الأحزاب و الإسلاميون وإجهاض الفكرة 1-2

 


 

 

نواصل في سلسلة استعراض موجز في نشأت و تطور ثم ضعف الأحزاب السودانية، في المقالة الأولى؛ تأكد أن حالة الضعف بدأت تدب في الأحزاب عند وقوع الانقلاب العسكري الأول، و الذي كان عبارة عن تسليم و تسلم، و غياب الأحزاب عن الساحة السياسية لست سنوات هي عمر نظام عبود، بالضرورة تكون قد أصابت الأحزاب بحالة من الركود في النشاط و الجمود في الإنتاج الفكري، و بعد انتفاضة إبريل 1985م، كان المتوقع أن تلعب الفئة المثقفة دورا كبيرا في عملية التوعية السياسية للجماهير، باعتبار أن الأحزاب خرجت بعد حكم النميري الذي استمر لمدة ستة عشر عاما، و هي في حالة من الرهق الذي أثر بصورة كبيرة على عملية الإنتاج الفكري و الثقافي، هذا الرهق جعل الساحة السياسية مليئة بالاتهامات و التخوين بعيدا عن إنتاج ادب سياسي ينطلق من تعدد التيارات الفكرية في البلاد، و خاصة الصراع الأيديولوجي الذي سيطر على الساحة دون أن يقدم أي أجتهادات ذات فائدة تعود للمجتمع بخلق وعي جديد يستوعب التحولات التي حدثت في المجتمع السوداني و في العالم. ظلت المكايدات السياسية تبين أن القيادات السياسية ليست بقدر التحدي، الأمر الذي خلق حالة من التوجس لمغامرة إنقلابية، بل كان الانقلاب متوقعا رغم قصر مدة الديمقراطية، و الكل لم يستفيد من تجارب الحكم الشمولي، و ذلك يعود لحالة الضعف في الأحزاب و حالة التربص بالنظام الديمقراطي، و قدم الجيش مذكرة لرئيس الوزراء بعد خسارته لمعارك عديدة في الجنوب، بسبب نقص كبير في الدعم اللوجستي و التشوين، الأمر الذي أدي لتدني في الروح المعنوية.
نفذت الجبهة الإسلامية القومية إنقلابها في 30 يونيو 1989م، و حلت الأحزاب و صادرت الصحف و منعت النشاط السياسي، و قامت بأكبر تطهير في الخدمة المدنية، و الهدف من التطهير لأنها تخاف من العمل النقابي أن يطيح بالنظام، لذلك أرادت أن تشل قدرات العمل النقابي، و تمنع القوى السياسية الأخرى في استخدامه كأداة للضغط أو التغيير. و نسي قادة الجبهة الإسلامية أن أحتكار السلطة لا يتوقف فقط على منع الآخرين من ممارسة حقوقهم الوطنية، انما سوف ينعكس سلبا حتى على التنظيم السياسي القابض على السلطة، لآن النظام الشمولي يعني إفراغ القوانين من مضامينها و محاولة تعطيلها، و هذا سوف يجعل البعض يجعل القوانين في يده يوظفها حسب المصالح، الأمر الذي خلق صراعا داخل جسم الجبهة الإسلامية، أدى إلي المفاصلة في 1999م، حيث ظل الثلث في السلطة و خرج الثلثان. هذا الخروج كان لابد أن يبحث الثلث عن معادلة تجعله في موقف قوة. لذلك بدأوا البحث عن عناصر من خارج دائرة الحركة الإسلامية، فكان مجهودهم أن يحدثوا صراعا داخل الأحزاب الأخرى و انشقاقات لكي يضعفوها، و في نفس الوقت يقوى عود السلطة. و قد نجحوا في ذلك حيث قبلت العديد من القيادات أن تترك أحزابها و تدخل في تحالف مع المؤتمر الوطني، و تم استيعاب العديد في حقائب دستورية لكنهم كانوا بعيدين عن صناعة القرار. هؤلاء بقوا عاطلين جمدوا قدراتهم، و أيضا الباقين في أحزابهم ظلوا فترات طويلة دون عطاء أو إنتاج فكري يؤهلهم للعب دور في المستقبل. ففضحتهم الثورة، جاءوا البحث عن وظائف و ليس عن عملية التغيير، كانوا مقتنعين أنهم ليس قدر التحدي و لا يملكون أدوات التغيير.
