استِعَادَة المَدِينة: مُؤسف أن توجد في وطنٍ يكونُ حُلمك الوحيد أن تُغَادِرَهُ 

 


 

 

(أرادت الدكتاتورية في الأورغواي من كلّ شخصٍ أن يقف وحيداً، أن لا يكون أحداً. في السجون، والثكنات، وفي البلاد كلها كان التواصل جريمة).

إدواردو غاليانو

(المعانقات)


نعم، كانت هنا مدينة، تضجُّ بالحياة والحيوية نهاراتُها وأمسياتُها، لا تُشبه المسخ الكريه والمشوَّه الذي صارت إليه عاصمة السودان المثلثة.

الخرطوم تتريَّف، تفقد سَمتَها المدينيّ، المتحضّر، الذي حافظت عليه إلى مطلع الثمانينات، "طفلةً تنامُ قسراً في السابعة مساْ"، كما وصفها أحدهم.

تتريَّف في أنماطِ السلوك، أزياء النساء والرجال، احترام الخصوصية، المعمار و..... تتحول إلى قرية –عملاقة!!- تطارد في أمسياتها الكئيبة المظلمة، الكلابُ الضالّةُ سيارات (الأمجاد) التي تُسَيَّر محركاتها بالغاز. أين؟! في شارع القصر، جوار سينما كولزيوم –التي كانت–، اختفت الإضاءة تماماً من أغلب شوارعها الرئيسية، والفرعية بداهةً. نَشَرَت الصحف تصريحاً للوالي حول هذا الأمر أعلن فيه تنصّل الدولة...إلخ.

ملابسات عديدة ومتشابكة شكَّلت ما آلت إليه الخرطوم، صَنَعت محنتها، وصنَّفتها ضمن قائمة المدن الأقذر والأسوأ في العالم –إن لم تكن تتصدر القائمة- يعنيني هنا أمرٌ مُحدَّد، أرى أنه ساهم بفعالية في صناعة الكارثة المسمّاة الخرطوم الآن، هذه التي يفضِّل شبابها الموت غرقاً في المتوسط على البقاء فيها: (من المؤسف أن توجد في وطنٍ يكون حلمك الوحيد أن تغادره)؛ على جدارٍ في أحد الشوارع المتفرعة من شارع المك نمر، كَتَبَ أحدهم.

(2)

ضمن ما أصاب الخرطوم وباقي مدن السودان في مقتل، اغتال كل ما يَتَنفَّس فيها من حيوية، عافية وجمال، كانت سيئة الذكر (قوانين سبتمبر). الحصينة بإرهابٍ وضجيجٍ غوغائيّ صاحب صدورها، وما زال يُهَدِّد كل من يجرؤ على مقاربتها؛ سَدَّ المنافذ على كلّ محاولةٍ للنظر إليها نقدياً، وتقييم مساهمتها في ترييف المدينة، ومنحها كل هذا القبح.

في سبتمبر 1983م أصدر الجنرال جعفر نميري -وقد أصبح إماماً وخليفةً للمسلمين، بل ومُجَدِّد القرن كما وَصَفَه حسن الترابي (مستشار رئيس الجمهورية، ولاحقاً النائب العام)، وفحوى اللقب أنه، وفي كلّ مائة عام، يظهر من يُجَدِّد الدين ويعيد له شبابه، وأن المائة الأخيرة كانت من نصيب سعيد الحظ جعفر نميري- أصدر المُجَدِّد قراره بتطبيق الشريعة الإسلامية في بلاد السودان.

أعقب قراره –مباشرةً- هجومُ العشرات -هؤلاء الذين يُجيد الأخوان المتأسلمين بوسائلهم الشيطانية حشدهم- يتقدّمهم مجدد القرن شخصياً، وكتائبه الأمنية وشرطته، على البارات، حيث انهالوا على زجاجات الخمر تحطيماً، رموها في النيل وسط احتفالات وضجيج غوغائيّ، مُفتَتِحَاً عصراً من الغوغائية والانحطاط، وبضربةٍ واحدة رَجَعَ بالبلاد مائة عام إلى الوراء، ما حادَت بعدَه عن السير في الاتجاه الذي رَسَمَهُ لَها.

طالت بعدها الأحكام الحَدِّية بالقطع من خلاف، الصلب، الجلد و.... إلخ؛ أجساد الفقراء، وتطرَّفَت لاحقاً إلى غرز المسامير في الرأس! والخوزقة! وجرائم وبشاعات لا تُحصَى في بيوت الأشباح.

