الجيش وكان لعبيد حاج الأمين القبول في أوساط الموظفين. وانحصرت اهداف الجمعية وفقا لدستورها في الدعوة لوحدة وادي النيل، وتوحيد الجهود لاجلاء الانجليز ورفض السياسات البريطانية في السودان جملة وتفصيلا، مستخدمة أدوات التظاهر والاحتجاج، ويمكن أن تكون للجمعية رغبة في الاتحاد مع مصر أو الاستقلال عنها في إطار الوحدة، وتكمن قيمة هذا الفهم الوحدوي في أنه شكل أول محاولة للارتقاء بمستوى العلاقة مع مصر إلى آفاق جديدة مما فتح الوعاء التنظيمي لبعض المصريين الانتساب للجمعية لمجابهة العدو المشترك.
النشاط الجماهيري لاحداث 1924:
بدأت جمعية اللواء الأبيض نشاطها السياسي عندما أرسلت برقية إلى الحاكم العام في 16مايو 1924 احتجت فيها على السياسات الرامية لفصل السودان عن مصر، وطالبت بحق السودانيين في حكم بلادهم، وتوثيق اواصر الوحدة مع مصر لتحقيق الجلاء عن وادي النيل، وفي يوم 14يونيو 1924 أرسلت الجمعية برقية للبرلمان المصري بمناسبة افتتاحه وتكوين أول وزارة مصرية برئاسة سعد زغلول، ووقع على هذه البرقية أعضاء القيادة الخمسة،وعندما نشرتها الصحف المصرية قامت الادارة البريطانية في السودان بنقل ثلاثة من الموقعين عليها إلى مناطق بعيدة عن الخرطوم عقابا لهم وردعا للآخرين، فلم يبق في الخرطوم الا علي عبداللطيف وعبيد حاج الأمين، ثم اوعزت للعناصر المتعاونة معها القيام بجمع توقيعات تنادي بالانفصال عن مصر ووضع السودان تحت الحماية البريطانية ايذانا بشق الصف الوطني( فرق تسد)،ومن بعد قررت الجمعية إرسال وفديمثلها إلى الحكومة المصرية،وتكون الوفد من زين العابدين عبدالتام ممثلا للمكون العسكري في الجمعية ،ومحمد المهدي الخليفة عبد الله ممثلا للمكون المدني، وعلى الرغم من السرية التي احاطت بسفر الوفد تمكنت السلطات الحكومية من كشف أمره واعتقال الرجلين في وادي حلفا واعادتهما إلى الخرطوم، ونظمت جمعية اللواء الأبيض مظاهرة في يوم 17يونيو 1924في محطة السكة حديد بالخرطوم لاستقبال عضويها ولكن السلطات انزلتهما في محطة الخرطوم بحري تحسبا لما سيحدث في الخرطوم من انفجار جماهيري.
وفي يوم19يونيو 1924 نظم فرع الجمعية في ام درمان مظاهرة ضخمة بعد تشييع جثمان عبدالخالق حسن مأمور ام درمان وكان من الاداريين المحبوبيين وعرف بنبل أخلاقه وكريم سجاياه فشيعه الآلاف، وبعد الإنتهاء من مراسم الدفن نهض الشيخ عمر دفع الله عضو الجمعية بأم درمان وهتف بسقوط الانجليز فرددالحاضرون هتافه بحماسة وقوة واستطاع ثوار ام درمان أن يتقدموا بثبات وجسارة في مظاهرة صاخبة استمرت حتى مغيب شمس ذلك اليوم، وقبض على الشيخ عمروحكم عليه بالسجن والغرامة،وفي اليوم التالي انتقلت الأحداث إلى الخرطوم حيث القى الشيخ حسن الأمين الضرير امام وخطيب الجامع الكبير خطبة هاجم فيها بريطانيا وسياساتها تجاه الأراضي في مشروع الجزيرة، وفي يوم 22يونيو1924 اصدر مدير مديرية الخرطوم امرا بمنع المظاهرات والتجمعات، ولكن الحلول الأمنية لن تحل الأزمة العميقة ولن توقف المد الثوري المتنامي، فرفضت الجماهير ذلك القرار ونظمت جمعية اللواء الأبيض بمدينة الخرطوم مظاهرة في يوم 23يونيو 1924 كانت وجهتها المحطة الوسطى مرددة شعارات الجمعية،وتوالى النهوض الجماهيري بأشكال مختلفة منها توسيع دائرة الاحتجاجات والقيام بحملة لتوزيع المنشورات والبيانات في الأسواق واماكن التجمعات ووضع الملصقات في الأماكن العامة، فوصلت المظاهرات إلى مدن السودان المختلفة وسط حراك متميز في عطبرة وبورتسودان وودمدني وشندي وكوستي والأبيض وملكال،رغم القمع والضرب الذي مارسه البوليس تجاه