الأخلاقى والغير أخلاقى فى حكم الإنقاذ … بقلم: د . أحمد خير / واشنطن

 


 

د. أحمد خير
11 August, 2009

 

 

Ahmed Kheir [aikheir@yahoo.com]

مستشار رئيس الجمهورية ووزير خارجية السودان السابق الدكتور / مصطفى عثمان إسماعيل ،   شـن بالأمس هجوماً ساخنا على قيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان ، وذلك بسبب موقف الحركة  المخذى والغير أخلاقى "على حد قوله " حيال العقوبات على السودان . ذهب الدكتور / عثمان فيما ذهب إلى أن الحركة تسعى إلى رفع العقوبات عن جنوب السودان وإستمرارها على شمال السودان " المسلم " !   

 

طوال الشهور السابقة ، ومع بداية العام الجارى وكلا الفريقين ، الحركة الشعبية من جهة ، والحكومة السوادنية من جهة أخرى ، دأب على إرسال الوفود تلو الوفود إلى  واشنطن .   كل يحمل أجندته ويعمل فى سبيل أن ترضى أمريكا عنه وأن تتحرك المياه الراكدة حيال كسر طوق العقوبات الذى يرى فيه كل جانب  أنها قد أثرت تأثيرا سلبياً على المواطن السودانى  وإستنزفت موارده . 

 

فرضت على السودان عقوبات بعد وضعه فى قائمة الدول المصدرة للإرهاب . وبما أن الولايات المتحدة الأمريكية  هى سن الرمح فى تطبيق تلك العقوبات ، كان على المسئولين فى السودان الجرى إلى حد اللهاث وراء مايحسبونه بصيص من أمل عند إشارات تصدر من البيت الأبيض أو من الكونجرس الأمريكى . ومع علمنا أن أمريكا لاتعدل سياستها الخارجية حيال أية وجه من الوجوه إلا إذا ما رأت مصلحة لها ، آنية كانت أو مستقبلية ، كان علينا أن نتساءل : ماذا قدم السودان لأمريكا كى تتحرك لشطب إسمه من اللائحة ولرفع العقوبات ؟!

 

نحن نعلم أن أمريكا سعت ولازالت تسعى لتجد أرضية لها فى الأراضى السودانية ولأغراض متعددة ، الظاهر منها هو مصادر النفط . بالرغم من أن شركة شيفرون الأمريكية كانت هى السباقة فى التنقيب عن النفط فى الأراضى السودانية ، إلا أنها لسبب من الأسباب كانت قد توقفت فى ثمانينيات القرن الماضى . وعندما جاءت الإنقاذ بسياستها الآحادية ، أغلق الباب فى وجه أمريكا وفتح على مصراعيه لدول شرق آسيا التى ما توانت فى نشر معداتها وآلاتها فى كل شبر ترى فيه مغنماً .

 

 ليس من الواضح حجم التنازلات التى قدمت كى يرق قلب أمريكا لدولة ظلت تقدح فيها وتهددد " جدادها " " يا أمريكا لمى جدادك "  حتى بات " كنتاكى -  ك أف سى" يخشى على " الكتاكيت "  هيبة من أن تدمرها آلات الدمار الإنقاذية !

 

الكل يعلم أن لأمريكا صولات وجولات فى إفريقيا كما فى بقية أنحاء العالم . وصولاتها وجولاتها لاتقوم على فراغ  . فهى فى دراسة مستمرة للتغيرات والمتغيرات فى كل ركن من أركان المعمورة .

 

فى أواخر تسعينيات القرن الماضى كان لى لقاء فى واشنطن مع سيادة الرئيس الإرتيرى اسياس أفورقى ، وتحدث الرجل فيما تحدث عن علاقته المتأزمة بحكومة السودان  وكيف أنه يبذل قصارى الجهد فى مساعدة " المعارضة " السودانية . ثم أضاف : أن حكومة الخرطوم ليست بالحكومة المستندة على جذور ثابتة وأن الشعب السودانى إذا تحرك ففى إمكانه قلبها فى لحظات . واضاف أيضاً: إذا نويت أنا فيمكننى دخول الخرطوم فى أقل من 24 ساعة !

