اعتذار واجب لشارون .. وهولاكو

 


 

 




(1)

قد لا يذكر كثير من الناس أن الربيع العربي قد بدأ في واقع الأمر في عام 1987، وبالتحديد في ديسمير منه، موعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية. كانت تلك اللحظة الحاسمة التي اكتشف فيها العرب قدراتهم الكامنة على صناعة التاريخ. وقد أصبحت تلك الملحمة البطولية ذكرى بعيداً بعد أن تنكر لها البعض، وسعى البعض الآخر لاستغلالها، بينما خذلها الكل، فلم تحقق هدفها الأسمى في تدشين عصر الشعوب في عالم العرب.


(2)

ولكن من الصعب أن ينسى المرء النقطة الفاصلة الثانية من تلك الحقبة الثورية: انتفاضة الجزائر في أكتوبر 1988، وتلك الصدمة! كنا نتابع الانتفاضة الفلسطينية يوماً بيوم، ونحصي قتلاها، شهيداً بعد شهيد. عند تلك اللحظة، كان عدد الضحايا قد بلغ قرابة السبعمائة. ثم جاءت الانتفاضة الجزائرية، وخلال ساعات قتلت السلطات الجزائرية خمسائة متظاهر مدني، فتركتنا في ذهول، وساهمت في وأد الانتفاضة.

(3)

لم تكن "العصابات المسلحة" قد ظهرت بعد، ولم يكن أحد قد سمع بإسلاميين في الجزائر، ناهيك عن أن يكونوا "متطرفين إسلاميين". ولكن عسكر الجزائر حصدوا الشباب المتظاهرين دون أن يطرف لهم جفن. لم ندر وقتها هل ننفجر من الغضب أم نموت خجلاً. فخلال عام كامل، وقفنا نشهد العالم على وحشية الإسرائيليين الذين يقتلون الفلسطينيين العزل يوماً بعد يوم، ثم يأتي هؤلاء "العرب" فيقتلون من المتظاهرين العزل في يوم واحد ما استغرق إسرائيل عاماً كاملاً لقتلهم. وهكذا تحول رابين وبيريز فجأة إلى ملائكة مقارنة مع هؤلاء الوحوش!


(4)

تضاءلت الآن تلك الجرائم بدورها مقارنة مع ما اقترفه العقيد المقتول، ثم الدكتور المرشح. ولم تكن هذه أول جرائمها، فقد تنافسا من قبل، شأن كل شجاع مقدام، في قتل السجناء العزل المحصورين. كان رجال الأسد كالعادة سباقين، حيث قتلوا حوالي خمسمائة نزيل في سجن تدمر وهم نيام في الزنازين عام 1980، وثنوا في عام 2008 بقتل أعداد لم يمكن إحصاؤها من أسرى سجن صيدنايا عام 2008. ولم يتأخر القذافي، فصحد الف ومائتين سجين في أبوسليم عام 1996، لم يكن فيهم من يقدر أن يدفع عن نفسه.

(5)

من الصعب وصف السجناء بأنهم عصابات مسلحة، ولكن الأسد والقذافي تسابقا كذلك في وصف المتظاهرين ضد حكمهما بأنهما من إرهابيي القاعدة، وأعملا فيهما قتلاً وتنكيلاً بسلاح أعد لمنازلة الغزاة. ويعلم الله كم كان سيقتل القذافي لو لم تردعه قوة خارجية، ولكن الأسد وزبانيته لم يقصروا، ولم يردعهم رادع من خلق أو حياء، وهم يدكون الأحياء، ويهلكون الحرث والنسل، دون أن يتلعثم لهم شبيح إعلامي. وفي هذا لا يثبتون فقط أن لا علاقة لهم بأهل سوريا ممن لا يرقبون فيهم إلاً ولا ذمة، بل لا علاقة لهم بأرض سوريا كذلك، حيث لا يبالون بما يدمرونه من مدن بكاملها، ينزلون عليها نزول الطاعون والإعصار، مع الاعتذار للاثنين. حتى المباني الأثرية الخالدة، والمساجد التاريخية، يتعاملون معها شأن البرابرة الغزاة.


(6)

دعونا نتخيل للحظة لو أن إسرائيل ارتكبت في أحد سجونها جريمة تعادل واحد من الألف مما فعله الأسدان والقذافي في سجونهما، أو لو أنها قاربت في غزة أو بيت لحم جانباً قليلاً مما يقع لحمص وحماة وإدلب. أين كنا سنكون اليوم وما ذا كنا سنقول؟

(7)

هذا وحده يكفي لندرك أن شبراً من فلسطين لن يتحرر ما دام يجثم على بلاد العرب حكام مثل هؤلاء، خاصة إذا كانوا هم أدعياء المقاومة والمتاجرين بها. فيكفي أن يشير نتنياهو إلى أفعال هؤلاء حتى يصور نفسه قديساً بالمقارنة. كيف يمكننا الحديث عن الغزاة والأجانب والمستعمرين، ومثل هؤلاء الحكام هم المتحدثون باسمنا، المتبخترون في المحافل بدعوى أنهم سادة بني يعرب وتاج محفلهم؟ هل يمكن لشعوب تسمح لأمثال هؤلاء أن يمشوا على ترابها أن تتحدث عن كرامة أو تفتخر بمجد ماثل أو غابر؟



(8)

لم يعد السؤال المطروح هو حول حتمية سقوط النظام السوري وما لا بد أن ينزل بأكابر مجرميه من العقاب، ولكن هو كيف بقيت مثل هذه الأنظمة جاثمة على صدور الشعوب حتى الآن؟ فإذا كانت هناك أنظمة اتخذت الجريمة في أبشع صورها أسلوب عمل اعتيادي، بل أسلوب حياة، فكيف تستمر في الهيمنة على مجتمعات بكاملها بدون أن تلوث كل المجتمع (بل حتى محيطها الإقليمي وشركائها الدوليين) بجراثيم انحرافها الإجرامي؟ فهي أنظمة لا تقتل الناس فقط، بل تقتل الإنسانية والأخلاق وكل فضيلة.

(9)

هناك ما هو أبعد من ذلك، حين نسمع من يدافع عن هذه الأنظمة، حتى بعد أن سقطت كل الأقنعة، وانكشف كل مستور، خاصة حين يكون الدفاع باسم دعم المقاومة ضد الاحتلال وما إليه، ونحن أمام نظام يخجل الاحتلال من مثل فعله. فمنذ أن استن فرعون مصر سنة قتل الأطفال كوسيلة للقمع والتحكم، فاستحق لعنة الله وملائكته والناس أجمعين، حققت الإنسانية تقدماً وما يشبه الإجماع في وجه جرائم بعينها تفتقد كل عذر ومبرر أخلاقي تحت أي ظرف ومسمى. وقد حرمت المواثيق الدولية هذه الكبائر، حتى في حالة الحرب، بل بالأخص في حالة الحرب. وعليه حين نسمع من أي جهة تبريرات لقتل المدنيين، وحصار وتجويع المدن، والتعذيب الوحشي، وتدمير المستشفيات، وحرمان الجرحى من العلاج، وغير ذلك من الكبائر، فإن الأمر لا يتعلق باختلاف وجهات نظر، وإنما بالانتماء إلى الإنسانية من عدمه. فقبل ان نكون عرباً ومسلمين، فضلاً عن أن نكون مقاومين (أي أنصار حرية، فلا معنى آخر للمقاومة) يجب أن نكون بشراً. فأي نضال من أجل الحرية يمكن ان يقوده وحوش تجردوا من أدنى مقومات الإنسانية؟


Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]

 

آراء