استكمالاً للانفصال: القوات المسلحة تحزم حقائبها في رحلة العودة شمالاً .. تقرير: خالد البلولة إزيرق

 


 

 


khalid balola [dolib33@hotmail.com]
بدأت القوات المسلحة السودانية في حزم امتعتها بالجنوب، والتوجه شمالا في آخر مراحل استكمال تنفيذ اتفاقية السلام الشامل التي قضت بانفصال الجنوب، انسحاب تتثاقل الخطى فيه لدى الجيش الذي وجد افراده انهم في وطن غير وطنهم دون ان يغادروه، بل عليهم مغادرته بعد ان اختار الجنوبيون ان يكون لهم وطناً خاصاً بهم بموجب استفتاء تقرير المصير الذي جرى في التاسع من يناير الماضي، وما اقساه من انسحاب حينما يتعلق الارتباط فيه بالارض وذكريات امتدت لأكثر من خمسين عاماً.
حيث انهى مجلس الدفاع المشترك مهام القوات المدمجة المشتركة التي تشكلت بموجب اتفاقية السلام الشامل كنواة لجيش السودان اذا قدر للاستفتاء على تقرير المصير ان يكون لصالح الوحدة، فيما ابقى مجلس الدفاع المشترك فقط على القوات المشتركة الخاصة في ابيي التي مازالت تراوح مكانها، وقال المتحدث باسم مجلس الدفاع المشترك اللواء بيار اتيم، ان مجلس الدفاع الذي انعقد بجوبا مؤخراً، أمن على ابقاء لواء القوات المشتركة بأبيي لتامين حركة المواطنين شمالاً وجنوباً، على ان تبقى رئاسة اللواء في ابيي وتستمر مهامها الادارية حتى شمال منطقة دفرة، كما قرر المجلس ابقاء قوات تأمين البترول لاداء مهامها المتفق عليها بين الجانبين لمناطق فلج وشمال بحر الغزال. اللواء دكتور محمد الامين العباس، الخبير الاستراتيجي، وصف لـ»الصحافة» انسحاب القوات المسلحة من الجنوب بأنه مرحلة مهمة فيها تنفيذ لاتفاقية السلام الشامل بصورة شاملة، تبدد هواجس واشكال التدخل العسكري بين الدولتين، وقال ان هذه الخطوة تضع «اللبنة» الاولى لعملية السلام وحسن النوايا بين الدولتين، وبالتالي لا يوجد سبب للتدخل العسكري بين البلدين، واضاف «الانسحاب يجعل المدخل لحل القضايا بين الطرفين سياسياً، وان اي قضية تبنى على ما يعرف بالعمل السياسي وليس التهديدات العسكرية» واشار العباس الى ان تقلص مساحة السودان امام القوات المسلحة لا يعني سيطرتها على حدود، واضاف «مهما كانت موارد السودان وامكانياته فانه لا يستطيع تغطية حدود السودان، وقال اذا لم تكن هناك علاقات آمنة لا تكون هناك حدود آمنه، مشيرا الى ان الاستراتيجية المهمة التي يجب ان يعمل لها ان الحدود تأمن بحسن الجوار بين الدولتين» واشار العباس الى ان هناك العديد من دول الجوار تؤثر على السودان بشكل مباشر، واذا لم تكن هناك حدود آمنه بمثل ما حدث مع تشاد ستخلق الكثير من المشاكل الامنية، وقال «اذا استفدنا من دول الجوار في تبادل المنافع افضل لنا من انتاج البترول».
اذاً القوات المسلحة بهذا القرار تستكمل آخر مراحل انسحابها من الجنوب، ولم يتبقَ لها سوى قواتها المشتركة في لواء ابيي وكذلك تأمين البترول، بالتالي فإن المهام الدفاعية للقوات المسلحة تتراجع شمالاً نتيجة الانفصال وتتقلص مساحات الوطن حوالي (650) ألف كيلو متر، هي مساحة الجنوب. وكانت القوات المسلحة اكملت انتشارها بنسبة (100%) تنفيذا لبروتوكول الترتيبات الامنية في اتفاقية السلام الشامل التي قضت بانسحاب الجيش شمال حدود (1956)، ولم يبقَ لها وجود بالجنوب قبل تقرير المصير الذي انتهى بانفصال الجنوب سوى منتسبيها في القوات المشتركة، والذين بدأوا رحلة العودة النهائية الى الشمال، رحلة من المفترض ان تكتمل قبل التاسع من يوليو القادم موعد اعلان الدولة الجنوبية رسمياً بحسبما نصت عليه اتفاقية السلام الشامل. ولكن كيف يبدو وضع الانسحاب النهائي للقوات المسلحة من الجنوب على الوضع الاستراتيجي للسودان الذي تقلصت مساحته حوالي (600) ألف كيلو متر. الدكتور حسن الساعوري،استاذ العلوم السياسية بالجامعات السودانية، قال لـ»الصحافة» ان يتعامل السودان مع جار واحد «الجنوب» بدلا من ثلاثة جيران افضل له، لأن تعدد الجيران فيه احتمال التوتر مع واحد او اثنين كبير، لكن التعامل الافضل مع الجار الواحد يتوقف على مستقبل العلاقة مع الدولة الواحده «الجنوب» وبقراءة الشكل الطبيعي للعلاقة يتوقع ان تكون العلاقات حميمة وعلاقات