اصلاح مناهج التعليم الديني: الجمود ومخالفة روح العصر -2- … بقلم: بابكر فيصل بابكر
boulkea@yahoo.com
تلقيت العديد من الرسائل الألكترونية والهاتفية التي يعلّق أصحابها على الجزء الأول من هذا المقال, وطالب عدد من القرّاء بألقاء المزيد من الضوء على موضوع العلاقة مع أهل الذمة وغير المسلمين عموما كما وردت في كتاب " الروض المرّبع". ولذا سأقوم بعرض أمثلة أضافية في ذلك الموضوع قبل أن أسترسل في بقية الأمثلة.
بخصوص تحصيل الجزية يقول الكتاب (ويمتهنون عند أخذها أي أخذ الجزية ويطال وقوفهم وتجر أيديهم وجوبا لقوله تعالي " وهم صاغرون" ولا يقبل أرسالها ).
ومن المعلوم أنّ الجزية لا مكان لها في عالم اليوم الذي أختفت فيه دولة الخلافة التي تفرّق بين الناس بسبب أنتماءهم الديني, وأصبح جميع المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات في ظل الدولة المدنية الحديثة القائمة على مفهوم " المواطنة", فما هو اذا الغرض من تدريس مثل هذا الفقه ؟
وبالنسبة لمقادير ديّة النفس فقد جاء في الكتاب أنّ ( ديّة الحر الكتابي الذمي أو المعاهد أو المستأمن نصف دية المسلم لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده"انّ النبي (ص) قضى بأنّ عقل أهل الكتاب نصف عقل المسلمين" رواه احمد, وكذا جراحه, ودية المجوسي الذمي أو المعاهد أو المستأمن ودية الوثني المعاهد أو المستأمن(ثمانمائة درهم) كسائر المشركين روي عن عمر وعثمان وأبن مسعود, وجراحه بالنسبة, ونساؤهم أي نساء أهل الكتاب, والمجوس, وعبدة الأوثان, وسائر المشركين علي النصف من دية ذكرانهم كدية نساء المسلمين). أنتهى
وهنا أيضا يبني الكتاب مقدار الديّة على فكرة التمييز بين المسلم والكافر, والحر والعبد, والرجل والمرأة, وكذلك مفاهيم الشخص "المعاهد" و " المستأمن", وهو تمييز لا مكان له في ظل الدولة المدنية التى يتساوى جميع مواطنوها أمام القانون.
ويذكر الكتاب أن ّ (من شروط قبول الشهادة في المحاكم هو الأسلام وهو الأمر الذي يترتب عليه أن لا تقبل من كافر ولو علي مثله الا في سفر علي وصية مسلم أو كافر, فتقبل من رجلين كتابيين عند عدم غيرهم . أما شروط تولي وظيفة القضاء فمن ضمنها أن يكون الشخص مسلما لأنّ الأسلام شرط العدالة). أنتهى
وهذه الشروط تعني أنّ شهادة القبطي في السودان أو مصر لا تقبل في المحكمة, وأنّ البوذي في ماليزيا لا يحق له الشهادة في المحكمة أيضا, وكذلك لا يحق لشخص مسيحي أو لا ديني أن يتولى منصبا في القضاء لأنّ شرط العدالة كما يقول الكتاب هو الأسلام. وهذا كله مخالف لأحوال العصر الذي نعيشه.
أما فيما يخص صلاة الأستسقاء فيقول الكتاب (وأن خرج أهل الذمة منفردين عن المسلمين بمكان لقوله تعالي:"وأتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة" لا أن أنفردوا بيوم لئلا يتفق نزول غيث يوم خروجهم وحدهم فيكون أعظم لفتنتهم وربما أفتتن غيرهم لم يمنعوا أي اهل الذمة لأنه خروج لطلب الرزق) . أنتهى
ومعنى هذا الكلام هو أن يسمح لأهل الذمة عند الخروج للأستسقاء أن يختاروا مكانا يصلون فيه دون صحبة المسلمين, ولكنه لا يسمح لهم بالخروج للاستسقاء في يوم لا يخرج فيه معهم المسلمون وذلك حتى لا يصادف يوم خروجهم وحدهم نزول المطر فيقولون هذا حدث بدعائنا وصلاتنا, وكذلك حتى لا يفتتن بهم المسلمون الضعفاء فيقولون أنّ الله استجاب لدعاء غير المسلمين وأنزل الغيث.
وقد ورد في كتاب الجنائز النص علي أنّه ( يحرّم أن يغسل مسلم كافرا أو أن يحمله أو يكفنه أو يتبع جنازته ) و بخصوص زيارة القبور فقد نص علي أنّه ( تباح زيارة قبر كافر ).
وفي القول أعلاه يظهر بجلاء الضعف المنهجي الذي يتمثل في عدم توضيح " العلة" في الأحكام. أذ يحق لنا أن نتساءل عن العلة وراء تحريم السير في جنازة الكافر بينما تباح زيارة قبره ؟ واللوم هنا لا يقع على واضع الكتاب الذي يتحدث عن أحوال عصره قبل أربعة قرون, ولكنه يقع على من قرروا تدريس مثل هذا الكتاب في القرن الحادي والعشرين.
