الأبيض: رحلة بيت الشعر في زمن القوافي والمسادير
abusamira85@gmail.com
من نافذة الطائرة فوق مطار الأبيض كان المشهد يغري بكتابة الشعر، لكنك حين تكون في صحبة شعراء أفذاذ، وعلماء ونقاد جهابيذ من (بيت الشعر)، يتعين عليك أن توفر جهدك حتى لا تقع في عبث شعري لا طائل منه.
وحتى إن حام فوقك طائر الشعر فأطرده شر طردة، لأنك مهما أجدت لن تنافس الشاعر القومي عبد الله إدريس في مساديره القوية، وود إدريس حين ينشد تخاله في زمن بعيد مثل شاعر البطانة الكبير الحردلو فوق جمله ينشد (الشم خوخت بردن ليالي الحرة). أو تخاله في زمن قريب مثل صائد القوافي عبد الله حمد ود شوراني في مسدار الجمل أو في طريقه من أم شديد إلى سوق (الأربحاء) في كبوشية، ومناسبة هذا الاستطراد أن (بيت الشعر) لو اهتم بالشعر القومي السوداني، ربما قاده إلى أن ينصب أمير الشعر القومي السوداني.
وعودة إلى ود إدريس فقد تلى على مسامعنا رباعيات تتناول فكرة الحوار الوطني في تجليات شعرية قد تسهم في حلحلة الكثير من القضايا المتعلقة بالهوية والاندياح في المآلات المتعلقة بالانصهار القومي والوعي الاستراتيجي الذي يقود إلى تشكيل الذاتية السودانية، وهلمجرا.
الولاية الشاعرة
أما (بيت الشعر) الكائن في جامعة الخرطوم، فهو يمثل الفرع السوداني لـ (بيت الشعر) الأصل في إمارة الشارقة الذي يمثل فضاء لكل الشعراء والمثقفين العرب داخل دولة الإمارات وخارجها، فقد جاء تنفيذا لمبادرة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة بتأسيس بيوت الشعر في الأقطار العربية تقديراً للشعر والشعراء العرب والحفاظ على مكانتهم في الأوساط الثقافية.
حين هبطت بعثة (بيت الشعر) في مطار الأبيض، تذكرت شاعرنا الفذ محمد المكي إبراهيم رد الله غربته، فقد أبدع حين وصف الأبيض:
هذا بلدي والناس لهم ريح طيب
بسمات وتحايا ووداع ملتهب
كل الركاب لهم أحباب
أعذروني فمهما اجتهدت لن أبلغ شاعرية صديقي القديم ود المكي، فالمستقبلين في المطار كانت لهم ريح طيب، فهاهو الباحث الصحافي الكاتب خالد الشيخ محمود وزير الثقافة والإعلام بولاية شمال كردفان يرحب بنا على باب الطائرة بلغة شاعرة تحمل في ثناياها الإشادة بمبادرة صاحب السمو الشيخ سلطان لتأسيس (بيت الشعر)، وبما يقدمه في الخرطوم من نشاط صار حديث الأوساط المثقفة ومحط إعجاب الجميع. وخلص إلى بث أمنيات بتنظيم أمسيات لجماهير الولاية التي تتوق للشعر وتفتح أبوابها لبيت الشعر في هذه الولاية الشاعرة.
لسن أربعة فقط
مظاهر الحياة في مدينة الأبيض تبدو منتعشة، والوجوه فيها مطئمنة تعلوها فرحة بحديث (النهضة) مستبشرة بقدوم الخير الذي بدأت ملامحه قطافه في الظهور.
وحين تلج القاعة الكبرى في جامعة كردفان، فأنت في مقام الحضور والاستماع والاستمتاع بقراءة الشعر، ولا غرو في ذلك فهذا المقام كان مراد الرحلة الأولى لبيت الشعر في ولايات السودان.
داخل القاعة اصطفت كوكبة من القيادات الرسمية والشعبية يتقدمها وزير الثقافة والإعلام، ثم: الأستاذ حسين حمد النيل رئيس لجنة الحكم والتشريع بالولاية، الأستاذ فيصل أحمد باب الله مدير عام وزارة الثقافة والإعلام بالولاية والأستاذ عبود عبد الهادي نائب المدير العام للثقافة، والعميد معاش إبراهيم فرج الله رئيس إتحاد الأدباء والكُتاب السودانيين بمدينة الأبيض، وعدد كبير من الشعراء والمبدعين في كردفان.
