استعادات في الذكري الخامسة لوفاة جادين والخلاف الرحمه

 


 

 

بجاحة كورونا أو بدونها سيظل شبح الموت يلاحقنا تاركا فراغا كبيرا في حيواتنا الشخصية والعامة، آخرها الظلام الذي ران علي سمائنا الادبية بغياب قمري الشعر والقصة ، القدال والحلو . بقدر ما نستنطق إرث هذا النوع من الشخصيات الاستثنائية بتجرد موضوعي حازم ولكنه مفعم بالمحبة، بقدر مايبقون نجوما خالدة في مدارات تنير طريقنا الى المستقبل.
في يونيو 2016 كان انتقل الى هذا المدار محمد علي جادين رئيس حزب البعث السوداني ولعل أي محاولة، مهما كانت قاصرة، للتأمل في بعض جوانب حياته تجد صدي لدي الذين شاركوا في مايمكن وصفه ، دون مبالغة ، بموجة التعبير العارمة عن الحزن الممتزج بالتقدير والاحترام التي صاحب وفاته إذ لم يتخلف أحد من قيادات وشخصيات المجتمع المدني والسياسي عن المشاركة فيها. التقييمات الفكرية لارث الراحل محمد علي جادين خلال هذه الموجة، وحاليا بمناسبة احتفال الذكري الخامسة الذي أقيم في قرية " ألتي" وشهده طيف عريض من الشخصيات العامة والجمهور، تركزت بصورة رئيسية حول ما يطلق عليه في الادب السياسي السودني ب "سودنة البعث ". صاحب هذا المقال يفضل اعتباره ناتج عملية تجديد ديمقراطي الافق وإلا بقيت السودنة مسألة شكلية.
معلوم لدي ذوي الاهتمام بتطور الحركة البعثية في السودان أن محور الانشقاق الذي شهدته عام ١٩٩٧ وادي الى ظهور حزبي البعث (الاصل) و(السوداني) هو هذه العملية التي اتخذت شكل المراجعة النقدية لتجربة الحكم البعثي في العراق، رغم بدايتها من خلاف حول قضايا محلية. موقع الراحل جادين القيادي في هذه العملية لم يكن مستمدا من موقعه القيادي في حزب البعث العربي الاشتراكي قبل الانشقاق وإنما من استعداده للتضحية بهذا الموقع او، بالاحري، أعادة اختبار قدرته علي استحقاقه بدورمماثل في إطلاق مسيرة جديدة للحزب تجعله جديرا بالبقاء المستقبلي، فلا معني لبقاء الحزب ،أي حزب،مستندا علي تاريخه مهماكان غنيا إذا لم يكن مستعدا للوفاء بمستلزمات القانون الوحيد الثابت وهو التغيير. إنخراط محمد علي جادين في هذه المهمة كان بمثابة انخراط في معركة حقيقية بالنسبة له بالنظر الى تعدد وتداخل جوانبها. كان عليه في نفس الوقت الذي يتحمل فيه المسئولية القيادية في تفكيك تعقيدات الصراع داخل الحزب، أن يدبر احتياجاته اليومية وأن يحمي نفسه من الوقوع في قبضة دكتاتورية الجبهة القومية الاسلامية التي قضي في سجون سالفتها التمهيدية المايوية اكثر من خمس سنوات متصلة.
ليس سراً إن لكاتب هذا المقال خلافا في الرأي مع الرفيق الراحل جادين الذي عاش معه رفقة عمر منذ نعومة الاظفار البعثية في المرحلة التأسيسية لحزب البعث أوائل ستينيات القرن الماضي عندما شكلا اول خلية في جامعة الخرطوم. تفاصيل هذا الخلاف يمكن الرجوع اليها في واحد من المؤلفات العديدة التي أنجزها تجديدو البعث جماعات وافردا حول التجربة نفسها ، فضلا عن المسائل الفكرية والسياسية عموما، هي اثمن مايمكن ان يقدمه اي حزب للفكرالسياسي السوداني،وتضع حزب البعث السوداني وتيار التجديد البعثي عموما، خارج التساؤل