ادريس عوض الكريم يفرغ حبر دواته ويرحل

 


 

 


عفو الخاطر:

 

سَرَتِ الهُمومُ فَبِتنَ غَيرَ نِيامِ وَأَخو الهُمومِ يَرومُ كُلَّ مَرامِ

ذُمَّ المَنازِلَ بَعدَ مَنزِلَةِ اللِوى وَالعَيـــشَ بَعدَ أُلائِكَ الأَقوامِ
"جـريـر"

بعد عشية 21 اكتوبر 1964 وسريان خبر استشهاد أحمد القرشي سريان النار في الهشيم، امتلأت شوارع العاصمة المثلثة والمدن السودانية بمظاهرات حاشدة تطالب بسقوط حكم الجنرال عبود وزمرته. لم تكن الثورة خبط عشواء استنفرها القمع العنيف لندوة سلمية ومظاهرة مسالمة لطلاب جامعة الخرطوم وبعض اعضاء هيئة التدريس فيها، بل كانت نتاج تراكم نضال دؤوب قام به طيف واسع من السودانيين وقواهم الطليعية الباسلة من جبهة ديموقراطية فيها تمثيل لرجال ونساء السودان المستنيرين والمستنيرات والغالبية الصامتة. أخذت الجبهة الديموقراطية في معهد المعلمين العالي (كلية التربية حالياً) وجارته المدرسة الاهلية الثانوية قصب السبق في مظاهرات امدرمان فخرجت جموعهم متراصة ومتزامنة لتجوب شوارع العاصمة الوطنية تدعو الناس الى الخروج على سلطة القمع والاستبداد. كانت نواة تنسيق تحرك المؤسستين التعليميين المتجاورتين هي جماعة الجبهة الديموقراطية في معهد المعلمين العالي وعلى رأسها طالب يدرس في قسم اللغة الانجليزية جاء من الدويم ليقول ان الحسانية في قلب المعركة، اسمه ادريس عوض الكريم، ينظم الشعر وينشره بتوقيع "جرير" في جريدة الحائط التي كانت تعلق على جدران نادي المعهد الباذخ، وفي الجهة المقابلة نشط للتنسيق معهم اعضاء في الجبهة الديموقراطية بالمدرسة الاهلية الثانوية على رأسهم طالب من خارج العاصمة يسكن داخليات المدرسة اسمه عبد العزيز خالد (وصل الى رتبة العميد في القوات المسلحة السودانية"، وفيصل راشد والشاعر المرهف، مأمون زروق. كانت اجتماعات خلية رابطة الطلاب الشيوعيين والجبهة الديموقراطية تجري في غرفة عبد العزيز خالد بالداخلية بعد تناول وجبة الغذاء. ازدادت ضراوة المظاهرات واشتد اوارها بعد استشهاد الطالب حرّان وفور انفضاض وقفة التأبين التي شارك فيها طلاب المؤسستين التعليمتين وخاطبها مدير المعهد، محمد التوم التيجاني. كان ادريس عوض الكريم لولب الحراك في ذلك الجزء من العاصمة المثلثة، ثم كان لولب حراك آخر بعد انتصار ثورة اكتوبر وانتكاستها، اذ كان أحد قطبي الرحى في تنسيق الحراك الديموقراطي لطلاب جامعة القاهرة -فرع الخرطوم حينما التحق بكلية الحقوق فيها بعد تخرجه وعمله معلماً في المدارس الثانوية، مع الخاتم عدلان، القطب الآخر في جامعة الخرطوم.
لم يكتف ادريس عوض الكريم بذلك بل كان فاعلاً في نقابة المعلمين السودانيين وفي اجهزتها المختلفة. فحينما استولت حركة 19 يوليو/تموز 1971 على السلطة ثم اجهضت بعد ثلاثة أيام، وعودة نميري الى الحكم مع حقد أعمى وشهوة للانتقام لا تشبعها الا جثث الابرياء الذين قضوا بدون محاكمة تتوفر فيها أدني اركان العدالة، أو الجثث المتدلية من أعواد وحبال المشانق، كان ادريس وزميله في نقابة المعلمين، علم الدين حمد النيل، يمثلان النقابة في اجتماع لاتحاد المعلمين العرب خارج البلاد، فبقيا في بغداد بعد أن تناهى اليهما بان الزبانية تبحث عنهما كالكلاب المسعورة التي أُفلتت خلف طرائدها. لم يستقر ادريس ورفيقه طويلاً في العراق، اذ شعر البعثيون العراقيون بالضيق من نشاطهما الظاهر وارتباطهما بالحزب الشيوعي العراقي، الذي كان حزباً رسمياً ومرخصاً، ذراً للرماد في العيون، والحقيقة تجافي هذا المظهر الكاذب. التقيت بهما في بغداد مراراً اثناء وجودهما هناك، وعرفت معاناتهما فنصحتهما بالمغادرة الى بلد آخر، إذ أن الأجهزة العراقية السرية قد تعمد الى ارتكاب ما لا تحمد عقباه، ولها تاريخ طويل في التصفية الجسدية والاخفاء القسري وهندسة موت الصدفة والوفاة المفاجئة.