بسبب سرقة بضعة جنيهات لسدّ الرمق، بُتِرَت أطراف العديدين، بينما كانت تتهيأ للطفيليين من الإسلاميين وأشباههم –ممن أبتلينا بهم الآن- نهب موارد البلاد. كانت السرقة والنهب الطفيلي تُعلِن عن نفسها في مجمعات سكنية، شركات، وبنايات شاهقة. يصنعون بيوتهم ومكاتبهم وواجهاتهم الاستثمارية على شاكلة ذائقتهم الجمالية المُعاقة، ووجدانهم المشوه.

كانت الخرطوم تتهيَّأ لتتصدَّر قائمة المدن الأكثر قبحاً.

(3)

"الشروع في الزنا"، "الزي الفاضح" وسيل من التّهم الجزافية صُمِّمت خصيصاً لقهر النساء. يبثها التلفريون في توقيت معلوم، دون أن ينسى ذكر اسم الفتاة الرباعي؛ مكان عملها أو دراستها وسكنها، وتنشرها الصحف في تشهيرٍ واغتيالٍ معنويّ لا يمت للأخلاق ولا الإنسانية بصلة.

بسبب اضطراباتهم النفسية وهوسهم الجنسي، لن يخطر ببالهم سوى الشيطان حاضراً أيّ لقاءٍ في أيّ مكانٍ وزمانٍ بين رجلٍ وامرأة. ودخلت قاموسنا اللغوي -لأول مرة- المفردة الهمجيَّة (الكشَّة!)، تستهدف نساء ورجال الطبقات الفقيرة من الباعة، السابلة والمتشردين.

والضجيج الغوغائي الغبي لا يتوقف، يأتي من جميع الاتجاهات، التلفزيون، الإذاعة، الصحف ومكبرات الصوت المرتفعة، بصورة لا إنسانية، من المساجد، الزوايا والأسواق.

أعتقد أن لهذا الحدث الخطير أبعاداً أكبر بكثير من مجرد محاربة "الرجس والخمور" (ابتغاء مرضاة الله) كما ظلّ يردد إعلام الإسلاميين بإلحاح، وبصورةٍ تُطَابِق تقنية غسيل المخ كما تمارسها الشركات التجارية في الإعلان عن منتجاتها التي لا يحتاجها أحد، إلا أن تكرار الإعلان، وإلحاحه، يتكفَّل بخلق هذا الاحتياج؛ إذ يُعَطِّل ملكة التفكير والنقد.

بهذه التقنية تحديداً استطاع المتأسلمون، برغم كل نفاقهم، فجورهم وفسقهم، فضائحهم الجنسية والأخلاقية المبذولة في وسائط التواصل الاجتماعي؛ برغم اعتراف أحد منسوبيهم في محاكمة قتلة الأستاذ أحمد الخير، بأن وظيفته الرسمية التي يُمنَح بموجبها راتبه ومخصصاته من (دولة الإسلام!) هي -والعياذ بالله- (مغتصب!)، برغم كلّ هذا وأكثر؛ استطاع هؤلاء الأفَّاقين إقناعنا بأنهم وكلاء الله في الأرض. يوزعون تهم الكفر والإلحاد بسخاء على كل من اعترض سبيلهم. لم يبق لهم إلا بيع صكوك الغفران.

هل من إساءة وابتذال نالها دين الله أكبر من هذا؟ المؤسف أكثر أن كل القوى الاجتماعية والسياسية والأفراد المعارضين لمشروعهم خضعوا لهذا الابتزاز، وكم كان مُكلِّفاً هذا الخضوع.

أستثني الأخوة الجمهوريين، فقد عارضوا، بثباتٍ واستقامة، كل هذا الدجل. وقدم المفكر محمود محمد طه حياته ثمناً لموقفه الرافض لها. منحها اسمها الحقيقي: (قوانين سبتمبر) منسوبةً للشهر الذي صَدَرت فيه.

هل كان يُتصوّر أن تُوَظِّف دولتهم (التقية!) (أخصائي اغتصاب!) حين وصفهم بأنهم (يفوقون سوء الظن العريض)؟. ويتفوقون على الخيال أيضاً؟.

