احذروا السم المدسوس في وعاء الوفاق الوطني

 


 

 



من واقع معايشة  ربع القرن الماضية أثبتت التجربة أن الإنقاذ تستطيع فعل كل شيء من أجل بقائها على كرسي السلطة والتربع على عرش الرئاسة ، وتستطيع  فعل اللاشيء إن كان ذلك يؤثر على الكرسي الدوار والعرش البهار ، فجندت كل امكانياتها الابليسية ، وكرست كل قواها الشيطانية من اجل تحقيق ذلك ، فالفت الكتب والمسرحيات ، واقامت دور العرض لها ، في مختلف مناحي الحياة السياسية والاجتماعية ، وخلقت هالة من الضوء والبهرجة لبهلوانات يجوبون شوارع حياتنا السياسية والاجتماعية والرياضية ، وحتى ظرفاء المدن ، تغيرت أسماءهم واشكالهم والوانهم .
مرت الإنقاذ خلال مسيرة ربع القرن الماضية بعدة مراحل وتجارب ، ومسرحيات ( أترك للجمهور والقراء تقييمها ) ، وابتدأتها بيومها الأول للإنقلاب في العام 1989م  والذي بموجبه أودعت كل قادة الأحزاب السياسية سجن كوبر  ، بما فيهم مهندس الانقلاب الدكتور حسن عبد الله الترابي ، مما جعل الجميع يهمسون سراً وينتظرون الغائب الذي يدبجون باسمه الانقلاب ، فاحتار الجميع وقتها ولكن سرعان ما انكشف الستار ، وبان من بداخل الحلبة .
مرت الأيام قوية بالانقاذ فكان عهد الفورة الحقيقية للثورة ، وكان الحديث السياسي ومقدمه المقدم يونس محمود وقتها ، وكان جل الشعب السوداني ينتظر وقت الحديث السياسي على المذياع ، وهو بين متهكم على الإنقاذ ويسمى هذا الرجل ( بكلب الثورة ) وبين مؤيد مهلل ومكبر ويسميه ( رجل الثورة ) وبعد ان وضع هذا الرجل معظم قادة البلد ومفكريها السياسيين والاجتماعيين وقادة المجتمع المدني ، ولم يسلم من  غوغائه حتى المفكر الذي اجتمعت حوله كل الأقلام الاديب الطيب صالح ، وضع الجميع في كفة معاداة وكره الثورة ناهيك عن افعالها واقوالها ، وبعدها اتجه خارج الحدود ، واستعدى معظم الدول العربية والخليجية ، فكان استعداءه لملك المملكة العربية السعودية الملك فهد ــ  رحمه الله ــ    ناهيك عن العبارات التي كان يرددها دراويش الإنقاذ ، من تهديد لأمريكا ، وعهد ( أمريكا لمي جدادك ) .
خلقت هذه الأوضاع حربا نفسية واقتصادية قوية على ثورة الإنقاذ ، وهنا بدأت الإنقاذ تغير خطها السياسي وتغير نهجها في الخطاب وتحاول السيطرة على بعض العبارات غير اللائقة في رموز بعض القادة الدوليين ، وبالذات السياسة الخارجية المتعلقة بأمريكا ، وهنا بدأت الإنقاذ تعد العدة لمسرحيات طويلة سيشاهدها الشعب السوداني على مسرح الحياة متعدد المشارب ، وبدا الاعداد للمسرحية الكبرى فكانت المفاصلة الشهيرة في العام 1999م
