الأزمة السودانية: بين إنهاء حرب الجنوب وإعادة إنتاج أزمة دارفور

 


 

 






في الأسبوعين الماضيين، تراوحت الإشارات المرسلة حول الأزمة السودانية بين إيجابية مبشرة بقرب إنهاء الخلاف بين دولتي السودان وجنوب السودان، وأخرى مقلقة جداً تؤكد تدهور الأوضاع في دارفور على أكثر من صعيد، إضافة إلى استمرار التدهور الاقتصادي الذي تتأثر به كل جوانب الحياة في البلاد. وفي هذا المجال، تنشط مبادرات، أبرزها مبادرة حزب الأمة القومي، لمحاولة استباق مخاوف الانهيار بمقترحات قد تحسن فرص الخروج من الأزمة.

وعلى الرغم من الغموض الذي يلف الاتفاق الذي توصلت إليه دولتا السودان وجنوب السودان في الرابع من الشهر الجاري حول تقاسم عائدات نفط الجنوب، وما تعرض له الاتفاق من انتقادات، إلا أن الاتفاق يبقى اختراقاً كبيراً باتجاه حسم الخلافات. ذلك أن النفط ظل نقطة الخلاف المحورية التي فجرت وغذت بقية الخلافات بين الطرفين، بداية من الخلاف حول عائدات النفط عقب انفصال الجنوب في التاسع من يوليو العام الماضي. عندها أصبحت كل عائدات النفط تدفع مباشرة لدولة الجنوب بدون التوصل إلى اتفاق حول نصيب السودان منها، بعد أن كانت العائدات تدفع للسودان، وكان نصيب الجنوب منها 50% بمقتضى اتفاقيات نيفاشا. ومع اقتراب نهاية عام 2011، وبداية تأثر الاقتصاد السوداني بانقطاع عائدت النفط، هددت الحكومة السودانية باقتطاع ما تراه نصيبها من العائدات عيناً من نفط الجنوب وبيعه لحسابها. وقد ردت حكومة جنوب السودان بإيقاف ضخ النفط تماماً في يناير 2012.

تصاعدت الأزمة عقب ذلك، وكان من عواقبها وقف تصدير المشتقات البترولية للجنوب، والمضي قدماً في قرار إبعاد الجنوبيين من الشمال. ردت حكومة الجنوب بتصعيد الدعم للحركات المتمردة في الشمال، ثم بالهجوم المباشر على على بعض الحقول النفطية في الشمال. أعقب ذلك تصعيد متبادل، تمثل في قيام الشمال بإيقاف كل التجارة مع الجنوب، مما سبب أزمة كبرى في مناطق عدة في الجنوب بسبب الاعتماد على الواردات الغذائية من الشمال.

من هنا يمكن أن يقال أن خلاف النفط هو أس كل الخلافات، مما يعني أن تجاوزه قد يفتح الباب لمعالجة البقية. ولكن ما يعقد الأمور هو أن التوترات الأخيرة قد خلقت دايناميات خاصة بها، وعمقت الشروخ بين البلدين، كما أنها ورطت كل طرف أكثر في دعم العناصر المسلحة المعادية للطرف الآخر. وعليه فإن جهود التهدئة ونزع الفتائل والألغام أصبحت اليوم أصعب مما كانت عليه في السابق. من جهة أخرى فإن إيجاد الحلول المرضية لبعض القضايا العالقة، خاصة قضية أبيي، لا تلوح في الأفق حالياً. وهذا ينسحب على مشاكل الحدود عموماً، وهي مشاكل وقضايا تحتاج لعقود لحسمها.

وعليه قد يكون من الحكمة تجزئة الخلافات، رغم محاذير هذا الأسلوب كما طبق في نيفاشا، وهي محاذير أشرنا إليها سابقاً. فما لا يدرك كله لا يترك جله، ومن غير العدل ترك مصير شعوب بكاملها رهينة لمسائل خلافية ذات طابع جزئي، مثل الحدود. وعليه قد يكون من المفيد للجميع إمضاء اتفاق النفط كما هو، مع عقد اتفاقيات مرحلية حول الحدود وأبيي، والتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في مناطق النزاع في جنوب كردفان والنيل الأزرق. ومن المأمول أن تؤدي الانفراجات إلى تحسن مطرد في علاقات البلدين تتجه معه الأوضاع إلى مزيد من الاستقرار والتعاون.

ولا بد أن يشمل الحل النهائي ترتيب الأوضاع الداخلية للبلدين، لأن جزءاً كبيراً من الصراع له جذور في التصدعات الداخلية. فمن الصعب مثلاً فصل العوامل الداخلية من الخارجية في صراعات النيل الأزرق وجنوب كردفان. أما صراعات دارفور، فإن العامل الداخلي يظل هو الأهم. ومن هذا المنطلق، فإن التطورات الأخيرة التي شهدتها مناطق عدة في دارفور خلال الأسابيع الماضية تنذر بتدهور خطير للأوضاع هناك. فقد تعلمنا من التجربة أن حوادث محدودة قد تتحول، بسبب سوء المعالجة إلى كوارث يتسع فيها الخرق على الراقع.