متشابكة اقتصاديا واجتماعيا، وعلاقات تعاون، خاصة وان الدولة في الجنوب محتاجه لمساعدة في بنياتها التحتية وبالتالي تحتاج للامن، لذا من المفترض ان تسعى لعلاقات جيدة مع الشمال، واضاف الساعوري «لكن المشاكل العالقة بين الطرفين وهي مشاكل «الحدود، ابيي، الرعاة» ولو لم تحسم قبل اعلان الانفصال ستظل عاملاً للصراع بدلا ان تكون عامل استقرار» واشار الى ان العلاقة الاستراتيجية مرهونة بهذه القضايا العالقة، ويمكن ان تصير عنصرا للتوتر اذا كان سيطر دعاة السودان الجديد على صناعة القرار في الجنوب لأنهم سيتعاونون مع حركات التمرد في الشمال وبالتالي يصبح الجنوب عنصرا للتوتر بين الدولتين، وقال لذلك استراتيجيا الجيش عليه ان يضع في حساباته الاحتمالين الاستقرار والتوتر» مشيرا الى ان اغلب الاحتمالات هو التوتر وليس التعاون، لذا على الجيش ان يرتب امره لحراسة هذه الحدود التي ستحتاج لامكانيات كبيرة لطبيعة المنطقة، وهذا تحدي جديد في وقت يحتاج فيه السودان ان يستقر وان يحول امكانياته لتنمية وليس للحرب، واشار الى ان القوات المشتركة في ابيي وتامين البترول ستكون بذرة للتعاون العسكري بين الدولتين، وتوقع ان تنمو وتفسح مجالا كبيرا للتعاون بين الدولتين مستقبلا.
ويرجع مراقبون الانسحاب الفعلي للقوات المسلحة من الجنوب بأنه تم في التاسع من يناير 2005م حينما اقرت اتفاقية السلام الشامل ذلك، مشيرين الى ان الوحدات المشتركة كتجربة جديدة خرجت بها اتفاقية نيفاشا لم تثمر أكلها، بل كانت مصدر قلق وتوتر بين الطرفين في كثير من الاحيان، واشاروا الى ان انهاء عمل هذه الوحدات وتفكيكها بعودة كل قوات الى منطقتها ليس فيه جديد على مستوى الارض بعد الانسحاب الكبير للقوات المسلحة من الجنوب. وحول تأثير تفكيك الوحدات المدمجة وبدء انسحاب الجيش شمالا بمثلما تبدأ قوات الجيش الشعبي الانسحاب جنوباً على مستقبل الوضع الاستراتيجي للدولة السودانية، التي ستفقد بهذا الانسحاب حوالي ربع مساحتها وسكانها، كما انه ستتقلص دول جوارها وستفقد جيرة ثلاثه من الدول هي «الكنغو، يوغندا، كينيا» وستنشأ على ضوء ذلك اطول حدود للسودان مع الدولة الجديدة والتي تبلغ حوالي (2000) كيلو متر، حدود ربما تلقي بعبء امني آخر على القوات المسلحة في مراقبة اطول حدود لها تذهب كل المؤشرات الى انها ستكون غير مستقرة ومتوترة. ولكن الدكتور عمر عبد العزيز، استاذ العلوم السياسية بجامعة جوبا، قال لـ»الصحافة» ان انسحاب القوات المسلحة الذي اقر في التاسع من يناير 2005م كان سحباً للسيادة الوطنية من الجنوب وتسليمه لجيش الحركة الشعبية، وقال ان هذا الانسحاب كان له دور كبير واساسي في كل الاحداث السياسية التي جرت بعد ذلك، خاصة «الانتخابات والاستفتاء» التي بحسب رأيه لم تعبر عن رأي المواطن بالجنوب، واضاف «اذا كانت القوات المسلحة بالجنوب وقتها لما حدث ما حدث» ووصف ما يجري الآن من انسحاب للوحدات المشتركة بأنه عملية تفكيك لقوات مشتركة لم تحقق اي غرض، وكانت تجربة مصنوعة لم تلعب دوراً ايجابياً، ولم تكن مدمجة بشكل حقيقي، وقال عبد العزيز «القوات المسلحة عندما تعمل قراءة استراتيجية تنظر للمهددات الداخلية والخارجية، ونقاط الضعف الداخلية والخارجية، وقال ان مؤشرات العداء في هذه الحدود أكبر من مؤشرات حسن الجوار بين الدولتين، خاصة وان الدولتين لديهم مشروعان متناقضان «الحضاري والعلماني» بالاضافة الى ان التحالف القائم والعميف بين القوى الغربية المتفقة مع الجنوب والمعادية للشمال يجعل دولة الجنوب «مخلب قط» لخلق التوتر مع دولة الشمال، وقال «اتوقع هذا العام ان يكون ساخناً على الشمال عسكريا وسياسياً واقتصادياً» واستبعد عبد العزيز ان تواجه القوات المسلحة في المرحلة القادمة بأي غزو خارجي، لأن الحركة الشعبية لن تستطيع ذلك بحسب رأيه وانها لم تحقق سابقا اي هزيمة على الجيش، وقال ان السيناريو المقبل سيكون عملية استنزاف على الحدود لزيادة الانفاق العسكري لانهاك الدولة، وتوقع ان يكون التحدي الاكبر في الامن الداخلي والضغط السياسي، واشار الى ان السودان سيكون في المرحلة المقبلة اقرب للنموذج «الليبي» منه الى «المصري».  
 

 

آراء