يعتبر الكثيرون ان هذه المفاصلة هي اكبر مسرحية في عهد الإنقاذ ، وان من يعرفون حقيقتها قليلون جدا ولا يتعدون أصابع اليد الواحدة ، وذلك لينجر الكثيرون وراء احداث المسرحية التالية ، ولتكون احداثها اكثر تأثيرا من غيرها ، وهنا تذكرني هذه الاحداث بمسلسل وادي الذئاب التركي  البوليسي الاستخباراتي عندما صعبت الأمور على بطل المسلسل في الحفاظ على حياة زميله عبد الحي ، فاعد مسرحية تؤكد موت عبد الحي ولم يخبر بها  حتى نائبه ( ميماتي ) وفقط أخبر  الحارس الذي كان مضطرا لحراسته ، فاعد جنازة لصاحبه بعد ان قام بسرقته من المستشفى وسرقة جنازة أخرى موجودة بنفس المستشفى ، وبالفعل نجحت المسرحية واستطاع ان يحافظ على حياة صاحبه ، ولكن رغما عن ذلك فيرى ويروج كثيرون على ان المفاصلة الشهيرة في العام 1999م كانت حقيقية ، ونتج عنها مسائل سياسية واجتماعية وخاصة مشكلة دارفور التي أصبحت من كبريات مشاكل السودان في العصر الحديث ، وخصوصا ان بعض قادتها ، أمثال الدكتور خليل ، وعبد الواحد نور فقد كانت انتماءاتهم إسلامية بحتة .
بعد هذه الفترة مرت الإنقاذ بفترات نشوة وانتشاء وغرور ، بعد ان تدفق البترول وسالت اودية السودان ذهبا اسودا ، ظنه الشعب السوداني سيكون خيراً له ، وامتلأت خزينة المال العام بالنقد الأجنبي ، وانتفخت اوداج من يحرسون هذا النقد ، وارتفعت مبانيهم وزادت أملاكهم  . وتغيرت السياسات ، وبدات الاهانات لأبناء الجزيرة بتجاهل مشروعهم ومشروع كل السودان الذي فاض خيره وعم كل البوادي والحضر ، ففي هذه الفترة حاولت الإنقاذ ان تلملم شمل بعض القادة المعارضين وان تشترى من يبيع ذمته بدراهم معدودة ، او غير معدودة ، الى ان جاءت نيفاشا وقسمت السودان وفصلت الجنوب وضاع البترول وضاع معه حلم الإنقاذ فقط ، لان الشعب السوداني وقتها لم يتغير عنده شيء ، رغم تغير شكل الميزان التجاري ، وانتعاش الحياة في الجنيه السوداني وارتفاع قيمته مقابل العملات الأجنبية الأخرى ، ولكن رغما عن ذلك لم ينعكس اثره على الحياة العامة ومستوى أسعار السلع الاستهلاكية في السوق المحلى .
بعد هذه الفترة قامت الإنقاذ باستجداء بعض الأحزاب السياسية الكبيرة مثل حزبي الامة والاتحادي ، واستطاعت ان تأخذ قطعتي ديكور من بيتي السيدين المبجلين السيد الصادق المهدي ، والميرغنى لتضع هاتين القطعتين ضمن ديكور القصر الجمهوري ، رغم ارتفاع تكلفة شراء ورعاية هاتين القطعتين ، والذين لم يباعا في المزاد العلني ، رغم سرية مزاد بيعهم . ولكن السيدين المبجلين قد ذكرا كثيرا بان ابنيهما لا يمثلان احزابهما ، ولكن مهما يكن فقد استفاد الحزبين والإبنين  بإعداد نفسيهما لمقتبل الحياة السياسية بالسودان ، وليضمنا استمرار نسل هاتين الاسرتين الى الابد في المسرح السياسي السوداني .
مرت الاحداث سريعة وكانت مسرحية صلاح قوش وود إبراهيم ، ومن بعدها مسرحية غازي صلاح الدين وحزبه الجديد ، وقبلهما مسرحية السائحون والتي كان ينتظر منها الصادقون من أبناء الحركة الإسلامية تغيير ميزان الحياة السياسية السودانية ، وتغيير اتجاه بوصلة الحكم في السودان بشكل عام ، وفي مسار الحركة الإسلامية بشكل خاص ، وكانت اكبر المسرحيات التي لم يتأكد بعد من نتائجها ، او حتى تخمين نتائجها ، خروج السيد على عثمان محمد طه ، ونافع على نافع ، واستبدالهما بالعسكري بكري حسن صالح  ، فمضت هذه المسرحيات ، واحدة تلوى الأخرى وقضى معها الجمهور أياما وصفق لها البعض ، وتفل آخرون في وجه ممثليها ، بينما أضاع الكثيرون وقتهم فيها .