ما راكمته وتُراكمه لأربعة عقود -قوانين سبتمبر المشئومة- لم يكن أمراً بسيطاً، فقد كانت المقدمة والمسوّغ للحروب الرسالية التي اندلعت في أرجاء الوطن لاحقاً، وقَسَّمَته، وما زالت نيرانها لم تُخمد، أَفرَخت المليشيات، تُجّار السلاح، أثرياء وأمراء الحرب، وأعداداً لا تحصى من القتلى، المشردين والنازحين، وما زالت تُسَمِّم الحياة السياسية والاجتماعية في السودان.

ولا ندري إلى أين تمضي بنا!

(4)

(إنها لا تساوي الحبر الذي كُتِبَت به)، هكذا وصفها السيد الصادق المهدي، فهل تساوي الدم الذي ما زال يكتبها؟!. المهدي، وبرغم مزايدته المعروفة على الدين، لم يَجِد ما يدافع به عن هذه القوانين المسماة "شريعة". لعلّها المرة الأولى طيلة حياته السياسية التي يبدو فيها اسماً على مسمَّى.

سرعان ما نَكَص عن موقفه هذا عندما تغيَّر موقعه من المعارضة للسلطة -وهذا دأبه– فمارس ما وسعته قدرته، وما يزيد، في التسويف والمماطلة حين طالب الشعب بإلغائها، إلى أن فتح الله عليه بانقلاب الإسلاميين، ومعلوم تواطئه مع انقلابهم في يونيو 1989 (بشهادة إدريس البنا وإبراهيم منعم منصور، الموثقة).

في يونيو التعيس هذا، وقد آلت السلطة للمتأسلمين، الصناع الحقيقيين لهذه القوانين المتوحشة التي لم يمتلكوا الجرأة لإعلانها بأنفسهم فاختبأوا خلف الجنرال الأهوج والغبي؛ تناسلت منها سلسلة من القوانين، وقامت مؤسسات حقَّقت الهدف الأصلي من تشريعها، كما لخَّصه الأستاذ محمود مجمد طه ببصيرة نافذة واستقامة عُرف بها: (إذلال الشعب وسوقه إلى الاستكانة). هذا الإذلال والقهر الذي أنجزته بكفاءة نادرة، سيئة الذكر، شرطة وقانون النظام العام، والذي سيظل وصمة عار في تاريخ مؤسسة العدالة في السودان، لا يعني محاولة القفز عليها، سوى النيّة المبيَّتة في بعثِه من جديد.

(5)

 ثمة أمرٌ آخر لا يقلّ خطراً في أمر هذه القوانين المعيبة: السيطرة والتحكم في الفضاء العام في المدينة، بحيث يبدو إغلاق البارات، محاصرة الحدائق العامة والمنتزهات، الدور المهنية والفنادق وغيرها من الأماكن بحجّة تقديمها المشروبات الروحية لمرتاديها؛ تبدو جميعاً كرأس جبل الجليد.

تم بمقتضى هذه القوانين تجفيف وسط المدينة من مجمل الخدمات الضرورية التي كانت توفرها الحيوية الدافقة فيه، فانعدمت المواصلات، المطاعم وكافة الخدمات في الأمسيات، ليصبح وسط المدينة وقلبها النابض، مكاناً مهجوراً، موحشاً لا يجرؤ أحد على عبوره. كانت أيضاً المقدمة لإغلاق المقاهي، دور العرض السينمائي، المسرح، تدمير أعمال النحت، التسامح الديني وحريات الأفراد الشخصية في الزي و.. وماذا تبقى للمدينة لتستحق اسمها؟!.

إنه ضَربٌ تحت الحزام أصاب المدينة والمدنيَّة في بلادنا في مقتل، وساهم في تمهيد الأرض للترييف الراهن. زلزالٌ حقيقيّ اقتلَعَ المدينة وثقافاتها من أساساتها، لم تكن الأهداف المعلنة له سوى تمويه ماكر يخفي دوافعه الحقيقية.

تضاعف استهلاك الخمور المُنتَجَة محلّياً عشرات المرات، بل أن السودان يتصدر قائمة استهلاك الكحول في إفريقيا، بحسب محرك البحث (Google)، ومعلوم الشروط الصحية المتردية التي يتم إنتاجه فيها. تضاعفت شحنات المخدرات بأنواعها، المهرَّبة بـ(ختم الدولة لا حولا وأوراقها الثبوتية)# حاويات! وشحنات تحملها الطائرات بكميات مهولة يهربها مجهول!.

