استقالة ورّاق ومسؤولية رؤساء التحرير … بقلم: د. أسامة عثمان، نيويورك

 


 

 

Ussama Osman [ussama.osman@yahoo.com]

بعد فترة انقطاع اعقبت ابتعاده عن صحيفة «أجراس الحرية» عاد الأستاذ الحاج وراق للكتابة الراتبة في الصحف السيارة، وسعد قراؤه الكثيرون بعودته من خلال صحيفة مرموقة مثل صحيفة «السوداني»، ولكنهم لم ينعموا به كثيرا حيث حملت لنا الأنباء أن الأستاذ  قد استقال من العمل إثر حجب إدارة التحرير نشر مقاله الأسبوعي ليوم الأحد 22 نوفمبر  بسبب تقديرات خاصة بإدارة التحرير. كما ورد بموقع «سودانيز أون لاين» الالكتروني تصريح للحاج وراق رفض فيه إدانة صحيفة «السوداني» ورئيس تحريرها، وقال «لست عاتباً عليهم لاني اعرف حجم الضغوط التي يواجهونها، وعلى كل فقد قدمت استقالتي والمعركة ليست مع رؤساء تحرير الصحف وانما مع الجهات التي تضغط عليهم» واردف:«للرقابة عدة وجوه واشكال، وقد تأكدت لنا حدود الحرية التي تسمح بها الانقاذ، فهي لا تسمح برأي مستقل إطلاقاً، ورغم أننا لم نقل 40% مما نود قوله إلا أنهم ضاقوا ذرعاً، المهم من كل ذلك أن مسخرة الانتخابات الحالية تجرى وسط هذه الحدود الدنيا». وكما هو متوقّع فقد نشر المقال بأكثر من موقع من المواقع المقروءة وارتفعت نسبة قرائه بشكل ملحوظ بسبب الاستقالة والموقف الذي اتخذه الكاتب. وقصة الحجب والاستقالة والحيثيات التي أوردها الكاتب في موقع «سودانيز اونلاين» تثير أكثر من قضية جديرة بالتعليق.  