أمّا الأقوال الغريبة التي أحتواها الكتاب فكثيرة ومنها على سبيل المثال في قضية التكفير (ويكفر ساحر يركب المكنسة فتسير به في الهواء ونحوه, لا كاهن ومنجم وعرّاف وضارب بحصي ونحوه أن لم يعتقد أباحته وأنه يعلم به الأمور المغيبة ويعزر ويكف عنه. ويحرّم طلسم ورقبة بغير العربي. ويجوز الحل بسحر ضرورة.). أنتهى
وهذا قول فيه من الخيال ما يفوق قصص و أفلام الأطفال. فهل يعقل أن يدرّس طلاب في مطلع القرن الحادي والعشرين مثل هذه النكات ؟ نحن في عصر العلم, وفي زمان الوصول الى كوكب المرّيخ ولكن ليس على ظهر مكنسة !! ويجوّز الكتاب الحل بسحر الضرورة, ومعنى هذا أن نترك أستخدام العقل والعلم وكلما واجهتنا مشكلة جلبنا ساحرا يريحنا من كل عناء البحث والتفكير والأجتهاد, ويمكننا أن نتفوق على جميع شعوب الأرض اذا وفقنا في تجميع مائة ساحر من النوع الذي لا يتأخر في أيجاد الحلول عند الضرورة.
ثم يبهرنا الكتاب بواحد من أسئلته الملغزة (أمرنا بأن نسجد على سبعة أعظم هى الجبهة واليدين والركبتين وأطراف القدمين، ماذا يفعل من خلق برأسين وأربع أيدى وأربع أرجل ؟). وأنا بدوري أترك لك أيّها القارىء الكريم الأجابة على هذا السؤال !!!.
أمّا الألفاظ المنقرضة التي يستخدمها الكتاب فسأختار منها عينة تبيّن مدى المعاناة التي يعيشها الطلاب. فهم على سبيل المثال يقرأون أشياء مثل " لا يجوز لبس السرموزة والجمجم"، و "لابأس علي المرأة أن تصل شعرها بقرامل وهي الأعقصة"، و "يجوز المسح علي الجرموق" و "يجب ان يعرف عفاصها " !!
ويستخدم الكتاب كذلك أنواعا من المقاييس والمكاييل غير موجودة في عالم اليوم, فالطلاب يتعلمون كيفية القياس "بالقلة" والوزن "بالرطل الدمشقي" و "المثقال العراقي", وأنّ المكيال من أجل الزكاة هو "الوسق" الذي هو ستون "صاعا" ولاننسى كذلك الدرهم الاسلامي الذي هو ستة "دوانق" !!!
أما فيما يخص المرأة فأنّ الكتاب يورد أمورا عجيبة ومنها على سبيل المثال أنّه ( لا يلزم الزوج لزوجته دواء وأجرة طبيب اذا مرضت لان ذلك ليس من حاجتها الضرورية المعتادة ) وكذلك ( له أن يمنعها من حضور جنازة أبيها أو أمها ومنعها من أرضاع ولدها من غيره ), وبخصوص دفع قيمة الكفن للزوجة بعد موتها يقول الكتاب أنّ ( الزوج لا يلزمه كفن أمرأته ولو كان غنيا لأن الكسوة وجبت عليه بالزوجية والتمكن من الأستمتاع وقد أنقطع ذلك بالموت). انتهى
وهذه أحكام تحط كثيرا من قيمة المرأة, ومن طبيعة علاقتها بالرجل. فالعلاقة الزوجية رباط انساني مقدّس أساسه الموّدة والرحمة و لا يمكن أختصاره في أمور مادية و غريزية حيوانية مثل " التمكن من الأستمتاع", والذي بأنقطاعه لا يلزم الزوج شراء كفن لزوجته. وكيف يمنع الزوج زوجته من أرضاع طفلها لأنّ والده شخص اخر ؟
وأرفق في خاتمة هذا المقال تعليقا على المقال السابق سطرّه قلم الشقيق الصديق الشاعر الطيب برير, ووصلني عبر البريد الألكتروني :
( الأعز بابكر
محبتي تسبق تحياتي
وددت لو أنك استرسلت قليلاً في بيان وجه اعتراض ما أشرت إليه مع واقع الحياة المعاصر
وما يمكن أن ينتهي إليه الحال لو أن ما تضمنته النصوص أصبح أمرًا نافذًا بسلطان القهر والإكراه.
قارب بين هذه النصوص المبثوثة في الكتب بترحيلها دون معالجة وبين ما يقوم به بعض الأئمة كذلك في خُطب الجمعة والعيدين..
فلقد شهدت في مدينتنا الدويم ولأعوام تحسب بالعقود خطبة تقرأ علينا كل عام عن وجوب إخراج زكاة الفطر بمد من شعير أو زبيب..
لا شعير هناك..
والزبيب يغشانا غشوة اضطرار في رمضان (زينة) عزيزة و"بناتيًا" حبيبًا نتناوله كما نتناول الحبوب ونلوكه برفق الخائف من ذهابه إلى المعدة دون استمتاع بانتظار الحول..
لم نسمع من شيخنا ذاك - رحمه الله - أي حديث عن الفتريتة وطابت ومايو والصفرا كأنها رجس لا يصح أن يرد في خطبة مقدسة في يوم عيد مبجل..
لحين الجزء الثاني من مقالك.. سأعقد جفني على نوافذ الترقب منتظرًا. ) انتهى
ونواصل ........