 

الرئيس أفورقى قال هذا الحديث وهو فى واشنطن ، وسرعان ما تحرك المارد الأمريكى وطلب منه أن يكف عن مغازلة الخرطوم وكذلك الحد من مساعداته للمعارضة السودانية . وبالفعل إنقلب الحال وكف أفورقى عن دعم المعارضة السودانية !  ولم يتوقف الأمر عند ذلك الحد ، بل إمتد إلى الكف  عن ذكر خلافاته مع الخرطوم .  وتطور الحال إلى أن صار أفورقى  من الزعماء الذين تدخلوا فى حل المشكلات الداخلية والخارجية لنظام الخرطوم ! فياترى هل تغير الرئيس أفورقى من تلقاء نفسه أم أن سياسة العصا والجزرة الأمريكية باتت تقلبه ذات اليمين وذات الشمال ؟!

 

حيال ذلك وجدنا أن السؤال الذى يفرض نفسه ولا أخالنى واجد إجابة له هو : ماذا فعل أو يفعل نظام الخرطوم كى ترضى عنه أمريكا؟!  بالطبع غير ذلك الخبر الذى كان مفاده " التجسس على دول الجوار " . لابد وان يكون الأمر أكبر من ذلك ! ثم ،  كيف نجحت الخرطوم فى كسب ثقة أمريكا ولو مؤقتاً ؟!    سؤال يطرح نفسه ولاعلم لطرف ثالث بمعرفة سر ذلك الغزل والغرام القائم على المصالح بين النقيضين !

 

غرام المصالح هذا تمكنت حكومة الخرطوم من خلاله إلى وضع قيد على تحركات الحركة الشعبية وتحجيم دورها عند الغول الأمريكى ! والحركة بالرغم من نشاط مكتبها فى واشنطن  الذى طغى على دور سفارة النظام فى يوم ما ، من حيث تكثيف الإتصالات وجريه وراء النشطاء من صانعى القرار فى واشنطن ،  فى محاولة منها إلى سحب البساط من تحت أقدام الحكومة السودانية " حكومة الشمال "  عجزت عن أن تلعب دورا محوريا فى علاقة السودان بأمريكا  ! وهذا القصور بات واضحا فى عجزها للعب بكارد الأزمة فى دارفور ، وسيف المحكمة الدولية تجاه الرئيس البشير، وإستمرار سياسة العقوبات التى شهرتها أمريكا فى وجه النظام ! يبقى السؤال هنا : ماذا فى جعبة السلطة فى السودان ، وماهو الكارد الرابح الذى إستخدمته الحكومة السودانية لتحييد الدور الأمريكى أو جره للعب لصالحها ؟!

 

لقد سبق للسلطة فى السودان فى عهد النميرى أن ألقت بكل ثقلها فى شباك أمريكا ، حيث سهلت نقل يهود " الفلاشا " عبر أراضيها من إثيوبيا إلى إسرائيل ، وفتحت  أراضيها للنفايات النووية الأمريكية ، ووضعت أراضيها تحت إمرة أمريكا ! كل ذلك من أجل ضمان الإستمرار فى الحكم ! فماذا قدمت الإنقاذ لأمريكا كى تغير سياستها وترضى عنها كل هذا الرضى الذى لاتخطئه العين ؟!

 

الإنقاذ ليست جديدة على تغيير مسارها ، فهى ظلت منذ مجيئها إلى الحكم فى يونيو 1989 تتقلب كالرقطاء وتغير من ثوبها بما يخدم مصالحها فى الإستمرار فى الحكم بأية وسيلة ! فالمشاهد لمسارها يلحظ الدور اللاهوتى الذى تقمصته عند مجيئها ،  حتى توهم كل ذى قلب إلى أن هذا الوليد القادم من رحم العدم بأنه قادر إلى أن يعيد للدين رونقه كما كان فى عصرالخلفاء الراشدين ! عندها فتحت البلاد أبوابها لكل الدعاة والساسة من الإسلامويين من حاملى الكتاب بيد والسيف بالأخرى ، من أولئك الكاظمين الغيظ واللاعافيين عن الناس من غبن لحق بهم من سلاطين بلادهم الذين أذاقوهم صنوف العذاب !