(6)

هل كان من الصعب على الأخوان المتأسلمين بمسمياتهم المختلفة، وقد سيطروا تماماً على البلاد والعباد لثلاثة عقود، لا شريك لهم، بإمكانيات وقدرات أجهزتهم الأمنية التي سخَّروا لها موارد البلاد، فعلت ما فَعَلت مما لا يتّسع له المقام؛ هل كان يعجزها القضاء تماماً على بيع وتداول الخمور المنتجة محلياً، ابتغاء مرضاة الله (جل وعلا)؟.

لا أعتقد ذلك، فالقادر، بعون الله واستخبارات (دول الاستكبار!) وحلفائها الإقليميين، على صناعة الخراب في كلّ شبرٍ من المليون ميل مربع الذي كانَه السودان، مَنْ يستهدف إعادة صياغة الإنسان السوداني –هذا الشعار المفرط في الطموح والمُتغَطرس- لن يعجزه منع بضعة نسوة مقهورات ألجأهم الفقر والنزوح وقلة الحيلة لتصنيع وبيع ما لا يُرضِي الله ورسوله. كان ذلك ممكناً، دون شك.

خطوة للأمام باتجاه الصياغة الجديدة لإنسان السودان!

لكنه التمويه الماكر والخبيث. كل شيء كان يتم بمباركتهم. أن يُعاقر الكفرة ببرنامجهم -وبالله بالضرورة- الخمر الرديئة والقاتلة، الـsprit بأضراره الجسيمة التي تؤدي لفقدان البصر وللموت، والمخدرات بأصنافها المتعددة والمدمرة، في أزقة الأحياء الشعبية، في الخفاء خشية أن تضبطهم شرطة النظام العام ليواجهوا العقوبات الممعنة في التخلف، والتي تجاوزتها البشرية ومواثيق حقوق الإنسان، بالطبع بهدف إهانة كرامتهم و(إذلالهم وسوقهم إلى الاستكانة) كما عبر الأستاذ محمود محمد طه.

وفي العلن، وعلى مرأى من الجميع، تسمَح السلطات للأطفال المشردين باستنشاق مادة (السلسيون) المخدرة والقاتلة.

من يستورد هذه السموم وبهذه الكميات؟ هل من غرض لها سوى استكمال الإبادة الجماعية لمن أفلت من جحيمها في دارفور، جبال النوبة، جنوب النيل الأزرق وجنوب السودان الذي كان؟

كتب الصحفي الفاتح جبرا على صفحته بالفيسبوك تحت عنوان (ناقوس الخطر) ما يلي: "البلاد هذه الأيام (والعاصمة بالذات) يغزوها واحد من أخطر أنواع المخدرات على الإطلاق يسمونه (الكريستال)، أو (الآيس)، وهو مخدّر فائق الخطورة، بل تفوق خطورته جميع أصناف المخدرات مجتمعة وهو مخدر كيميائي مُعقَّد من أصل غير نباتي، يُستَخلص من مادة (الامفيتامين) الكيميائية، وتكمن خطورته لكونه مخرباً (سريعاً) لجميع الخلايا العصبية لدى الإنسان. مع بداية تعاطي الشباب له يشعرون بإحساس عال من النشوة والسعادة، ولكن سرعان ما تختفي تلك السعادة فيبدأ المتعاطي في إبداء سلوكٍ عدوانيّ مفرط تجاه جميع من حوله وحتى نفسه نتيجة هلاوس سمعية وبصرية، يصاحبها فقدان الوزن وسقوط الأسنان وارتفاع معدلات دقات القلب مع التدمير المتواصل للخلايا العصبية. سرعان ما يتحول ذلك الشاب (النضير) المفعم بالحيوية بعد شهور قلائل إلى عجوز في السبعينات" (انتهى).

هل هي إبادة جماعية من نوعٍ آخر؟ مارست بريطانيا، إبان استعمارها للصين، ما يتطابق مع هذا في مواجهة المقاومة الوطنية في ما عُرِفَ بـ(حرب الأفيون).