وقد بدأت تلك الأحداث من مظاهرة انطلقت في مدينة نيالا، حاضرة ولاية جنوب دارفور، في الحادي والثلاثين من يوليو الماضي، تصدت قوات حفظ الأمن لفضها بعنف زائد على ما يبدو، حيث نتج عن ذلك مقتل 12 شخصاً وإصابة المئات. ولم تمض أيام حتى تفجرت مظاهرات أخرى في مدينة رهيد البردي في نفس الولاية، حيث قام المتظاهرون بإحراق مخازن حبوب ومكاتب حكومية في احتجاج على ما يبدو على ارتفاع الأسعار وأحداث نيالا. وخلال نفس الفترة، وتحديداً في الأول من أغسطس، تعرض معتمد محلية كتم في ولاية شمال دارفور إلى الاغتيال وسرقة سيارته، ووجدت السيارة لاحقاً خارج معسكر كساب للنازحين بالقرب من مدينة كتم. وقد قامت ميليشيات من القبائل العربية التي ينتمي إليها المعتمد القتيل باجتياح المعسكر الذي يسكنه نازحون من قبائل غير عربية، مما أدى إلى مقتل العشرات وتشريد كل النازحين تقريباً. ولم تكتف الميليشيات بذلك، بل قامت باجتياح ونهب مدينة كتم، والتعرض لقوات الأمن التي اضطرت للانسحاب. وقد تدخل الجيش لاحقاً في محاولة لحفظ الأمن، بينما لم تتحرك قوات اليوناميد المناط بها حماية المدنيين في دارفور لحماية المعسكر، وإنما اكتفت بإجلاء الموظفين الدوليين من المنطقة.

الجانب الخطير في هذه التطورات هو أنها تذكر بصورة مخيفة بالتطورات التي أدت إلى تفجر أزمة دارفور في المقام الأول. ففي عام 2002-2003، تفجرت الأزمة في شمال دارفور عبر احتجاجات واشتباكات محدودة، وقد تحرك الوالي (الفريق ابراهيم سليمان، وهو وزير دفاع سابق ورئيس سابق لأركان القوات المسلحة) بسرعة لمحاورة كل الأطراف، والتشاور مع كل مكونات الرأي في دارفور، وتوصل إلى اتفاقات كانت ستحسم المشكلة في مهدها. ولكن بعض قيادات الأجهزة الأمنية تدخلت فاتهمت الفريق سليمان بالانحياز للمتمردين، ووعدت الرئيس بأنها ستحسم التمرد خلال أسبوع. وقد تم على هذا الأساس إقالة سليمان، وتصعيد النزاع عسكرياً، فكان ما كان.

وهذا يذكر بحال ولاية جنوب دارفور التي كان في قيادتها حتى وقت قريب والٍ أحسن إدارتها، مهما كانت التحفظات عليه، ورضي عنه غالبية أهلها. ولكن تمت أزاحته بصورة مفاجئة في وقت سابق هذا العام، رغم أنه كان الوالي "المنتخب"، وشنت ضده حملة إعلامية-سياسية وجهت له فيها تهم كثيرة. ثم توالت المصائب كما رأينا.

أما قضية كتم، فهي أسوأ بكثير، لأنها تذكرنا بالورطة الكبرى التي أدخلت فيها الحكومة نفسها عبر الاستعانة بميليشيات قبلية لها ثأرات مع قبائل أخرى. وهكذا قلبت مفهوم دور الدولة من كونها الحكم الذي تلجأ إليه كل الأطراف المتنازعة، إلى أحد أطراف النزاع، أو على الأقل الانحياز لطرف دون آخر. وما يلاحظ هو أن الأطراف المعنية لم تنتظر أن تقوم الدولة بالتحقيق في مقتل المعتمد وملاحقة الجناة، بل قامت بأخذ القانون بيدها، وأخذ البريء بالمذنب، ثم التهجم على الدولة نفسها. وبسبب الوضع الذي وضعت فيه الدولة نفسها، فإنها تقف اليوم عاجزة عن أداء دورها في حماية الأبرياء والمظلومين، والتصدي لمن يرتكب الظلم.

كل هذا يؤكد ضرورة إعادة نظر جذرية في المنهج الذي اتبع حتى الآن، حتى لا تقع الدولة كلها في قبضة الميليشيات غير المنضبطة، ويضيع معنى حكم القانون كلياً. ومن الأفضل للحكومة أن تدخل في حوار جدي مع كل القوى السياسية بهدف إخراج السلاح من السياسة وإعادة إعلاء شأن السلوك الحضاري الذي عرف به السودان وتميز به. وفي هذا المقام، فإن مبادرة حزب الأمة للحوار الوطني تصلح أساساً يمكن البناء عليه، وإن كانت المبادرة تحتاج إلى تطوير وتحسين لآلياتها. فلا يستقيم مثلاً أن يدعو الحزب كل الأطراف إلى حوار حول كل القضايا، ثم يستبق الحوار باتفاقيات ثنائية مع بعض الأطراف تحسم القضايا الخلافية بصورة ثنائية. بنفس القدر، ليس من المفيد الخوض كذلك في أمور هي قيد التفاوض بين الدولة وجهات أجنبية، لأن هذا يقوض موقف الدولة التفاوضي دون أن يؤدي إلى تقدم. ولكن من الضروري استمرار التحرك حتى يحقق مداه، ولكن مع معالجة العيوب التي يعاني منها.

كان من المفترض أن تكون الحكومة هي التي تتصدى لطرح المبادرات، ولكن يبدو أن موقفها من الساحة السياسية، يشبه موقفها من الناحية العدلية والعسكرية. فكما تركت الساحة للميليشيات تفرض حكمها بيدها والدولة غائبة، كذلك أصبحت ساحة المبادرات مجال فراغ تضطر منظمات المجتمع المدني، وحتى الجهات الأجنبية، للتحرك لملئها.
Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]

 

آراء