بعيداً الأنظمة الرأسمالية أو الاشتراكية، والأيدلوجيا الحزبية يساراً ويميناً ووسطاً، والصراعات الحزبية الضيقة، والتشاكس المتوارث منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، وسياسة أركان النقاش التي تدار بها الدولة، والمكاسب الفردية أو التنظيمية الضيقة، والمتاجرة بالدين أو الطائفة أو القومية أو حتى الأممية، ومضافاً إليها الانقلابات العسكرية.. ننتظر من المؤتمر الاقتصادي القومي مخرجات مقنعة وموضوعية ومرضية. وقبل، أن نتحدث عن التوصيات المهمة التي ننتظرها بنهاية المؤتمر، علينا أن نجيب على سؤال: أين توصيات المؤتمر الاقتصادي القومي الذي عقد عقب انتفاضة مارس أبريل المجيدة؟.. وبالإجابة على هذا السؤال، نستطيع أن نضع تحدي التطبيق أمام التوصيات الجديدة التي ننتظرها بعد أكثر من 35 عاماً من آخر مؤتمر قومي.. هل ستلحق بسابقتها أم فعلاً هناك إرادة وطنية حقيقة للعبور؟. وحتى لا نكذب على أنفسنا أكثر، يجب ألا نكرر أخطاء الماضي، ونغرق في وحل المنافسة الخطابية واللغوية، ونهتم ببلاغة فلان، ولباقة علان، وشجاعة زيد، ووجاهة عبيد، وفي النهاية ينفض سامر المؤتمر، ويتحول إلى مجرد ذكريات وصور للذكرى والتاريخ، والأزمة الاقتصادية "مكانك سر". في تقديرنا، المدخل الصحيح، لمواجهة الأزمة الاقتصادية، ومعالجة تعقيداتها المتوارثة، والتي بدأت منذ السنوات الأولى من الاستقلال، عندما أخطأت النخب وسلمت السلطة للجنرال عبود تحت حجة الاختلافات الحزبية والتحديات المتمثلة في مشكلة جنوب السودان والتنمية المتوازنة. ورغم استمرار الحكم العسكري لأكثر من 50 عاماً، فشل في حل مشكلة الجنوب وفي وضع أساس اقتصادي متين وتنمية مستدامة، وها نحن نعود إلى المربع الأول لنبدأ من جديد، ومازالت ذات المشاكل لم تبرح مكانها، وكأن السودان كان في حالة "بيات شتوي" منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، واكتشفنا بعد كل هذه السنوات، أن قرار تسليم السلطة للجيش كان أكبر كارثة نجني ثمارها إلى يومنا هذا. وعطفاً على ما سبق، فإن الكلمات المفتاحية أو لنسمها بكلمات السر، لحل الأزمة الاقتصادية، هي "الدستور" و"الاستقرار"، فبدون دستور دائم يحترمه الجميع ويعبر عن التعددية العرقية والثقافية، ويستوعب كل مكونات هذا البلد، لن يكون هناك استقرار سياسي أو سلام دائم أو تنمية مستدامة، وأي قفز فوق مرحلة الدستور، لن يحل المشكلة الاقتصادية ولن نشهد اختراقاً حقيقياً للأزمة. هذا البلد حرفياً يمكن أن يكون "سلة غذاء العالم"، بما يتمتع من إمكانيات ضخمة، من أراض زراعية، ومياه عزبة، ومعادن، وثروات حيوانية وسمكية، وغابات، ومساحات شاسعة، ولكن لن يتحقق هذا الحلم بدون "استقرار" سياسي حقيقي، ووضع "دستور دائم" يحترمه الجميع، وتحميه المؤسسات العسكرية والقضائية. ننتظر توصيات شجاعة، تضع قضية "الدستور" في أولوياتها، وتنادي بإعادة هيكلة المؤسسات الموروثة منذ عهد الاستقلال، وتلزم مؤسسات الدولة بمهامها المحددة في الدستور، وتطالب باستعادة كل الشركات التي خارج مظلة وزارة المالية، وتمنع العسكريين من ممارسة التجارة والسياسة، وتجبر الجميع على احترام القانون دون استثناء. وفي تقديرنا، أي توصيات لا تتناول جذور الأزمة، ستكون مجرد مسكنات، وستذهب إلى المزبلة كسابقاتها، وسنعود مرة أخرى إلى الدائرة الشريرة، وندور في فلك الديمقراطية التي لا تكمل عامها الثاني، ليقضي عليها انقلاب عسكري يحكم بالقوة ما شاء له، ليسقط عبر ثورة شعبية، ونعود مرة أخرى إلى المربع الأول الذي نحن فيه حالياً، والآن فقط، علينا أن نقرر بشجاعة، إما العبور إلى السودان الجديد الذي نحلم به أو تعود مرة أخرى إلى أحضان الأنظمة القمعية والتخلف.. حباً ووداً..