مقدمة: يصادف تقديم هذا الجزء السادس من سلسلة "السُّودان: السُّلطة والتراث" إلى المكتبة السُّودانية العيد الثاني والستين لاستقلال السُّودان (1956 -2018م)، ولايزال السُّودانيون في حيرة من أمرهم؛ إذ أصبح تفكيرهم مشدوداً بإشراقات الماضي الذي نبذوه وراء ظهورهم، وثقتهم في الحاضر أضحت مثقلةً بإخفاقات الحكومات الوطنية المتعاقبة، ونظرتهم إلى المستقبل أمست غارقةً في أمواج من الإحباط العام، الذي جعل حياتهم المجتمعية أسيرة واقعها البئيس، وتطلعاتهم إلى التغيير الإيجابي ذات أفق محدود. يقودنا هذا الافتراض إلى طرح جملة من الأسئلة الجوهرية: ما فائدة الاستقلال الذي أنجزه الوطنيون الأوائل في الفاتح من يناير 1956م إذا أضحت روح الحنين إلى إرث الاستعمار تراود بعض قطاعات المجتمع السُّوداني، التي بدأت تروِّج لعطاء المستعمر في ضوء إخفاقات النخب السياسية الوطنية الحاكمة؟ وهل يكفي أن يكون الاستقلال مجرد شعارات انتهت صلاحيتها برفع العلم السُّوداني على سرايا الحاكم العام البريطاني؟ أو أناشيد وطنية تردد في مطلع كل عامٍ جديدٍ في الساحات العامَّة والقنوات الفضائية (اليوم نرفع راية استقلالنا *** ويسطر التاريخ مولد شعبنا)؟ كيف نزعم أنَّ "مولد شعبنا" قد تحقق إذا كان الشعب السُّوداني إلى هذه اللحظة يطالب بحرياته الأساسية، ولا يتمتع بالعيش الكريم الذي يتمناه، أو خدمات الصحة والتعليم العام الضرورية؟ إذا لم تخرج النخب السياسية الحاكمة والمعارضة من فخ قوالب تفكيرها القطاعية الضيقة، وتضع المصلحة الوطنية العامَّة نصب أعينها وفق استراتيجيات إصلاحية نافذة، لا يمكن أن يتحقق مفهوم الاستقلال، الذي يستطيع أن يحدث قطيعةً مع إرث المستعمر، ويمهد الطريق لنظام حكم ديمقراطي، قوامه الحريات العامَّة، وسيادة حكم القانون، والتخطيط المبرمج لإنجاز التنمية الشاملة والمستدامة. وإن مثل هذا التوجه يجب أن يُعضَّد بتوعية مجتمعية في كل مراحل الكسب المعرفي النظامي وغيره، ويرافق ذلك توظيف إيجابي لتراث أهل السُّودان، بعيداً عن القيم المعيارية السالبة، مثل: "إن فاتك الميري اتمرق في ترابه"، و"دار أبوك كان خربت شيل ليك منها شلية"، والتي ولَّدت نوعاً من التسامح العفوي تجاه الفساد العام والافساد المؤسس في دواوين الحكومة. لقد تجاوزت متطلبات الحياة المعاصرة مثل هذه القيم المعيارية الفاقدة للصلاحية؛ لأن نجاح الدول وفشلها أصبح يُقاس بمدى احترامها لحقوق الإنسان، وإقرارها للحريات العامَّة وسيادة حكم القانون، وتحقيقها للتنمية المتوازنة، والتزامها بمبدأ الشفافية في إدارة الشأن العام، واهتمامها بقضايا الأقليات ومظالم المجموعات التي تشعر بغبن التهميش. إذاً العلاقة بين إصلاح نظام الحكم (السُّلطة) وتوظيف التراث الشعبي توظيفاً إيجابياً علاقة تكاملية. يبرز الجزء الأول من هذا الكتاب بعض مظاهر الممارسات الإيجابية والسلبية للسُّلطة السياسية المركزية في السُّودان، بينما يناقش الجزء الثاني بعض التجارب الفردية-المدنية التي استمدت نجاحاتها من التزام أصحابها بمصالح البلاد العليا، بعيداً مصالح السُّلطة الضيقة التي آثرت الشأن الخاص على العام، والانتماء القبلي على الوطني، والولاء الحزبي على الالتزام المهني الوظيفي، وبذلك مكَّنت للقيم الوضيعة على حساب القيم المهنية الرفيعة، التي كان من المفترض أن تُسهم في النهوض بأداء الخدمة المدنية العامَّة، وترسيخ الدور الوظيفي لمؤسسات الدولة السياديَّة والخدميَّة. يحتوي الجزء الأول من هذا الكتاب على ثماني مقالات، نُشرتُ منجمة في مناسبات مختلفة. يتناول المقال الأول منها "الحرب العالمية الأولى وتداعياتها في السُّودان"؛ لأنها كانت نقطة تحول في سياسة المستعمر تجاه السيد عبد الرحمن المهدي (ت. 1959م) ودوره السياسي في السُّودان، كما أنها تبزر دور السيد علي الميرغني (ت. 1967م) في إعلان "الثورة العربية الكبرى" ضد الخلافة العثمانية في الشرق الأوسط. ومن زاوية أخرى، يوضِّح المقال كيف أعطت مساندة السلطان علي دينار للخلافة العثمانية حكومة الخرطوم مسوغاً للقضاء عليه، وضم دارفور إلى دولة السُّودان الإنجليزي-المصري. ويعالج المقال الثاني التجربة البرلمانية الأولى في السُّودان (1953-1958م)، التي عكست فشل الأحزاب السياسية في إدارة العمل البرلماني وإرساء دعائم الممارسة الديمقراطية، كما أنها مهدت الطريق لانقلاب الفريق إبراهيم عبود (1964-1958م)، الذي يُعدُّ أول انقلاب عسكري على النظام البرلماني، ومن بعده أضحى السُّودان أسير العلاقة الجدلية بين أنظمة حكم برلمانية ضعيفة وأنظمة حكم عسكرية مستبدة، ومن ثم صار في صدر قائمة الدول الفاشلة. ويقدم المقال الثالث قراءة تحليلية عن ثورة 21 أكتوبر 1964م، والنتائج التي حققتها في مرحلتها الثورية، والأسباب التي أفضت إلى إجهاضها، وطبيعة الظروف الموضوعية التي أسهمت في ذلك. ويعرض المقال الرابع مذكرة الزعيم العمالي الشفيع أحمد الشيخ عن الإدارة الأهلية، التي شكلت طرفاً من أطراف الصراع بين أنصار الحداثة وخصومهم التقليديين، الذين تصدوا لتنفيذ بعض شعارات ثورة أكتوبر. بينما يعرض المقال الخامس مقاربة تحليلية عن أدبيات الهُويَّة السُّودانية، وطبيعة منطلقاتها الفكرية، والظروف التي أحاطت بنشأتها وتطورها، والطروحات التي نتجت عن حواراتها، وتوظيفها في الصراع السياسي. ويتوقف المقال الخامس عند شخصية الدكتور حيدر إبراهيم علي، ودور مركز الدراسات السُّودانية الذي أسسه في القاهرة عام 1992م، ثم نقله إلى الخرطوم 2005م، ثم عاد به إلى القاهرة عام 2013م. ويربط المقال بين العنت والصلف السلطوي الذي واجهه المركز وصاحب امتيازه في الخرطوم، وكذلك الأستاذ الياس فتح الرحمن مؤسس دار مدارك للطباعة والنشر. وأخيراً يعرِّج المقال إلى أهمية كتاب "ستون عاماً على استقلال السُّودان من التجربة والخطأ (1956-2016م)"، الذي قدم له وحرره الدكتور حيدر إبراهيم، بعد أن نَظَمَ فصوله بأقلام ثلة من الباحثين السُّودانيين. ويحلل المقال السابع السمات العامَّة للمنهج العلمي الذي تبنَّاه الدكتور منصور خالد في أدبياته المنشورة، وعلى وجه الخصوص كتابيه المحوريين: "حوار مع الصفوة" و"النخبة السُّودانية وإدمان الفشل". أما المقال الأخير في هذا الجزء (السُّلطة) فعبارة عن تقديم لكتاب الأستاذ الصحافي حسن أحمد الحسن، "موعد مع القاهرة"، حيث عرض فيه طرفاً من سيرته الذاتية، ونماذج من أنشطته السياسية في أورقة المعارضة السُّودانية ضد حكومة الانقاذ. أما الجزء الثاني (التراث) من هذا الكتاب فيتكون من ست مقالات، يتناول المقال الأول منها "العلماء والصالحون في الدُفَّار: الكسب والعطاء"، منطلقاً من فرضية مؤداها أن منطقة الدُفَّار كانت من أهم المناطق التي قامت بدور طليعي في حركة التعليم الإسلامي في السُّودان، حيث أنها احتضنت العديد