 

وبعد أن توهطت الإنقاذ  فى كرسى الحكم ، كان أن إنقلبت على المواطن إلى حد الفجور !  فأستبيح بإسم الدين إعدام المواطن من أجل حفنة من الدولارات ، كما فعلوا بالمواطن " مجدى " والمواطن " جرجس "  ومن الغريب أن يأتينا شيخهم الذى علمهم السحر ليعترف فيما بعد أن قتل مجدى وجرجس يعد من الأخطاء التى لاتبرأ منها الثورات ! وكذلك الأطفال الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم يقاتلون أبناء الوطن فى الجنوب ! نعم ، ذكر ذلك " الشيخ " حسن  الترابى عندما إستضفته فى برنامج على الهواء  ! " لكل ثورة أخطاء " حتى وإن كان الخطأ ارواح بشر من الأبرياء ! ضاربا عرض الحائط بما نهى عنه " قتل النفس التى حرم الله " بدون وجه حق !

 

أقول هنا أن الإنسان المتحضر هو الذى ينفض الغبار عنه عندما يقع ، هذا بعكس الإنسان  المنحدر" الساقط "  الذى تعلق به الأوساخ كلما زاد إنحدارا ! فإلى متى ستواصل الإنقاذ إنحدارها ؟! ومتى تحين لحظة النهاية ؟! والنهاية التى أعنيها هنا ليست نهاية نظام الإنقاذ ، فهذا متروك للشعب السودانى الذى ظل يمارس سياسة النفس الطويل تجاه جلاديه ، ولكن ما اعنيه هو نهاية العبث  !

 

الإنقاذ ظلت ولسنوات طوال تصول وتجول فى مسرحية عبثية فاقت كل ما توصل إليه " صمويل بكيت " الذى إستعرض ملامح الحياة التى يلفها العبث ! وما مشروع الإنقاذ الحضارى إلا وجه من وجوه العبث الذى حاولت معه  الإنقاذ تغيير ملامح الحياة فى السودان .  فبدأت بترهيب البشر بالممنوعات والمحظورات . فأصبح أن تكون فى سيارتك مع زوجتك أو شقيقتك أو والدتك أو حتى جدتك ، موضع شبهة وتحرير مخالفة تساق بسببها إلى أقسام الشرطة لتقضى الساعات الطوال إلى أن تثبت أن الأنثى التى بالسيارة ليست بغرض " الفاحشة " بل لمجرد مشوار طارئ أو لوصل الأرحام ! ثم نراها تغير من جلدها وتخصص الحدائق العامة وبها مقاعد سعة أثنين أطلق عليها " حبيبى مفلس "  لتتاح للمتغزلين والمبرمجين فسحة " يشمون فيها الهوا " بعد أن ضاقت الأنفس ! ومعها صار الدين حسب مايودى الريح " كما فى أغنية العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ "

 

أرادت الإنقاذ أن تدفع بالشعب السودانى للإستغفار عن كل الذلل والمعاصى  والكبائر التى إرتكبها فى حق نفسه لتعود به مبرأ من كل الخطايا ، تماما  كما ولدته أمه ! وكان الشعب يعتقد أن رحلة العودة للطهارة هو أن يدفع دفعاً إلى لحظة ولادته ، وما كان يتصور أن الإنقاذ ستدفعه إلى لحظة ما قبل الولادة ! فمابال الإنقاذ تحاول أن تخالف طبيعة الأشياء ؟!

 

ويبقى السؤال الأهم : ماذا قدمت الإنقاذ لأمريكا من أجل أن تغير سياستها تجاه حكومة الخرطوم ؟!

 

آراء