وصلنا في الأيام الأخيرة ومع موعد اقتراب الانتخابات القادمة ، الى المسرحية الكبرى والتي ما زالت مسارح السودان تشهد فصولا من عرضها ، وتوفر لها حكومة الإنقاذ كثيرا من الجهد والوقت والمال رغم قلة الإمكانات ، وقبل الاعداد لهذه المسرحية الجديدة ترددت هذه المرة الإنقاذ كثيرا في اتخاذ هذه الخطوة ، فأسست حزب غازي صلاح الدين ليكون بديلا للمؤتمر الوطني اذا ما فشلت الأمور ، وفشل الوفاق ، وهنا سيستمر عرض مسرحية المفاصلة بين الشعبي والوطني ، ووضع الحزب البديل وهو حزب غازي صلاح الدين ، ولكن لم يستمر دعم هذا الخيار طويلا ، وأخيرا رجعت الإنقاذ لتدعم رجوع الوطني والشعبي الى حزب واحد ، ولتقول بان الحزبين قد اصطلحا ، وذلك لخوفها من تشتيت الأصوات في الانتخابات القادمة ، وانه يصعب على القاعدة ان يقال لها بان ما كان لم يعدو سوى مجرد مسرحية وان الشيخ الترابي والمشير البشير ( سمن على عسل ) وليكن ذلك على العلن ، أما ما يحدث بعد الانتخابات فسيتم مقابلته وقتها ، وليكن ما يكن ، فالمهم والاهم عدم فقدان الكرسي الدوار والعرش البهار .
ان السودان بكل حق وحقيقة تكمن جل مشاكله السياسية والاقتصادية الماثلة أمامنا هذه الأيام في الوفاق الوطني بين الأحزاب السياسية ، وان الوفاق السياسي والاجتماعي يحتاج الى عدة خطوات وخطوات لتحقيقها ، وان اول خطوات تحقيق الوفاق السياسي بين الأحزاب السياسية السودانية هو ( حرية الراي ) ولتكف الإنقاذ عن مصادرة الصحف السودانية بعد الطبع وقبل التوزيع ، سلبا وتنكيلا ، ولنقرا عبر صحفنا الورقية  مقالات تحكي معاناة شعبنا السوداني ، وليتجرد صحفيينا بالكتابة الحقيقية وعكس ما بدواخلهم من حقائق وأرقام ، فلدينا من الصحفيين ما يمتلك ناصية القول ولهم من الأسلوب ما يجبر غير العربي على القراءة والمتابعة ، ففكوا قيود هؤلاء الصحفيين ، ولنرى الصحافة الورقية مثلها مثل الاليكترونية التي شاء لها القدر ان تتحرر من قيود ومقص الرقيب .
نعم فإنني من هذا المنبر ، ولمصلحة المشردين في دارفور وغيرها من ولايات السودان ، ومن أجل المرضى الذين لا يجدون حق الدواء ، والجوعى الذين لا يجدون لقمة العيش ، واليتامى والارامل الذين فقدوا العائل بسبب الحرب ، او المرض او الجهل ، أدعو كل الأحزاب السياسية لتنخرط في صف الوفاق الوطني ، ولكن عليها أن تكون حذرة ، والا تنجر وراء العبارات الفضفاضة ، فالإنقاذ ومن واقع تجربة ربع قرن لا تفعل شيئا لوجه الله . ولا يثق احد فيما تقول .

فتح الرحمن عبد الباقي
مكة المكرمة
12/04/2014م
Fathiii555@gmail.com



 

آراء