اندلقت القوارير في تلك الليلة حبلى بالجديد المدهش من الشعر في عدة قراءات متنوعة بين محمد نجيب محمد على في نصه لسن أربعة فقط:
قد تعذبت كثيراً بالنساء
وتألمت كثيراً بالنساء
وتشردت أخيراً بالنساء
كل أنثى ولها في رأسها كم خنفساء
كلها زيف ونقد وإلتواء
شكوى من السلام
أما شكوى الشاعر محمد الأمين محمد الحسن كانت من طريقة السلام وتسمعه بصوت قوي النبرة واضح الحرف لعله فن من الإلقاء تعلمه هذا المعلم المخضرم من بخت الرضا التي درس ودرس فيها في ستينيات القرن الماضي، اسمعه يقول:
مالو السلام بِقى رفعت إيد
وسلامنا كان بِمُقالدة
ومالو الكلام بِقى من بعيد
وكلامنا كان بِمُواددة
ومالا المسافة بقت تزيد
وكِتُوفنا كانت بِحِدة
وتمضي الليلة الشعرية في القاعة الكبرى في جامعة كردفان متسمة بالقوة وتعدد الصور الشعرية، وهنا لا يفوتك الحضور القوي للشاعر الواثق يونس، فهو أخر سوداني يشارك في مهرجان المربد، رد الله غربته الشعرية، وهو أيضا إبن كردفان الذي يعود إليها بعد غيبة.
ولم يك الصوت الشعري النسائي غائبا، فقد ملأت الشاعرات: سمية جميل، مشاعر أحمد، والدكتور رقية عبد الرحمن الليلة شعرا ورقة.
أما فاكهة تلك الليلة فقد كان الثنائي أحمد سليمان ود الأبيض، والوسيلة المراد، إذ قدما في ثنائية راقية باقة من الرُباعيات الكردفانية، بينما كان ود الأبيض يتلو رباعيته بقوة وثبات رجال قوات الهجانة التي ينتمي إليها، اعتمد الوسيلة على دقة أهله شيوخ قبيلة المجانين حين ينوون شيئا.
بحيرة شعر وتأكيد
الرحلة من الأبيض إلى الرهد تسير بك في طريق تكمن فيه روعة الطبيعة، وتبدو فيه حبيبات الحجارة المتناثرة على جانبي الطريق على حسب وصف الناصر قريب الله قد طالها بناصع اللون طال.
عندما تصل بك الرحلة إلى الرهد في مقام المشاهدة، فأنت على موعد مع مدينة ساحرة بمواصفات خاصة تمتاز بخضرة داكنة، لكنها نضرة.
وعندما تصل إلى مقام الحضور لابد من الزيارة، فعلى مقربة من الرهد يقع ضريح العارف بالله الشريف محمد الأمين الهندي، ويكفي هنا أنه رجل قال عنه الإمام المهدي عليه السلام (إنه رجل جعل الدين فنا).
في طرف منها تقع تردة الرهد التي حين وصلناها كانت الشمس تتوسط السماء والمراكب المصنووعة من (الفابير قلاس) تتهادى في وسط البحيرة الساحرة وتملأ وتضفي على تلك نضرة الخضرة رومانسية نفتقدها في حياتنا كثيرا.
وعلى ضفاف تردة الرهد أقيمت عصرية احتوت على كل ضروب الفن من شعر وغناء في فضاءٍ مفتوح اتسم بالرحابة والعفوية الخالدة.
وعودة للأبيض فقد شهد شهدت قاعة بيت الشباب ندوة أدبية بعنوان (الشعر في الوجدان السوداني)، أكد فيها الناقد الأستاذ مجذوب عيدروس ريادة الشعراء السودانيين في خريطة القصيدة العربية.
الليلة الكبرى
هل أتاك حديث الليلة الكبرى لبيت الشعر على مسرح كردفان؟ قبل أن تجيب تذكر عبارة محمود درويش (أما حساب الربح والخسارة فلا يدخل في أقاليم المخاطرة الشعرية هل نقطف القمر أم يخطفنا القدر).
أما نحن وفد بيت الشعر الذي يضم نحو 20 شاعرا وإعلاميا، فقد قطفنا القمر والشواهد عل ذلك كثيرة، فهذا صديقنا الوزير خالد الشيخ يقرأ علينا مجموعة من الأشعار الأصيلة التي كتبها عدد من الشعراء السودانيين الكبار في كردفان وعنها، ويتلو علينا قائمة من فحول الشعراء الذين عطروا أمسيات الأبيض، فيهم نزار قباني. ويدعم شاهده بعدد من القراءات الشعرية النادرة.
والشاهد الثاني يقدمه رئيس إتحاد الأدباء والكتاب السودانيين بالأبيض العميد معاش فرج الله عن أهمية دور الشعر والشعراء داخل القبيلة.