المتظاهرين، ولجات الادارة البريطانية إلى اعوانها مرة أخرى فاجتمع نفر منهم في ام درمان وحرروا مذكرة إلى الحاكم العام استنكروا فيها نشاط الجمعية واسلوبها في التعامل مع الحكومة مؤكدين أنها لا تحظى بتاييد الشارع السوداني وزعاماته التقليدية ولا سند لها إلا الرعاع والغوغاء، ويقترحون لتهدئة الرأي العام إدخال إصلاحات إدارية في جهاز الدولة، وهي محاولة لامتصاص المد الجماهيري باحداث إصلاحات دستورية وتغييرات شكلية تبقي على جوهر النظام الاستعماري وسلطاته المطلقة، وهي اساليب تلجأ إليها النظم الاستبدادية عندما تداهمها الحركةالجماهيرية الثائرة وثبت فشلها عبر التاريخ، وفي الثالث من يوليو 1924 اعتقل علي عبداللطيف وقدم للمحاكمة لنشاطه السياسي وحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات،والت قيادة الجمعية إلى عبيد حاج الأمين وكان رأيه إيقاف المظاهرات بعد أن نجحت الجمعية في إظهار ارادتها، وأن المظاهرات أدت إلى اعتقال قادة الجمعية والزج بهم في السجون، فانحسرت المظاهرات ولكنها لم تتوقف تماما لينتقل سير الأحداث بعد ذلك إلى المكون العسكري للجمعية والذي لم يكن بمعزل عن التطورات الجارية معلنا انحيازه لصف الوطنيين حماية لهم ولتظاهراتهم ودعما لمجريات الحركة الوطنية السودانية.
النشاط العسكري لاحداث 1924:
في صباح يوم السبت 9اغسطس 1924 خرجت أول مظاهرة عسكرية نفذها طلبة المدرسة الحربية بالخرطوم، ويمكن تلخيص أسباب المظاهرة في الآتي:
1/تأييد طلاب المدرسة لسياسات جمعية اللواء الأبيض وامتعاضهم لاعتقال وسجن قادتها وخاصة علي عبداللطيف.
2/معارضة الطلاب لسياسات الادارة البريطانية بخصوص الأراضي في مشروع الجزيرة.
3/إصرار الحكومة على تجزئة وادي النيل وفصل السودان عن مصر.
4/الطريقة التي اتبعت في منح الشهادات لمتخرجي المدرسة الحربية مقارنة مع الطريقة المتبعة في المدرسة في القاهرة.
لكل هذه الاسباب خرج طلاب المدرسة الحربية في صباح ذلك اليوم واتجهوا اولا إلى محطة السكة حديد بالخرطوم ليتمكن المسافرون من نقل خبر المظاهرة إلى اقاليمهم كما ينقل خبرها المودعون إلى ذويهم والذين انضم بعضهم إلى المتظاهرين، ومن محطة السكة حديد انطلقت المظاهرة إلى منزل علي عبداللطيف امتثالا للتقاليد العسكرية واستقبلتهم زوجته العازة محمد عبدالله ومعها نساء الحي بالزغاريد، وواصل المتظاهرون سيرهم حتى بلغوا القصر شاهرين هتافهم بحياة سجناء اللواء الأبيض وسقوط الانجليز ومن القصر إلى سجن كوبر لتحية السجناء والمعتقلين السياسيين ووصف احمدخير المحامي مظاهرة طلاب المدرسة الحربية بأنها رشيقة أنيقة سار موكبها في الشوارع الرئيسة بالعاصمة في روعة ومهابة وفي دقة ونظام تفاعل معها المدنيون، وبعدان أدت المظاهرة غرضها رجع الطلاب إلى داخلياتهم فوجدوها محاصرة بالجيش وبعد مداولات سمح لهم بالدخول بعد تجريدهم من الأسلحة وبقي الطلاب ثلاثة أيام داخل سور المدرسة وبعدها تم ترحيلهم إلى سجن عائم عبارة عن باخرتين اوقفتا في وسط النيل الأزرق قبالة كلية غردون وتمت محاكمتهم بالسجن لفترات تتراوح بين خمس وثمان سنوات والطرد من الجيش وإغلاق المدرسة الحربية.
وفي نفس يوم مظاهرة طلاب المدرسة الحربية خرج جنود الكتيبة العسكرية في عطبرة في مظاهرة كان شعارها وحدة مصر والسودان وانضم المدنيون إليها،ولكن تمكنت السلطات من قمعها بعنف مفرط نتج عنه استشهاد خمسة اشخاص أدى تشييعهم إلى تجمع سياسي كبير، وامتدت المظاهرات إلى الوحدات الأخرى في مدن السودان تضامنا مع جمعية اللواء الأبيض فخرجت التظاهرات في كل من واو وملكال وتلودي والأبيض.