إقصاء وتدمير غير المُوَالِين، بكل الوسائل، طردهم من الفضاء العام وإلا فقتلهم! منع تجمعاتهم في الحدائق العامة، دور السينما، الندوات والفعاليات الثقافية والسياسية، الحفلات الموسيقية والعروض التشكيلية وحتى الإندايات في أطراف المدينة لم تَسلَم منهم. حتى المقابر -عند تشييع أحد الرموز الوطنية- تجد القوات بكامل عتادها متأهبة، ولن يبخلوا على المتجمهرين بما تيسَّر من الغاز المسيل للدموع، والرصاص أحياناً.

(7)

طوال نشاط المتأسلمين السياسي، ظلّوا كبقعة الزيت على سطح الماء. جماعة معزولة اقتصر نشاطها على المساجد والزوايا، يمارسون فيها نفاقهم وتضليلهم، لم يجدوا غيرها في خلق فضائهم الخاص البديل بعد تحالفهم مع الجنرال الأرعن. و"إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" كما يقول حسن الترابي.

وهل من خيارٍ آخر؟

تكاثر عدد المساجد والزوايا بصورة غير مسبوقة في العالم الإسلامي. بنوا مسجداً في كل الوزارات والمصالح الحكومية، تُتخَذ فيها القرارات وتُدَار الدولة. مساجد في وسط المدينة وفي الأحياء السكنية، تعقد فيها الاجتماعات وتُخبَّأ الأسلحة –كما كان يتم في مسجد جامعة الخرطوم- ويتم فيها استقطاب عضوية جديدة تحت ستار مجموعات التلاوة والدروس الدينية.

أصبحت مقرّات لعملهم السياسي تتم فيها تعبئة الرأي العام لحملاتهم، مع وضد القرارات السياسية، وتصدر عنها مواقفهم السياسية في مختلف المسائل بصيغة فتوى ملزمة وواجبة الاتباع؛ باعتبار قدسية المكان الذي تصدُر عنه.

الأداء الدرامي العاطفي والمنافق أيضاً، ضرورة لتمرير ما يخدم أجندتهم السياسية كما شاهدنا في العرض السمج لإقالة د. القراي ود. محمد الأمين التوم من وزارة التربية والتعليم.

(8)

في محاولةٍ منها للمساهمة المتواضعة في بعث الروح في جسد المدينة الميت، اجترحت "جماعة عمل الثقافية" فعالية مفروش لتبادل وبيع الكتاب المستعمل. اختارت لها ساحة أتنيه بموقعها المتميز وسط المدينة، تقاطع شارع الجمهورية مع شارع القصر، جنوب شرق ساحة الشهداء أحد أيقونات ثورة أكتوبر 1964. وجدت الفعالية حفاوة وترحيباً كبيراً من المطرودين عنوة من الفضاء العام، فضاقت بهم الساحة على اتساعها.

أن يلتقي الأصدقاء، يعود لوسط الخرطوم بعض ألقه، كان جرماً لن يغفره حراس (المشروع الحضاري!)، لهذا كان متوقعاً منعه من الاستمرار بذرائع واهية، رغم حرصه على عدم المساس بعقائد 98% من المسلمين في السودان -حسب الإحصاء العلمي الدقيق الذي أنجزه حسين خوجلي– يؤكد هذا أن الهدف من كل هذا الضجيج هو إقصاء غير الموالين من الفضاء العام. تصاعد هذا الأمر لاحقاً بإغلاق مستشفى الخرطوم التعليمي، تهجير مواقف المواصلات العامة إلى الإستاد، جاكسون وشروني، الشروع في نقل جامعة الخرطوم إلى سوبا، والأنباء عن بيع مبانيها لأحد منسوبيهم.

الهدف الأساسي هو إجلاء وطرد الأهالي، السكان –كما يقولها بصلف أمين حسن عمر- من الفضاء العام بوسط المدينة، مهما كانت أسباب تواجدهم.

(9)


في مدينة طرابلس بليبيا، إبان الاستعمار الإيطالي، كان مُحرّماً على المواطنين الليبيين التواجد لأيّ سبب بشوارع وساحات وسط المدينة. كانت حكراً على المستعمر.

على نفس هذ النهج يمضي المستعمر (المحلي!) مسترشداً بتجارب إيطاليا وإنجلترا وغيرهم في مغامراتهم الاستعمارية، بينما يُوهمنا أنه إنما يسترشد بكتاب الله وسنة رسوله.

أغسطس 2021م

ــــــــــــــــــــــــــــــ

*فنان تشكيلي وكاتب



eltlib@gmail.com

 

آراء