غادر الاثنان بغداد الى بيروت كمحطة عابرة الى أن يختارا ملجأ آخر. بعد فترة قصيرة أفترق الرفيقان، فجاء ادريس الى دمشق، واخذ ينشط وسط قوى اليسار والمقاومة الفلسطينية اليسارية ووسط اعضاء الجبهة الديموقراطية من الطلاب السودانيين الدارسين في سورية. هنا بدأ الطلاب البعثيون السودانيون في الكيد له لدى الاعضاء الصغار في مكتب الطلاب القومي التابع للقيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم في سورية. لم يتوان هؤلاء الصغار من تحريض الاجهزة الامنية السورية التي بادرت الى اعتقاله وابعاده براً الى الحدود السورية – العراقية. تفطن الطلاب الديموقراطيون السودانيون الى ما حدث لإدريس فبدأوا بإجراء اتصالات بمن يستطيعون الوصول اليه لإنقاذه من مصير مجهول أقله الموت ظمأً وجوعاً في رمال الحدود البائسة. هنا اتصلت جبهة التحرير الارترية التي ربطتها به صلات طيبة بقيادة حزب البعث التي نفت علمها بصدور أي قرار منها بإبعاده عن البلاد وعزت ذلك الى عناصر غير منضبطة، ثم بادرت الى اصدار أمر عاجل بإعادته الى دمشق على وجه السرعة. لم تكن القيادة السورية قادرة على تحمل استغلال القيادة العراقية المنافسة لها لإبعاد مناضل سوداني اليها سياسياً واعلامياً وحزبياً، فرأت استعادته من الحدود. استقر ادريس في دمشق ردحاً من الزمن كان يتردد خلالها على بيروت وقواعد المقاومة الفلسطينية في لبنان، ثم قرر الانتقال الى العاصمة اللبنانية ومزاولة نشاطه من هناك بتشجيع من المجموعة القيادية في جبهة التحرير الارترية التي كونت خلية صغيرة أطلقت عليها "حزب العمل الارتري" ذي التوجه الماركسي ليقود الجبهة مستلهمة التجربة الفيتنامية، من غير أن يكون لها الارث الطويل وتراكم الخبرة والقدرة على الانتشار والائتلاف الذين تمتع به الفيتناميون. كانت هذه المجموعة تتكون من بعض القياديين الذين انتخبوا في المؤتمر الاول لجبهة التحرير الارترية الذي انعقد في منطقة "درور نقيب" القريبة من طوكر في نوفمبر/ تشرين ثاني 1971 وبعض الكادر الذي جاء من رحم المنظمات اليسارية الاوربية.
بدأ "جرير" في توسيع علاقاته مع الحزب الشيوعي اللبناني، وممثلي الاحزاب الشيوعية العربية المقيمين في لبنان، ومنظمات المقاومة الفلسطينية، والمنظمات اليسارية العالمية الاخرى التي اتخذت من بيروت مقراً لها، وممثلي حركات المعارضة المسلحة وغير المسلحة في البلاد العربية والخليج، وعمل مع الارتريين وقدمهم الى بعض هذه الحركات والمنظمات، لا سيما تلك التي كانت تتصف بالسرية. في صلته مع المنظمات اليسارية الرسمية كان ينطق باسم الحزب الشيوعي السوداني، معتمداً على عضويته في الحزب، وأن الحزب ما زال يلعق جراحه في الداخل ويلملم صفوفه هناك، وانه ليس بقادر على القيام بنسج صلات وثيقة مع الرفاق في الاحزاب الشقيقة والصديقة، وهو في حاجة الى من يحشد له الدعم. كانت مبادرة طيبة منه حسنة النية، لكن الطريق الى جهنم مفروش بالنوايا الحسنة. أقام في بيروت صلات واسعة مع الصحافة والصحافيين ودور النشر. ثم بدأ في جمع وثائق الحزب الشيوعي التي لديه والتي استطاع تجميعها من أماكن مختلفة فنشر عن دار ابن خلدون كتاب "الثورة والثورة المضادة في السودان"، ووثائق اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني، وكتاب آخر عن "مذبحة دار الضيافة" وديوان شعر بعنوان "فرسان الزخارف المشوهة"؛ كان ذلك في يوليو/ تموز 1973.
لقد حدث سوء فهم حينما نُشر الكتابان المتعلقان بالحزب الشيوعي. ففي تلك الفترة جاء الى بيروت المرحوم الاستاذ حسن الطاهر زروق، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني، وتقاسم مع ادريس السكن في شقته المتواضعة بمنطقة الحمرا، القريبة من الجامعة الأميركية. وقد فهم ادريس انه مفوض من الحزب الشيوعي بإجراء اتصالات بقوى اليسار اللبناني والفلسطيني وحركات المقاومة واليسار، من اي بلد كان، المتواجدة في بيروت، ومنها اصدار النشرات والكتب وغيرها. الا ان الامر لم يكن كذلك، اذ كان صدور الكتابين ايذاناً بفصل ادريس عوض الكريم من الحزب الشيوعي وتبليغ الحزب الشيوعي اللبناني وعدد من قوى اليسار والفصائل اليسارية في المقاومة الفلسطينية انه منتحل صفة ولا تربطه بالحزب رابطة! تستحق ظروف علاقات الحزب الشيوعي باليسار العربي في مرحلة ما بعد حركة 19 يوليو 1971 مباشرة نظرة فاحصة، إذ كان اليسار العربي في بلاد الشام متأهباً لتقديم كل وسائل الدعم للشيوعيين السودانيين تحديداً، لكن الصلة مع الحزب كانت دونها معوقات كثيرة.