وكان من الطبيعي أن نبدأ بقراءة المقال موضوع الخلاف الذي جاء بعنوان «بعض ما لا يعرفه أهل الوسط». وهو في نظرنا مقال صحفي عادي من حيث الشكل والمحتوى، فمن حيث الطول جاء المقال في حوالي الف وأربعمائة كلمة، ومن حيث ترتيب الفقرات والخلط بين الرأي والمعلومة التي تسانده بعد المقدمة والخاتمة كان كأي مقال جيد السبك، وليس فيه اختلاف عن طريقة الحاج وراق المعروفة في الكتابة. وربما كان وجه الاختلاف الوحيد من حيث الشكل مقارنة بالمقالات التي تنشر في الصحف السيارة، بأنه اشتمل على حواشٍ وإثبات شهادات للضحايا تكاد تكون في طول المقال نفسه، والكثير من المعلومات استقاها الكاتب مباشرة من رحلة ميدانية قام بها بنفسه في عام 2005 إلى دارفور ونشر جزءاً منها في ذلك الوقت في الصحف وفق ما تيسر حيث. أما من حيث المحتوى فإننا لم نلحظ في المقال شيئا مثيرا أو معلومة جديدة عما يجري في دارفور منذ عام 2003. وربما يكون سبب ذلك وجودنا في الخارج وتوفر المعلومات ومتابعتنا الوثيقة لما يجري في بلادنا عموما وفي دارفور على وجه الخصوص، لأن الصيت والذيوع الذي وجدته القضية لا يترك لك فرصة لعدم الاهتمام. ويفترض عنوان المقال «ما لا يعرفه أهل الوسط» أن أهل الأطراف على علم بما حدث، ولكن أهل الوسط العريض ممن يقرأءون صحافة الخرطوم لم يسمعوا بهذه المعلومات عن الفظائع التي وقعت في دارفور بالتفصيل الذي أوردها به وأراد أن ينورهم بما حدث من ناحية، وأن يثبت موقفا ككاتب قدم له في المقال في أن سياسة الستار الحديدي وحجب المعلومة لن يجديا فتيلا، وأن حكومة الإنقاذ قد مارست حجبا للمعلومات جعل العالم كله ملما بما حدث في دارفور إلا أهل السودان فإنهم لا يعلمون، لأن آلة الإعلام الرسمي قد حجبت عنهم المعلومات وربما ضللتهم بأن ما يحدث مؤامرة من دوائر الاستكبار والصهيونية التي تستهدف السودان بسبب مشروعه الحضاري وتطبيقه لشرع الله وما إلى ذلك من نوع هذه الأشياء التي تسمعها في الإعلام الحكومي والصحف الموالية للنظام! إذن لا خلاف على أهمية ما جاء في المقال من معلومات ولكنها لا تمثل كشفا جاء به الحاج وراق، وقد تناولت الصحف في الداخل أخبار هذه الفظائع الموثقة بشكل أو بآخر، حيث نشرت «الصحافة» ترجمة لنص تقرير لجنة التحقيق الدولية، وكتب كثير من كتابها مقالات عن دارفور وما جرى فيها من فظائع على الرغم من محاولات التعتيم، ونشر الحاج وراق نفسه مقالات في هذا الاتجاه في أوقات سابقة عن الفظائع في دارفور وفي جنوب السودان وهنا لنا تساؤل للكاتب عن توقيت كتابة المقال والرغبة في إشراك القراء في الإلمام بما حدث في دارفور في الفترة 2003م - 2004م، وهي مسألة موثقة في تقرير لجنة التحقيق الدولية المكلفة من قبل مجلس الأمن، وهو تقرير منشور حتى في السودان ليس في الصحف فحسب كما قدمنا وإنما في شكل كتاب مطبوع من مطبوعات مركز القاهرة لحقوق الإنسان قام بتحريره الأستاذ كمال الجزولي ونشره على الملأ بعنوان «الحقيقة في دارفور»، وقد قاد ذلك التقرير إلى إحالة قضية دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية بقرار من مجلس الأمن كما هو معروف. إذن ما الذي أراد الكاتب إثباته في هذا التوقيت بالذات؟ ولا يعني هذا التساؤل أن ما جاء من معلومات في المقال غير صحيح أو أنه يجب أن ينسى، ولن ينسى، فقضية المساءلة والمحاسبة من أعقد القضايا التي تصعب الوصول إلى حل في مسألة دارفور، ولقد توسع تقرير لجنة أمبيكي الأخير في مسألة العدالة بشكل ملفت للنظر. هل يا ترى أراد الكاتب أن يختبر سقف الحرية الذي يتحمله رئيس تحرير صحيفته؟ أم أراد أن يختبر مدى جدية جهاز الأمن والجهات السياسية التي كانت وراء فرض الرقابة على الصحف وقررت رفعها أخيراً حتى تجرى الانتخابات في جو حر كما ذكر السيد رئيس الجمهورية. 

قطعا لرؤساء وإدارات التحرير في الصحف الحق في الحكم على ما ينشر وما لا ينشر وكيفية النشر وفقا لتقديرات ليست بالضرورة أن تتفق مع تقديرات الكاتب أو الصحفي، لأن الكثيرين منهم إلى جانب مسؤولية التحرير والمسؤولية القانونية المترتبة عليها هم ملاك صحف وناشرون ورؤساء مؤسسات ربحية، مما يجعلهم يفكرون بمعايير أخرى وتقديرات تختلف عن تقديرات غيرهم. وعلى الرغم من ذلك فإن رؤساء التحرير والقائمين على الصحف ليسوا كغيرهم من أصحاب المؤسسات الربحية الأخرى، وإنما تقع عليهم مسؤولية أخلاقية باعتبارهم من صناع الرأي، وينتمون بحكم المهنة إلى القطاع المستنير الذي عليه مسؤولية تجاه الوطن والمواطن، والإسهام في عملية التحول الديمقراطي بشكل إيجابي واعٍ قد يفوق مسؤولية رجال السياسة والأحزاب. ومما يذكر أن الاستاذ عروة كان قد قاد تيارا بعد دخوله السجن بوصفه رئيسا للتحرير بسبب مقال كتبه صحافي معروف آخر هو الأستاذ نور الدين مدني يدعو لتحميل كاتب المقال مسؤولية ما يكتب وليس رئيس التحرير، ولقد استجاب قانون الصحافة الأخير لهذا الرأي. فما الذي جعل السيد عروة يتخوف من هذا المقال الذي لم يأتِ بجديد، وفي نهاية الأمر كاتبه مسؤول عنه؟ 