وفي وسط هذه الظروف المعقدة والتطورات السياسية في السودان اغتيل في القاهرة في 19 نوفمبر1924 السير لي ستاك سردار الجيوش المصري وحاكم عام السودان، وانتهزت بريطانيا الفرصة لتحقيق مبتغاها بالانفراد بحكم السودان وتقدمت في 22نوفمبر ببرقية إلى الحكومة المصرية احتوت على جملة من المطالب أبرزها سحب الجنود والموظفين المصريين من السودان خلال 24ساعة،وقمع المظاهرات، وإطلاق يد بريطانيا في حكم السودان، فقبلت الحكومة المصرية بعض المطالب ورفضت البقية ولكن كان إصرار بريطانيا على القبول المطلق لكل المطالب مما دفع سعد زغلول وحكومته للاستقالة، وجاءت حكومة جديدة تراسها أحمد زيور قبلت جميع المطالب البريطانية.
في الخرطوم أصدر هربرت هدلستون الحاكم العام بالانابة امرا برحيل وحدات الجيش المصري ورفضت كتيبة المدفعية بقيادة احمد بك رفعت تنفيذ الأوامر ما لم تاتيهم من مصر مما دفع بعض الضباط المصريين لتنسيق جهودهم مع الضباط السودانيين بالتصدي للقوات الانجليزية اذا هاجمتهم وتكونت قيادة عسكرية لإدارة المعركة من خمسة ضباط وهم عبدالفضيل الماظ وحسن فضل المولى وثابت عبدالرحيم وسليمان محمد وعلي البنا،واوكل أمر القيادة إلى عبدالفضيل الماظ والذي تخرج من الكلية الحربية في عام 1917وعرف بذكائه ونشاطه وعلو همته فوالده الماظ عيسى ينحدر من قبيلة النوير وعمل جنديا في الجيش المصري، وفي يوم الخميس 27نوفمبر1924 تحرك عبدالفضيل بقوته إلى الخرطوم بحري لينضم إلى القوات المصرية فاعترضهم هدلستون بالقرب من كوبري النيل الأزرق ودارت معركة عنيفة استمرت حتى صباح اليوم التالي سقط فيها المئات من جنود الانجليز صرعى وبعد نفاذ ذخيرة الجنود السودانيين تفرقوا ولجا عبدالفضيل الماظ إلى المستشفى العسكري متخذا منه قاعدة لاطلاق قذائفه نحو الانجليز فعجزوا عن الوصول إليه إلا بعد أن استعانوا بمدفعيتهم الثقيلة لهد المستشفى فوجدوه ممسكا مدفعه بكلتا يديه.
وبعد انجلاء المعركة تم القبض على من تبقى من الضباط والجنود الذين شاركوا في المعركة وحكم على ثلاثة منهم بالإعدام رميا بالرصاص وهم حسن فضل المولى وثابت عبدالرحيم وسليمان محمد وأكدت المصادر التاريخية انهم استقبلوا الموت بشجاعة فائقة وبطولة نادرة، وعلى الآخرين بالسجن لمدد مختلفة وبالنسبة لقادة جمعية اللواء الأبيض فقد شكلت لهم محكمة عسكرية في فبراير 1925 بتهمة التامر لارهاب الحكومة بالقوة، والانتماء إلى جمعية غير قانونية، والترويج والقيام بمظاهرات وإثارة الكراهية والتحريض ضد الدولة وبث روح الحقد والعداوة بين الأهالي، وصدر الحكم بسجن علي عبداللطيف سبع سنوات، وعبيد حاج الأمين ثلاث سنوات،وصالح عبدالقادر وحسن شريف سنتين لكل منهما،كما حكم على أعضاء الجمعية الآخرين بالسجن لفترات متفاوتة تتراوح بين ستة أشهر وسنة،ورحل علي عبداللطيف وعبيد حاج الأمين إلى سجن واو،ليتوفى عبيد في السجن ويرحل علي عبداللطيف إلى مصر للعلاج في عام 1938 والتي بقي فيها حتى وفاته في عام 1948 .
وهكذا انتهت احداث 1924 التي نظمتها وقادتها جمعية اللواء الأبيض والتي يحفظ لها التاريخ انها عملت على خلق الارادة الشعبية لمقاومة الاستعمار وتوسيع قاعدة الكفاح ضده،وتصدت بكل وعي ويقظة للقوى التي عملت على شق الصف الوطني بمعاداة الجمعية ووضع العراقيل في طريقها والسعي لتكوين مركز بديل لتعطيل مسار تحركات 1924،ويبقى الفعل التاريخي الثوري لجمعية اللواء الأبيض في استيعابها للموظفين والعمال والطلاب والمزارعين والتجار والنساء وضباط الجيش الوطنيين في جبهةوطنية ديمقراطية واحدةوفق برنامج وطني يهدف إلى تحرير البلاد بافق واسع(وادي النيل )،لذلك يحق لنا أن نفسر حركة اللواء الأبيض بأنها حركة سودانية عملت لخدمة المصالح السودانية بالتعاون مع الوطنيين في مصر في إطار الكفاح المشترك بين الشعبين وانها محاولة لهبة شعبية لها فصيلها المسلح.

adilali62@gmail.com

 

آراء