يأتي الشاهد الثالث من الدكتور الصديق عمر الصديق رئيس فد بيت الشعر، حيث ثمن جهود والي ولاية شمال كردفان مولانا أحمد هارون ووزير الثقافة والإعلام خالد الشيخ على رعايتهم لهذه الأنشطة، وقال (هم الذين حققوا رغبة وفد بيت الشعر لمعانقة مدينة الأبيض عروس الرمال)، مشددا (على أن الشعر هو الفن الذي يجمع الناس ويرقق شعورهم ويحشد الطاقات الروحية).
حديث المبادرة
خلص الدكتور الصديق إلى الحديث عن مبادرة الشيخ الدكتور سمو حاكم الشارقة سلطان بن محمد القاسمي وعن الأثر الذي أحدثته بيوت الشعر على امتداد ظل هذه البيوت وخصص حديثه بعد ذلك عن بيت الخرطوم شاكراً حكومة ولاية شمال كردفان على دعوتها الكريمة والسيد والي الولاية على رعايته للرحلة.
وتترى الشواهد في التأكيد على دور الشعر عبر مجالات أخرى، فهذا الدكتور الصديق يقول (إن الشعر أمر لازم وحتمي وليس كما يراه البعض ترفا). وضرب المثل بمبادرة الشيخ الدكتور سمو حاكم الشارقة سلطان بن محمد القاسمي، الأثر الذي أحدثته بيوت الشعر على امتداد الوطن العربي. وفي ذات الصعيد يثمن الأستاذ خالد الشيخ مبادرة الشيخ سلطان وبما يقدم بيت الشعر في الخرطوم من نشاط صار حديث الأوساط المثقفة ومثار دهشة الجميع. وبث أمنيات فحواها أن لا تحرم هذه الجماهير التي تتوق للشعر من مثل هذه الفعاليات.
ويختتم هذه الشواهد مولانا أحمد محمد هارون مرحبا بـالقول (بيت الشعر العربي، ومباردة سمو حاكم الشارقة الشيخ سلطان القاسمي، وأنها تنم عن معرفة بطبيعة الأدب ودوره وأنها لا تأتي إلا من رجل مثل الشيخ القاسمي).
وخلص إلى أن التنمية التي تنتظم الولاية لابد فيها من اكتمال الأركان وأن النهضة لا تكون بعمران المباني فقط. جدد ترحبيه ببيت الشعر، وبأي تعاون بينه وبين الولاية نهضة بإنسانها.
قصائد وغناء
توج بيت الشعر لياليه بليلة كبرى تبارى فيها بإلقاء قصائد غناء وأغنيات راقية قوبلت بالتصفيق الشديد من الحضور، ولعل أبرز ما في تلك الليلة فقرات التقديم التي قدمها الإعلامي الأديب عبدالله محمد الحسن منسق الرحلة صاحب الجهود اللوجستية الجبارة التي كللت هذه الرحلة بالنجاح، فضلا عن أن عبد الله كاد أن يبز شعراء الليلة في تقديمه الذي عرف كيف كيف يلامس هموم المنطقة.
وتبارى الشعراء من بيت الشعر ومن كردفان، خاصة ناصر قاسم الذي كتب قصيدة لابنته، ثم ابتهال مصطفى التي تنقلت بين كردفان وأهلها وحاضرها وهمومها، ثم عماد محمد بابكر الذي اكتفى بتحية كردفان بثلاثة أبيات، ثم فاصل شعري كردفاني من الطيب فرج الله وبابكر عطية ، بعده كان للواثق يونس موعد كردفاني لا يخلف بأربعة أبيات.
أما صديقي الشاعر الفذ أسامة تاج السر فقد ألهمته كردفان قصيدة تسأل فيها مثل الناصر قريب الله:
؟((أيُّ حــظٍ رزقته في الكمال
أخبرتني ودمدمت في دلالٍ
وعجيبٌ واللهِ صوتُ الدلالِ
إنّ حظي من الجمـال وفيرٌ
منبعُ الحسنِ في عروس الرمالِ
طوقتها الجبالُ بالحسنِ حتى
لكأن الجمــــالَ خدنُ الجبال
مدينة الدهشة
قبل كل هذا يبقى أن الأبيض مدينة تبعث في نفسك الدهشة قبل أن تصلها من فرط حب أهلها لها، وحديثهم الممزوج بالحنين عنها من جهة المكان وعبقريته وإلى الأبيض الزمان من حيث الناس والألفة التي جمعتهم. وهنا تبرز أهمية معرفة أسباب نجاح المدينة في قيادة الخارطة الروحية والتواصل الاجتماعي في كردفان على مدى قرن ونصف القرن من الزمان.
أخيرا تصور ياسيدي أحمد هارن أننا زرنا الأبيض وأقمنا فيها ثلاث ليال أربعة أيام سعيدة وما (ضقنا فيها العصيدة).