وربما لاحظ الكثيرون أن الصحف لم تتعافَ بعد من فترة الرقابة الأمنية المتطاولة التي أدت إلى خسارتها من حيث المحتوى التحريري والتطوير المؤسسي وابتعاد بعض الكتاب عنها، مما أدى لانصراف القراء بسبب ضعف المادة المقروءة، مما ترتبت عليه خسائر مادية تزداد عندما تحتجب الصحف عن الصدور قسرا بسبب الرقابة، كما حدث للعديد من الصحف. ومن مظاهر عدم استعادة الصحف عافيتها حتى الآن، هو أن المادة التحريرية ومقالات الرأي لا تزال من ناحية عامة في المستوى الذي كانت عليه في أيام الرقابة القبلية المباشرة من جهاز الأمن، حيث يتجنب الكثير من المحررين أو الكتاب الخوض في موضوعات يعتبرونها، وفقا لرقابتهم الذاتية، من المحرمات، فيكتفون بالطعن في ظل الفيل أو ترديد العموميات، أو الكتابة فيما ليس له صلة بالحالة الراهنة في البلاد نشدانا للسلامة. وربما يكون ذلك بسبب الملابسات التي أدت إلى رفع الرقابة بعد أن أكد القائمون عليها ألا بد من وجود رقابة بشكل ما، وأن جهاز الأمن ليس سعيدا بممارستها، ويأمل أن تقوم بها جهة أخرى في ما ذكر السيد صلاح قوش على آخر أيامه في جهاز الأمن والمخابرات. ولقد رفعت الرقابة مع تحذيرات شديدة من رئيس الجمهورية ورئيس جهاز الأمن والمخابرات وبعض المسؤولين السياسيين من حزب المؤتمر، ونقلت بشكل ما إلى أعناق رؤساء التحرير تحت مسمى ميثاق الشرف الصحفي ولجنة المراقبة. وإن ظلت عين الرقيب الامني حاضرة وباستمرار، فقد صرح الفريق عطا بأن الصحف عموما ملتزمة بعد رفع الرقابة ما عدا صحيفة واحدة ذكرت أن حلايب مصرية، وستتم مقاضاتها، ونشرت أخرى مقالا فيه افتراءات على جهاز الأمن، فيما يرى، في تحذير واضح لرؤساء التحرير، وفي إشارة لخطين أحمرين وفقا لمعاييره، ولقد استجابت الصحف للتحذير، مما جعل النقاش حول قانون الأمن أشبه بالحديث عن جهاز أمن لم يقم بعد، ويتفاكر الناس في صلاحيته دون الإشارة إلى جهاز الأمن الذي عرفناه خلال عشرين عاما، واستصحاب تجربته التي خبرها الناس في النقاش. كما أن موضوع حلايب من الموضوعات التي لم تفتح للنقاش على الرغم من أهميته.  

إن إلقاء مسؤولية الرقابة على رؤساء التحرير في ظل هذه الظروف، جعل البعض منهم يرسم خطوطا حمراء حول المسموح به تتطابق مع الخطوط الحمراء التي تعودوا عليها أثناء ممارسة جهاز الأمن لمهمة الرقابة، بدلا عن الضوابط التي تمليها على رئيس التحرير في كل الظروف المسؤولية المهنية المتمثلة في الحرص على الموضوعية ونشر المعلومة الصحيحة وعدم الإساءة للآخرين، وأن يكون الخبر خبرا والرأي رأيا دون تداخل، واستحضار دوره التنويري تجاه المجتمع والوطن وحرية وكرامة أهله وأمنه. وليس أمن الوطن هو مسؤولية رجال الأمن فحسب، فالأمن الوطني مسؤولية الجميع، ورؤساء التحرير يفترض بحكم المهنة والخبرة أن تكون لهم القدرة على التمييز والفصل بين الوطن والحزب، وإن أراد بعض رجال الأمن والسياسة غير ذلك. قل لي بربك من يجرؤ على أن يحدد لصحافي مثل الأستاذ محجوب محمد صالح، على سبيل المثال أن هذا المقال أو ذاك ضار باللأمن القومي أو فيه خدش للحياء، وعليه يحظر نشره بعد عشرات السنين التي قضاها الرجل في العمل الصحفي والعمل العام والاهتمام بقضايا الوطن. 