كان ادريس يسعى الى تهريب نسخ من الكتابين الى السودان وذلك عن طريق جبهة التحرير الارترية وبطرق مختلفة. ومن بين تلك الطرق أن يحمل حروي تللا بايرو، نائب رئيس جبهة التحرير الارترية حينئذِ، مجموعة كبيرة من نسخ الكتاب الى عدن (اليمن الديموقراطية آنذاك) وارسالها بقوارب الجبهة الارترية مع الأسلحة الى الاراضي المحررة ومن ثم الى كسلا فيتصرف فيها الحزب الشيوعي كيفما يشاء. الا أن نشر الكتابين واجه عداء من قيادة الحزب الشيوعي، بدعوى ان ادريس لم يخوله ولم يكلفه أحد بذلك، فأحبطت كل المحاولات، التي عرفت عنها، لإرسالهما الى السودان. وزعت بعض نسخ من الكتابين ومن ديوان الشعر في سورية ولبنان.
بعد أن انقطعت صلة ادريس بالحزب الشيوعي السوداني، تفرغ للعمل مع جبهة التحرير الارترية في جهازها الإعلامي. فانضم الى صفوف مكتب اعلام الجبهة الذي تأسس في منطقة كورنيش المزرعة ببيروت تحت اشراف يوهنس زراماريام ازازي والصحافي الارتري، ولديسوس عمّار الذي عمل في صحافة أديس ابابا وأجهزة الاعلام الاثيوبية قبل أن ينسلخ عنها وينضم الى صفوف الثورة الارترية. شهدت تلك الفترة تطوراً في وسائل اعلام الثورة الارترية كماً ونوعاً، وتركت أثراً ليس في المنطقة العربية فحسب، بل في انحاء مختلفة من العالم المهتم بالقضية الارترية التي أصبحت رقماً لا يمكن انكاره في أواخر سبعينيات القرن الماضي وفي فترة الثمانينيات. كان ادريس لولب ذلك المكتب، فهو لا يكل ولا يمل من الكتابة ولا تفتر له همة من القراءة والبحث والتدقيق باللغتين العربية والانجليزية التي برى قوسهما وملك ناصيتهما. كان في بعض الاحايين لا يبرح المكتب لأيام عددا وهو ينكب على الأوراق قارئاً أو كاتباً. وكنت حينما أعلم بذلك وأنا في زيارة للعاصمة اللبنانية أذهب اليه في مكتبه وأحثه على الخروج معي الى مقاهي الروشة ومطاعمها ليتنفس بعض الهواء العليل؛ كنت أجد عنتاً شديداً حتى أجعله يدخل المصعد لنهبط سوياً من الطابق الخامس الى مدخل المبني ثم الى الشارع. ولكنه يتحجج احياناً بانقطاع الكهرباء ومن ثم صعوبة النزول والصعود مرة أخرى. غير ان تلك الحيلة ما كانت تنفعه كثيراً، إذا سرعان ما يعمد سكان المبنى الى تشغيل المولد الكهربائي فيعود المصعد الى العمل مرة أخرى.
في ثمانينات القرن الماضي اشتد اوار المعارك بين الأطراف المتناحرة في الحرب اللبنانية، فكان ادريس يجد مسوغاً للبقاء بين جدران المكتب أو الشقة السكنية في الطابق الأعلى. ثم دعته الحاجة الى زيارة دمشق في رحلة عمل، لكن الطرق تقطعت به، اذ غزا الجيش الصهيوني لبنان واحتل بيروت فبقي في سورية فترة من الزمن لتتناهى الى اسماعه أن زوجته الارترية وابنته منار لقيا مصرعهما أثناء اجتياح الصهاينة لمناطق في بيروت بينها شارع الحمرا. كانت أياماً عصيبة اقترب فيها من الانهيار الجسدي والنفسي. عمل الارتريون وأصدقاء أخرون لتحري حقيقة الخبر، فتأكدوا بعد أسبوع انهما سالمتان وفي مكان آمن. ومن خلال جهود مكثفة مع نافذين جرى اصطحابهما الى دمشق، ثم عادوا مجدداً الى بيروت بعد أن عادت الأمور الى نصابها هناك.
بعد انتصار الثورة الارترية غادر ادريس الى العاصمة الارترية، اسمرا، ليبدأ مشواره في أجهزة اعلام الدولة الارترية الوليدة بالعربية ثم رأس تحرير النسخة الإنقليزية من الجريدة الرسمية، "ارتريا الحديثة". مكث زمناً طويلاً هناك لا يهدأ أبداً ولا يتوقف عن الحديث الممتع المتدفق، ويكل من والكتابة والقراءة. التقيت به في اسمرا اثناء زياراتي المتقطعة النادرة. كان هو ذاته في كل الأحوال التي التقيته فيها، لا يتأفف ولا يضجر، ولكنه لا يكف عن الشكوى، بدءاً من كسل حارس المبنى الى عنوان الكتاب مروراً بجهل السائقين وتدخين رجل المرور اثناء تأدية واجبه وهلمجرا. هو كما قال المتنبي:

وحالات الزمان عليك شتى وحالك واحد في كل حال

كان طاقة لا تفتر، ينتقل من رواية الحكايات، الى الشعر المقفى وبعض الحديث والشعر الإنجليزي مع ترجمة فورية بديعة، الى انشاد الدوبيت وشعر الهمباتة ثم يروي حكاياتهم.
ترك ارتريا بعد ردح من الزمن الى السودان، ثم رحل الى الابدية يوم الجمعة 28 فبراير/شباط 2020. كانت اللوحة الوحيدة المعلقة في شقته الصغيرة ببيروت رسماً جميلا لبيتي المتنبي الذي حفظ غالب شعره إن لم يكن كله:
إلف هذا الهواء أوقع في النفس ان الحمــــام مـــر المـــذاق
والأسى قبل فرقة الروح عجز والأسى لا يكون قبل الفراق
كان يخشى أن يستكين الى هواء لبنان العليل فيركن الى رغد العيش! لكنه بقي هناك زمناً ممتدا بين دوي القنابل وزخات الرصاص وانفجار السيارات المفخخة وجثث ضحايا القناصة على حدود المعابر بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية والخوف من المجهول في ساعات الصمت القاتل. حمل ادريس الحرب الاهلية اللبنانية بين اضلعه بصبر جميل. وداعاً يا صديق العمر...

elsouri1@yahoo.com

 

آراء