من خلاوى القرآن، ومنها هاجر رهط من العلماء والدارسين إلى بقاع السُّودان المختلفة، وفيها حدث نوع من التمازج الاجتماعي والثقافي الذي تجاوز الفواصل العرقية، وأسس لثقافة مشتركة، وتواصل اجتماعي متعدد المنابت. ويتناول المقال الثاني تدشين ديوان العامل حُسونة (ت. 1928م) الذي عاش طرفاً من حياته العامرة بالإبداع الشعري في التركية السابقة (1820 -1885م)، والمهدية بكاملها (1885 -1898م)، والصدر الأول من العهد الثنائي (1898 -1956م)، تاركاً إرثاً أدبياً جديراً بالعناية والتأمل. وفي إطار هذه المناسبة، يقدم هذا المقال إضاءات ساطعة على محتويات الديوان، شاملةً ضروباً متنوعة من المدح، والاعتذار، والإخوانيات، والغزل، والنسيب، التي نُظمت في شخوصٍ بارزين في منطقة مروي الكبرى. ويوثق المقال الثالث لتجربة عطاء رائدة للأستاذ محمود صالح عثمان صالح، تبلورت في تأسيسه لمركز عبد الكريم ميرغني الثقافي بأمدرمان، وجائرة الطيب صالح للأدب الروائي، وترجمة الوثائق البريطانية عن السُّودان. ويتجسد هذا العطاء بصورة أخرى في المقال الرابع الذي يقدم صورة ذهنية حيَّة لتجربة عالم الآثار، الراحل البروفيسور السيد الأنور عبد الماجد عثمان، قوامها مفردات سيرته الذاتية القصيرة بحساب الزمن، والطويلة بحجم الإنجازات التي حققها. ويجمع بين المقالين الخامس والسادس، أن أولهما عبارة عن مراجعة لكتاب ف.ل. قريفث "تجربة في التعليم: رواية لمحاولات تحسين تعليم البنين في المراحل الأولية بالسُّودان الإنجليزي-المصري المسلم 1934-1950"، الذي ترجمته إلى العربية وقدمت له البروفيسور فدوى عبد الرحمن علي طه؛ وثانيهما عبارة عن تقديم لمجموعة المقالات التي جمعها وترجمها إلى العربية وقدم لها البروفيسور بدر الدين حامد الهاشمي، ونشرها في الجزء الرابع من إصدارته الموسومة بـ "السُّودان بعيون غربية".
شكر وعرفان يشرفني في خاتمة هذه المقدمة أن أتقدَّم بأسمى آيات الشكر والعرفان إلى مركز عبد الكريم الثقافي بأمدرمان، الذي تبني طبع هذه السلسلة "السُّودان: السُّلطة والتُراث"، ونشرها للقارئين والباحثين، الذين استحسنوا محتوياتها وطريقة عرضها، وإعادة طبع الأجزاء التي نفدت منها في المكتبات. وقد حظيت الأجزاء الأربعة الأولى منها باهتمام الأستاذ محمود صالح عثمان صالح (ت. 2014م) طيب الله ثراه، والذي أشرف على طبعها في القاهرة وبيروت، ثم واصل المشوار من بعده الدكتور كمال عبد الكريم ميرغني، سكرتير مجلس أمناء المركز، وكذلك الأستاذ وليد خلف الله سوركتي، مدير إدارة المركز، اللذان أشرفا على طبع الجزء الخامس، فلهم جميعاً فائق الثناء والتقدير. ويطيب لي أن أسدى أجزل الشكر والعرفان إلى أستاذي البروفيسور يوسف فضل حسن الذي ثمن الأجزاء الأولى من هذه السلسلة، وأشاد بمقال "العلماء والصالحون في الدُفَّار: الكسب والعطاء"، المنشور في هذا الجزء السادس، واصفاً إياه بالمقال المفتاحي لدراسة مملكة الدُفَّار، وتراثها الثقافي والاجتماعي. وتمتد باقات الثناء والعرفان إلى صديقي البروفيسور يس محمد يس (مونتري، كلفورنيا)، الذي قرأ مسودة هذا الكتاب بعناية، مصوباً بعض الأخطاء الأسلوبية واللغوية، معلقاً على محتوى النص في إطار معرفته الواسعة، وإلى أخي الأستاذ محمد إبراهيم أبوشوك، الذي قرأ معظم مقالات هذا الجزء، وعلَّق عليها بتعليقات مفيدة، وملحوظات ثاقبة، أسهمت في تثقيف بعض نصوصها.