يمكننا أن نتفهم ونقدر الحذر الذي يمارسه رؤساء وإدارات التحرير حاليا بعد رفع الرقابة المباشرة. وليس الحذر من قبيل خطر متخيل، فلقد شهدنا بعضهم يقادون إلى السجون وتفرض عليهم الغرامات المهلكة ومن بينهم، للمفارقة، رئيس التحرير الذي حجب المقال وكاتب المقال الذي نحن بصدده. ولا شك أن كل رئيس تحرير رقيب بشكل ما، ولكنا نريده أن يكون رقيبا وفقا لقواعد المهنة ولضميره، وليس وفقا للفهم الأمني للرقابة، وأن يتحرروا من المحاذير التي يكبل بها بعضهم نفسه، حيث قدر لي أن أقرا أخيراً مقالات لكتاب راتبين في بعض الصحف حجبها رؤساء التحرير على طريقة «الباب البجيب الريح»، كما نأمل أن يتحرر كتاب الرأي وكتاب الأعمدة من شبح الرقابة الذي يحسون به عند الجلوس الى لوحة المفاتيح لكتابة المقال أو الإمساك بالقلم للكتابة، لأن الكثيرين، في ما بلغني، لا زالوا يكتبون مقالاتهم بخط اليد!! 

إن كسر طوق الرقابة وتوسيع مساحة الحريات لا يكون إلا بالمثابرة وحسن استغلال ما هو متاح، والسعي، ما أمكن، للاستفادة من كل سانحة تلوح. والحاج وراق ليس بالصحافي المبتدئ أو السياسي الغر، فضيق أهل الإنقاذ بالرأي الآخر وعدم حرصهم على فسح المجال للآخرين لا يحتاج لإثبات، فهم في الفكر الأحادي والشمولية غارقون، ولن يستطيعوا التخلص منها في الغد وإن حرصوا. فالأولي قراءة الواقع والمدافعة لانتزاع مساحة أكبر من الحرية. وربما كان أمره كحال الكثيرين في السودان وخارج السودان في هذه الأيام، من حيث حالة الاحباط العام التي تشمل الجميع بعد أن كانوا يظنون أن التحول الديمقراطي لا محالة آتٍ، وأن قافلته تسير، وأن انتخابات حرة ونزيهة ستجرى، وربما اتيحت لهم فرصة لإزالة الإنقاذ وأهلها دون إراقة دماء، وتثبيت مبدأ التداول السلمي للسلطة، ورأوا أن كل ذلك يبدو سرابا في ظل ما سماه وراق (مسخرة الانتخابات التي تجرى في ظل هذه الحدود «الواطية» بحسب تعبيره في سودانيز اون لاين الذي حولته "السوداني" إلى الحدود "الدنيا" عندما اقتبست التصريح بتصرف. فإن جاز الاستسلام للاحباط لعامة الناس فإنه لا يجوز في حق من هم في عداد صناع الرأي الذين تصدوا للتغيير بما يملكون من أدوات وهي الكتابة، وتنوير الآخرين بالمعلومة والفكرة المبتكرة لحفزهم على التفكير. وقلم الحاج وراق قطعا من هذه الأقلام التي توسع من كوة الحرية شيئا فشيئا مهما كانت المعوقات والمحبطات، ومخاض التحول الديمقراطي يحتاج لكل هذه الأقلام التي تحفر في الصخر. وآمل أن يتذكر الأستاذ وراق جهدا قاده بالأمس القريب مع آخرين لإثناء أحد الكتاب من أنصار التحول الديمقراطي عن التوقف عن الكتابة وإخراجه من حالة يأس من إصلاح الحال كانت قد أصابته، فاستجاب وعاد لممارسة دوره في التنوير. ونأمل ألا تطول وقفة الأستاذ وراق، وأن نرى مساهماته قريبا في الصحيفة التي يختار، وإن ظلت صحيفة «السوداني» ففي ذلك خير. 

نقلا عن "الصحافة" ليوم الثلاثاء 1 ديسمبر 2009

 

آراء