استقلال السودان بين “يا غريب يلا لى بلدك” و”كان بدرى عليك”

 


 

أمير شاهين
2 January, 2023

 

“أن معظم السودانيين يقدسون حريتهم ولا يحبون أن يكونوا تحت سيطرة بريطانيا (أو غيرها) ، بيد أنهم في ذات الوقت يحبون البريطانيين جدا، ويتطلعون كأفراد ومسئولين إلي إقامة أقوى جسور الصداقة والتعاون معهم”
الدكتور يوسف فضل

من الملاحظ عدم اهتمام او اكتراث الغالبية العظمى من السودانيين بالاحتفال و الاحتفاء بمناسبة الاستقلال عن الحكم الثنائى البريطانى المصرى الذى حدث قبل 66 عاما وذلك بالرغم من الحرص الكبير على الحصول على العطلة التى تقع فى يوم 1/1 من كل عام والتى يعتقد البعض انها بسبب الاحتفال بالسنة الجديدة لا بالاستقلال ! ويبدو ذلك واضحا فى مجال الغناء و الموسيقى فبالرغم من وجود عدد لا يحصى من الاغنيات و الاناشيد فى مكتبة الاذاعة الا اننا نجد فقط نشيد واحد يتغنى بالاستقلال صراحة وهو نشيد الامبراطور وردى الخالد " اليوم نرفع راية استقلالنا" للشاعر الاستاذ عبدالواحد عبدالله يوسف وهذا النشيد هو بالمناسبة الوحيد الذى يتغنى باستقلال السودان صراحة ولايوجد غيره يمجد و يعظم هذه المناسبة الهامة والمفصلية فى تاريخ الشعب السودانى ,
يختلف السودانيون كالعادة فى كثير من الامور و لا يتفقون الا قليلا ا , وكان استقلال السودان واحدا من هذه الامور , فالبعض كان يرى ومنذ اعلان استقلال السودان فى 19 ديسمبر 1955م من داخل البرلمان ان الوقت غير مناسب للاستقلال عن الحكم البريطانى المشهور بالكفاءة و الانضباط , وانه من الافضل للبلاد ان يمنحوا الانجليز فترة حكم اخرى لاتقل عن العشرون عاما حتى يتعلم السودانيون اسس و مهارات الحكم ! وبرز فى ذلك الزمن العم ازرق والذى كان يعمل جزارا فى سوق الشجرة وكان ينادى ببقاء الانجليز فى السودان لان مغادرتهم تعنى انهيار البلد ودمارها تحت حكم ابنائها ! وبكل تاكيد فان الرجل يسبح عكس التيار وناله الكثير من التجريح و النيل منه و نعته بصفات مسيئة من شاكلة " عميل الانجليز" و " عديم الوطنية" فالرأى العام فى تلك الايام كان طاغيا و العاطفة الوطنية على اشدها و الحماس لمبدأ " السودان للسودانيين" لا يقبل المناقشة ! حيث كانت الاغلبية تهتف من من اعماقها وهم ينشدون اغنية العطبراوى الشهيرة " يا غريب يلا لى بلدك " والتى تدعو الى طرد الانجليز بدون رحمة او تردد وهى من كلمات الشاعر الباذخ يوسف مصطفى التنى والتى يقول فيها :
ياغريب يلا لي بلدك … يلا يلا لي بلدك
يلا لي بلدك سوق معاك ولدك لملم عددك
انتهت مددك وعلم السودان يكفي لي سندك
وفى مقابل هذا المد الاستقلالى الهادر لم يستسلم العم ازرق او ينحنى فقد كان يؤمن صادقا بان الحكم الوطنى لا يجلب للسودانيين سوى البؤس و الشقاء فقد كان يقول للمقربين منه " الم يعلمنا الانجليز الطب و الهندسة وكل العلوم التى لم نكن نعرفها كسودانيين ؟ اذا لماذا لا نعطيهم الفرصة ليعلمونن كيف نحكم انفسنا ؟؟ وكان العم ازرق يقول بان افة ابناء السودان وعيبهم الكبير فى انهم لا يقبلون بعضهم البعض و الكل يريد ان يكون هو الحاكم و الرئيس و استشهد بالحروبات المتتالية و الدمار الكبير للسودان فى فترة حكم الخليفة عبدالله التعايشى والذى كان سببه الرئيس هو صراع على الحكم و السيطرة بين الخليفة الذى يتمسك بشرعيته للحكم وفقا لوصية الامام المهدى و خصومه الذين لا يعترفون به كحاكم للسودان و خليفة للمسلمين ! ويبدو ان اراء العم أزرق كانت متسقة مع مع ماقاله المفتش الانجليزى للناظر منعم منصور ناظر عموم قبائل الحمر فى غرب السودان وفقا لما جاء فى مذكرات ابنه ابراهيم منعم منصور وزير المالية الاسبق فى عهد النميرى ففى الحفل الذى اقامه الناظر بمناسبة انتهاء عمل المفتش الانجليزى و مغادرته النهائية للسودان , اذ انه سأل الناظر هل السودانيون يستطيعون حكم بلادهم بانفسهم بعد مغادرة الانجليز ؟ فكان رد الناظر فوريا بان السودانيون يستطيعون حكم انفسهم وهم ليسوا باقل من الاثيوبيين الذى يحكمون انفسهم ! وهنا نظر المفتش مليا للناظر وقال له ان اكبر مشاكلكم هى الحسد !! فانكم تحسدون بعضكم البعض ولا احد فيكم يرضى بان يكون السودانى الاخر افضل منه بل تنفرون من ان يحكمك سودانى مثلكم ! ويواصل المفتش القول فيذكر بانه يتلقى يوميا شكاوى اغلبها كيدية ضد السودانيون الذين يتقلدون وظائف حكومية ولا توجد شكاوى من السودانيين ضد الموظفين الانجليز !! . ويبدو ان وجهة نظر العم ازرق كانت صحيحة الى حد كبير , فقبل ان تكمل الحكومة المدنية الوطنية الاولى عامها الثانى حتى حدث انقلاب الجيش الاول فى 17 نوفمبر 1958م برئاسة عبود , والحق يقال بان الجيش لم يكن يفكر فى استلام السلطة و الانقلاب على الحكومة المدنية المنتخبة ولكن ولان السودان بلد كل العجائب و الغرائب فان رئيس اوزراء الحكومة فى ذلك الوقت عبدالله الخليل هو من قام بالاتصال بالجيش و حثه على استلام السلطة وكان ذلك بسبب التشاكس و التنافر داخل حكومته المدنية المنتخبة وطبعا فلقد وجدها الجيش فرصة سانحة و لقمة سائغة فقام بالواجب على اكل وجه انها اشبه باغراء القط بقطعة سمك ! !! وتلك كانت بداية تدخل الجيش فى الساسة وجعل نفسه رقيبا وصيا على الحكومات المدنية يقوم بالانقلاب عليها متى ما راى من وجهة نظره تدهور الاحوال و دمار البلاد بسبب الحكومات المدنية ! وكما يقولون " من ديك وعيك" وحتى الان فان ازمة البلاد الحالية تعود جذورها الى العام م 1958
وبعيدا عن الجدل الغير منطقى و العاطفى من الجانبين ( مادحين و منتقدين الاستعمار البريطانى ) , فان هذا الحكم للسودان 1899-1956م كان من اهم الاحداث فى تاريخ البلاد ! و يستطيع الحانقين المنتقدين لهذا الحكم ايراد الكثير من الامثلة السيئة بدءا من مذبحة معركة كررى فى 2 سبتمبر 1898م والتى استشهد فيها قرابة ال18 الف سودانى فى خلال ساعتين فقط الى سياسة تفرق تسد و المناطق المغلقة و مشكلة جنوب السودان , ولكن فى المقابل فان هذا الحكم قد قدم الى ابناء السودان من خيرات و خدمات عجزت كل الحكومات الوطنية من تقديمها , واذا نظرنا الى حال السودان قبل حكم الانجليز و بعده ( كيف وجدوه و كيف تركوه) لكانت المقارنة بدون شك فى صالح الحكم الاستعمارى البريطانى فلقد استلموا دولة محطمة منهارة تماما انهكتها الحروب و المجاعات وتركوها دولة عصرية متقدمة على كل البلاد فى المنطقة من جميع النواحى وهذا امر لا يقبل الجدال , ومن المعروف بان اكبر مشكلة واجهت الانجليز عند بدأ حكمهم للسودان هو قلة عدد السكان مقارنة بمساحة البلاد الكبيرة , وتشير الاحصائيات بان عدد سكان السودان قبل الحكم المهدى كان 8 مليون وانخفض بعدها االى 3 مليون اثناء فترة الحكم المهدى بسبب ماذكرناه من الحروب و المجاعات و الاوبئة و انعدام الخدمات الصحية العصرية المنتظمة , والمدهش فى الامر بان اهلنا الذين عاصروا فترة حكم الانجليز كانوا فى اغلبهم يمدحون تلك الفترة الاعمال , وقد كان لافتا للنظر عندما اجرى موقع سودانيزاونلاين استطلاعا الكترونيا فى العام 2011 عن من هو " افضل حاكم اجنبى او وطنى فى السودان" فقد كانت النتيجة هى ان الاغلبية الساحقة من المصوتين قد صوتوا الى ان الحاكم الانجليزى كان هو الافضل للسودان بكل المقاييس , وكأن لسان حال السودانيين يغنى " كان بدرى عليك" وهى الاغنية الشهيرة التى يرددها السودانيون كلما رحل عنهم شيئا عزيزا مبكرا و الغريب بان عمر احمد مغنى هذه الاغنية والتى كان قد سجلها فى الاذاعة و عمره 13 عام فقط وهى من كلمات والحان الشاعر والملحن الاسطورة عبدالرحمن الريح كان قد توفى الى رحمة الله فى العام 1956م وكان عمره فقط 20 عام اثر علة لم تمهله طويلا وصدقت فيه كلملات اغنيته وكانما قدر السودان بان لا تستمر الاشياء الجميلة طويلا معه!! . وبالعودة مرة اخرى الى الاستطلاع فقد جاء فيه الاتى: من الملاحظ أن نتيجة هذا الاستطلاع ، والتي نأمل أن تتغير لصالح الحكومات الوطنية، قد جاءت مخيبة للآمال الوطنية لأن رأي الأغلبية الساحقة من المصوتين السودانيين ، حتى الآن ، هو تفضيل حكومة الاستعمار الانجليزي على كافة الحكومات الوطنية السودانية ومن المؤكد أن هكذا تصويت يثبت ما يلي ( على حسب تحليل منظمى الاستطلاع)
أولاً: الاعجاب القديم الجديد بحكم الانجليز الذين استعمروا السودان منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى النصف الثاني من القرن العشرين ، ففي أثناء حكم عبود وحكم نميري كان عدد معتبر من شيوخ السودان يقولون بلا حرج: "رحم الله الانجليز فقد كانوا يوفرون لنا الجاز والسكر حتى في زمن الحرب" ، فبالنسبة للأجيال التي عاصرت الاستعمار الانجليزي كان حكم الانجليز يعني لهم دقة وانضباط سكك حديد السودان ونجاح مشروع الجزيرة وتفوق جامعة الخرطوم وتوفر خدمات الماء والكهرباء والصحة وازدهار الأندية الرياضية والاجتماعية والثقافية... الخ ، ولعل جميع السودانيين قد سمعوا من كبارهم تلك المقولة التي مفادها أن الجنيه السوداني الواحد كان يساوى عدة دولارات أمريكية في زمن الانجليز و يتفوق على نظيره الجنيه الاسترلينى البريطانى نفسه . يجب علينا ان نعترف بان الفشل الحالى وتدهور بلادنا الحبيبة ووطننا الغالى كان بسببنا نحن لا بسبب غيرنا ولا اعتقد بان الحسد و الغيرة التى ذكرها المفتش الانجليزى هى العلة الرئيسة فيما حدث و يحدث , ولعل الكلمة التى القاها روبرت هاو البريطانى الذى حكم السودان فى الفترة من 8 أبريل فى حفل وداعه والذى بدأ كلمته مادحا لابناء السودان معددا كريم صفاتهم و اخلاقهم و تميزهم عن بقية الشعوب وبعدها قال قولته الشهيرة والتى اعتقد بانه قد لامس فيها جوهر الحثيثة حين قال:
"إنكم أيها السودانيون شعوب مختلفة في شمال البلاد وجنوبها، وفي غرب البلاد وشرقها. شعوب ذات أصول مختلفة وعادات متباينة. وهذه الاختلافات قد تمثل نقطة قوة، وقد تمثل في ذات الوقت نقطة ضعف. وقد تمثل نقطة قوة إذ أن التنوع يولد حيوية عظيمة، وقد تمثل نقطة ضعف، إذ أنها قد تفضي إلى نزاعات مدمرة"
والان وبعد مرور اكثر من ال66 عام هل لايزال حديث المستر هاو ساريا ؟؟
فى الختام لابد لنا من الاحتفال باستقلال البلاد فهذا هو الامر الطبيعى و المنطقى ونظل نردد بصدق مع وردى " اليوم نرفع راية استقلالنا" ولكن مع هذا الاحتفال يجب ان نسال انفسنا , هل كنا جديرين بهذا الاستقلال ؟ وهل نحن الان نشرف بلدنا ونرفع من شانها و نسعد انسانها و سكانها ؟
وكل عام و انتم بخير

amirrshahin@gmail.com

 

آراء