أن التجريف الذي حدث للأحزاب، هو الذي زاد من ضعفها، و العديد من القيادات قبلت إعادة التوطين في دول أخرى، هذه التحولات لابد أن تؤثر في فاعلية و نشاط الأحزاب السياسية، حيث وصلت قيادات لقمة الأحزاب ما كانت تحلم بهذه المواقع في التطور الطبيعي للعملية السياسية، بسبب تدني قدراتها الفكرية و السياسية، لذلك كان همها أن تحافظ على مواقعها في قمة الهرم، و هي متمسكة بشعارات لا تستطيع تنزيلها على الأرض، و أيضا وقفت عاجزة أمام التحديات التي تفرض عليها سياسيا و مجتمعيا. أن ضعف القيادات لابد أن يؤثر بصورة طبيعية في أداء الأحزاب، و بدلا أن تنقاش مسألة الضعف و الأداء بصورة جادة، أتخذت من التبرير منهجا لها، و البعض لم يكتف بذلك بل حاول أن يغذي الساحة السياسية بوعي زائف لكي يبعدوا أنفسهم من المسؤولية التاريخية الملقاة على علتقهم. فالثقافة السياسية السودانية لم تقدم نماذج للاستقالات من المواقع إذا كتشفت أن قدراتها قد ضعفت في مواجهة التحديات الجديدة، لكي تفتح الطريق أمام قيادات جديدة لها القدرة على إدارة الأزمة أفضل منها.
عندما اندلعت الثورة في مدن الأطراف قبل الوصول للعاصمة، كانت تؤكد أن الوعي السياسي السائد قد أنتجته وسائل الاتصال، أفضل من الوعي السياسي الذي كان داخل الأحزاب، خلال شهر كامل كانت الأحزاب تتفرج على خروج الجماهير، ثم جاء تجمع المهنين كمرشد لعمليات الخروج، و قدم تجمع المهنيين في النصف الثاني من يناير 2019 ( إعلان الحرية و التغيير) الذي وقعته الأحزاب و دخلت بموجبه الساحة دون أي مشروع سياسي، أكتفت بالإعلان، الأمر الذي يؤكد أن القيادات كانت عاجزة أن تقدم أي مشروع سياسي يلتف حوله الجماهير، ما كانت قدراتها تسمح لها أن تقدم هذا المشروع، باعتبار أن أهم أداة للتغيير هو الفكر فكانت بعيدة عن هذه الساحة، و بعد 11 إبريل و سقوط النظام بدأ الخلاف يدب في القوى المتحالفة على الإعلان. فالكل كان نظره على السلطة، و لا يملك أي مشروع لعملية التحول الديمقراطي. فكانت مسألة المحاصصات هي المسيطرة على ذهنية القيادات السياسية، ففكرة التحول الديمقراطية كانت بعيدة عنهم، لأنها كانت تحتاج إلي قدرات ذهنية عالية مفقودة بسبب التجريف الذي تم للأحزاب. و استمر الضعف الفكري حتى الأن. و لن يتغير الواقع إذا لم تصعد قيادات جديدة على قمة هرم الأحزاب التي فقدت قدرتها على العطاء.
كان المتوقع ضعف القيادات السياسية يتح فرص أوسع لبروز قيادات من قطاعات أخرى، مثلا قطاع المثقفين، لكن هؤلاء نفسهم تم استيعابهم في الجدل البيزنطي الدائر في الساحة السياسية، حالة الاستقطاب التي انتظمت فيها، فالخلاف في وجهات النظر ليس مشكلة بل هو مطلوب لكي يعزز فرص تسيد الثقافة الديمقراطية، لكن للأسف تحول الخلاف لنزاع بين النخب (إذا أنت ليس معي و مؤيدا لوجهة نظري أنت ضد الثورة) و السؤال ماهية الثورة بعد توقيع ( الوثيقة الدستورية) الاتفاق على الوثيق يعني نهاية الثورة و التوجه مباشرة إلي عملية البناء وفق أسس دستورية؟ لكن النخبة لم تكن مهيأة نفسيا و معرفيا أن تتقبل الرأي الأخر، و تعتبر هذا الرأي جزءا من أكتمال الحقيقة، مادامت الديمقراطية تؤسس على النسبية. أن ثلاثين عاما من الحكم الشمولي الذي أحدث ضمورا لحركة الفكر قد عطل عملية الإنتاج الفكري و الثقافي، استعاضت عنه القيادات بملأ الساحة بالشعارات التي ليس لها أثر في خلق واقع جديد أو تفكير يساعد على الابتكارات و تقديم التصورات، بسبب عدم قدرة هذه القيادات لتنزيلها على الأرض.

zainsalih@hotmail.com
////////////////////

 

آراء