المزمن حول الفقرالفكري للاحزاب السودانية. نصيب محمد علي جادين من هذه المؤلفات، متعاظما في قيمته علي خلفية مشاغله الحزبية وغير الحزبية الاستثنائية بالمقارنة لبقية الرفاق، كتابان بعنوان : "صفحات من تاريخ التيار القومي وحزب البعث في السودان " و" مراجعات نقديه لتجربة حزب البعث في السودان " ، تحريرا وتجميعا لكتاباته والاخرين، إضافة لمؤلفاته الخاصة: "تقييم التجربة الديموقراطية الثالثة"، مناقشات حول الديموقراطية والوحدة الوطنية في السودان " و"السودان وتحديات بناء الدولة الوطنية " فضلا عن ترجماته لمجموعة من المؤلفات الاكاديمية، من بينها لاكاديميين من جنوب السودان، تشكل أهم مكتبة حول تاريخ السودان الحديث. .
بالمقارنة للخلاف مع رفاق التجربة في حزب البعث (الاصل ) خلافي مع الرفيق الراحل جادين ، علي دلالته الهامة كمظهر لمناخ الحيوية الفكرية الذي لازم مشروع التجديد ، يبدو بالغ المحدودية لانه يدور حول المعدل الذي يجب ان تتم به عملية التجديد وليس ضرورتها في حد ذاتها. موقف قيادة حزب البعث ( الاصل ) بهذا الخصوص يتماهي مع إنكار القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي ،التي تعلو علي كافة القيادات البعثية القطرية بما فيها السودانية، للحاجة الى تعريض تجربة حزب البعث في حكم العراق لاعادة تقييم مماثلة للمطلوب سودانيا من كافة الاحزاب. مهما كانت حدود مسئولية حزب البعث العربي الاشتراكي بقيادة صدام حسين عن الاوضاع المأساوية للمواطن العراقي بعد حكم مطلق استمر ثلاثة عقود ونيف ثم تداعيات الغزو الامريكي قبل 17 عاما ، إلا أن الدافع الضميري ، قبل وبعد مصلحة الحزب، تقتضي تحملها صراحة وتشخيص اسبابها والمسئولين عنها إذا شاء أن يكون له دور في المستقبل.
البعد السوداني لمثل هذه الممارسة النقدية بديهي علي ضوء التحدي المصيري الذي تواجههه بلادنا الان وهي تخوض التجربة الثالثة لتأسيس نظام ديموقراطي مستدام وتتطلب ،كشرط بديهي، الا يكون اي من احزابنا في الموضع الذي تنطبق عليه فيه مقولة فاقد الشئ لايعطيه، فاقد الديموقراطية لايعطيها. النجاحات السياسية التي يحققها البعث ( الاصل ) حاليا ونلمسها أوضح ماتكون في الاداء الممتاز لبعض قياداته تحت الاضواء مثل عادل خلف الله ووجدي صالح ، وعبد الله رزق في التحليل السياسي، وهو رأي يعرفه عني كثير من البعثيين الحاليين والسابقين والعاملين في الحقل العام ، تبقي مهددة بالتجمد عند اللحظة الراهنة ومحاطة بعلامات الاستفهام حول قيمتها المستقبلية.
في الفيديوهات المبثوثة اسفيريا لحفل استذكار وفاة الرفيق جادين لمحت في الصفوف الامامية الاستاذ عثمان ادريس ابو راس ، نائب أمين سر القيادة القطرية للبعث ( الاصل ) لعلها تكون إشارة لاحتمال دخول الطرفين في تفاكر حول التاريخ المشترك بين الحزبين حتي عام 1997 . مثل هذا التفاكر الملتزم بقواعد الاحترام المتبادل والموضوعية واجب علي الطرفين لانه حتي لو كان اختلافي المضمون والنتيجة سيغنيهما معا والحياة السياسية السودانية عموما. اختلاف رحمه، كما جاء في الاثر.
لندن يوليو 2021

alsawi99@hotmail.com

 

آراء